لم يعد خافيًّا عن كلّ عاقلٍ أنّ سياسة استعراض القوى، هي السياسة التي تشدُّ أشرعة التقدّم إلى الأمام والمُضي قُدمًا نحو بناء الجمهورية الثانيّة بأسسها المدنية والديمقراطية وضمان العدالة الاجتماعية والاقتصادية... فعشرات الآلاف من المواطنات والمواطنين الذين احتشدوا يوم 20 مارس بشارع الحبيب بورقيبة، لم يجمعهم سوى نداء الوطن والعلم، ولم ينزلوا فُرادى وجماعات إلى شارع الشوارع ليقولوا إنّهم سيفرضون «الشريعة الاسلامية» بالقوّة على الشعب، مثلما حدث يوم الجمعة الفارطة أمام المجلس التأسيسي عندما اكتسح الراية السوداء باردو ودخلت جموع الشباب والشيوخ في «تخميرة» عقائدية. يوم مسيرة الاحتفال بالاستقلال ابّان الشعب التونسي عن عمقه الحقيقي، المتأصّل في مدينته وحضارته المنفتحة عن ايمانه الحقيقي بأنّ تحقيق أهداف الثورة هي نبراسه الذي يضيء مسيرته منذ 14 جانفي 2011. المحتفلون بوطنهم في عيد استقلاله لم يأتوا إلى شارع الحبيب بورقيبة لاستعراض قوّتهم وعددهم، ولم يقوموا بتجييش المشاعر والتحريض على تفرقة التونسيين، بل جاؤوا مدجّجين بإرث مهم من مكتسبات تونس المستقلّة (التعليم والصحة...) ولم تخامرهم أبدًا فكرة نسف تاريخ البناء الوطني الحديث (رغم هناته)... وجاؤوا أيضا للاحتفال وهم مدجّجون بالأمل لمواصلة العمل على تعزيز مكتسبات تونس المدنيّة، بما تتيحه ثورتهم من امكانات لتحرير الاعلام واستقلالية القضاء وبناء وطن يفتخر به كل مواطن حرّ ومسؤول بعيدًا عن الدولة الوصيّة على رعاياها... المحتفلون بعيد الاستقلال يدركون جيّدًا أنّ الاسلام جزء لا يتجزّأ من هويتهم المتعدّدة وليست هي الوحيدة والأساسيّة، ويدركون أنّ مجلتي الأحوال الشخصية والعقود والالتزامات مستلهمتان من الشريعة الاسلامية السِمحة، ولا يفوتهم أيضا ادراكهم لمن استخدم خطاب المدنيّة والديمقراطية مطيّة سهلة لكسب «الأغلبية» ثمّ العودة إلى جُبّته الأصلية بعد أن جلس على الكرسي... الكرسي المؤقت. إنّ المحتفلين بتونس المدنيّة يدركون أنّ كتابة الدستور الجديد لن تكون بقلمٍ واحدٍ ويدٍ واحدة لأنّْ الدكتاتوريّة تُكتب أيضا بيدٍ واحدة.