ممّا لا شك فيه أنّ البلاد شهدت ثورة عارمة ولحظة فارقة بكل المقاييس الفكرية والسوسيولوجية أسست لانكسار حقيقي لا في تاريخ تونس المعاصرة فحسب وإنّما في تاريخ الشعوب العربية التي كانت ثورة تونس الشرارة الأولى التي أنتجت وقود ثورات متلاحقة من مصر إلى ليبيا مرورًا باليمن وصولا إلى سوريا ولم تقتصر هذه الثورات على البلدان التي تعيش عطالة متفاقمة ونظاما اقتصاديا هشّا فتح الأبواب على مصرعيه لعولمة نهمة شرّع لها باسم الاستثمار الأجنبي لتبتلع خصوصيات الاقتصاديات الوطنية بإدخالها في منافسة غير متكافئة وبدون ضمانات وإنّما طالت هذه الثورات وإن لم تكن بنفس الحدّة دول الخليج المترفة ليدق ناقوس الخطر فيها. من هنا تأتي أهميّة الثورة التونسية باعتبارها تمثّل لا فقط الصدمة الأولى التي رجّت وعي الشعوب العربية وفرضت الثّورة سبيلا أوحد ضدّ الدكتاتوريات وإنّما تكشف أيضا زيف التصوّرات الأوروبية والأمريكية التي خالت ان القضاء على ما يسمى بالإرهاب والتطرّف لا يكون الاّ بتقوية هذه الدكتاتوريات لقمع شعوبها بدءا بتسييس التعلّم مرورًا بالتصحر الثقافي وصولا التي حجر كلّ فكر مختلف يروم التغيير على أرض صلبة قوامها الديمقراطية وضمان حريّات الأفراد. إنّ الثورة التونسية قد فضحت وبشكل معلن ازدواجية المنطق الأوروبي والأمريكي بين كونه راع للديمقراطية وحقوق الانسان وبين دورها الاستراتيجي في تقوية عروش الدكتاتوريات العربية وفرضهم بالقوّة عبر مدّهم بترسنات عسكرية وإيديولوجية. ولعلّ المواقف المخجلة حينا والمتباطنة حينا آخر سواء من فرنساوالولاياتالمتحدةالأمريكية حول مواقفها من الثروات المتلاحقة إبّان اندلاعها دليل على تورطها السياسي في هذه المسألة ويكفي التذكير هنا باستقالة وزيرة خارجية فرنسا على خلفية صداقتها بالمخلوع ممّا يكشف عن سوء تقدير من السياسات الغربية وضربة قوية لأجهزتها المخابرتية. كان لابدّ من هذه التوطنة حتى نقف سويا لا عن فرادة الثّورة فهذا أمر محسوم ولكن لكي نحقّق الضمانات التي تحميها من الانزلاق الى انتكاسة حقيقيّة. لذا ليس المطلوب الآن أن نفرح بها وإنّما نحدّر من المتربصين بها وأن نحمي مسارها من كلّ أشكال الرّدة والشدّ إلى الوراء. فمن البديهي أن كل ثورة تتبعها ثورة مضادة. هذا هو الصراع الحقيقي الذي تعيشه البلاد اليوم، وهي مرحلة مخاض سياسي حارق فالثورة وإن أجهزت على رأس النظام ولكن هذه العمليّة وإن نجحت في لحظتها فإنّ الخوف مشروع من حصول انتكاسة ما. هذه الانتكاسة ليست إلاّ تلك المزالق التي قد تغيّر وجهة الثورة أو أن تعيد انتاج السياسات السابقة بأشكال أخرى مختلفة. ويمكن أن نحصر هذه المزالق في النقطتين التاليتين: • الولاياتالمتحدةالأمريكية التي دعمت نظام بن علي الدكتاتوري وفساده لأكثر من عشرين سنة لا يمكن بأي حال أن تنتصر وبشكل بريء الى دفع تونس الثورة الى الأمام، هكذا وبدون مقابل. ولعلّ ما تلوّح به الولاياتالمتحدةالأمريكية من عقوبات اقتصادية تجاه مصر الآن ان فكرت في التراجع عن اتفاقية كامب دايفيد المهينة الاّ دليلا انّ دعم أمريكا العلني لتقرير المصير والحريات ليس الاّ غطاء يتناقض تماما مع سعيهار للمحافظة على مصالحها الاستراتيجية عن طريق بعض الدول الخليجية واستثماراتها المشروطة. • وقطر اليوم هي العمق الأمريكي الراغب في التوغّل في شمال افريقيا من خلال دفق الاستثمارات من جهة ووضع اليد على النفط الليبي من جهة أخرى ضمن استراتيجية جديدة وسيناريو جديد لمزيد التحكم في هذه الدول رغم ربيعها الثوري. ليس سرّا ان نقول إنّ الثورات العربيّة وإن فاجأت أمريكا لكنّها استطاعت ان تمسك مجدّدا بخيوط الهيمنة من جديد قبل تنفلت منها فليس من الصدفة ان يصعد الاسلام السياسي الى الحكم الشريك المرتقب لليبرالية والدّاعم الجديد للقوى الاستثمارية الغربية مقابل فشل مرتقب لليساريين رغم دورهم الواضح في تأطير الثورة ورسم شعاراتها النضالية باعتبارهم الخصوم التاريخيين للعولمة المتوحشة والاستثمار الأجنبي الجشع. فالإسلام السياسي اليوم قادر أن يخدم موازين القوى لصالح التدخل الأجنبي من خلال الهيمنة الاقتصادية أكثر من غيره باعتبار أنّ العالم سوق المسلم لينفتح بهذا التبرير فمُ الاطماع الخارجية. وهذا خطر حقيقي يجب التنبه إليه. إنّ خطاب النهضة وإن بدا بعد الثورة مباشرة يتجّه نحو مزيد من العقلانية والانفتاح على الآخر فإنّه لابد له أن يعيد نقد خطابه وخلق انسجام بين من يلوّح منهم بالعقلانية والتنويرية وبين من يدعو الى اقامة محاكم دينية للآخر تمهيدا لصلبهم فالخوف من هذا المنزلق الأصولي الذي تغذيه بعض النعرات هنا وهناك هو أيضا خطر داهم يجب التصدّي له حتى لا تحيد الثورة عن أهدافها الحقيقية. الثورة أعادت للشعب كرامته وحريته فليس من الهيّن أن تسحب منه من جديد باسم جلب الاستثمارات تارة أو باسم خنق الحريات تارة أو باسم خنق الحريات تارة أخرى. فتونس ليست للبيع ولا للمساومة.