تشريح الذاكرة الإنسانية أمام عدسة الكاميرا مغامرة محفوفة بالمزالق والمخاطر، تتطلب فائضا من الحب والشغف والكثير من الحرفة والدراية خاصة إذا كانت هذه الذاكرة تنوء بحمل ثقيل من الألم والإقصاء والتهميش، مثل ذاكرة الحبيب الجويني قائد فرقة السطمبالي التي اجتهد المخرج التونسي الشاب عصام السعيدي (1983) في الاقتراب من زواياها المظلمة من خلال أول عمل سينمائي يقدمه للجمهور، وهو الفيلم الوثائقي «وايا رايى» (Waya Rayé) الذي عرض لأول مرة بقاعة المونديال بتونس العاصمة، وتم انجازه بميزانية بسيطة جدا. الفيلم يقتفي أثر عازف السطمبالي الحبيب الجويني، رجل جاوز الخامسة والستين من العمر من أم تونسية ووالد أصوله افريقية (من مدينة تمبكتو المالية المعروفة بالمدينة الأسطورة) قدم جدوده الأوائل عبر الرحلات التي كانت تقوم بها قوافل الأوروبيين خلال القرن الثامن عشر ثم تم بيعهم كعبيد في تونس. أما موسيقى السطمبالي فهي نوع من الموسيقى الأثنية ذات صبغة عقائدية تعود أصولها إلى إفريقيا السوداء، تعتمد أساسا على آلة «القمبري» وهي الموسيقى التي اختصت بها «الأقليات السوداء» بتونس وخاصة بالجنوب وهي تقترب من موسيقى القناوى بالمغرب الأقصى ومن موسيقى «الديوان» في الجزائر، غير أنها لم تحض بأي اهتمام لا على مستوى الانتشار ولا على مستوى الدراسات والحفظ، وربما من هذه الزاوية تتأتى قيمة الفيلم باعتباره يقدم مادة مهمشة ومنسية. الفيلم الذي يدوم 64 دقيقة راوح بين ذاكرة الموسيقى وذاكرة العازف، حيث اشتغل المخرج عصام السعيدي على السياقين بشكل «عادل» بين الذاكرتين لعضوية العلاقة بينهما، حيث ينقل المخرج عدسة الكاميرا بين الأمكنة ويترك ذاكرة عازف القمبري يتجول بين الأزمنة التي تنقلت به من حدث إلى آخر. المخرج الشاب اشتغل كثيرا على مستوى الصورة والموسيقى، وقد أبان عن قدرة فائقة في «ترويض» هذه التقنيات وجعلها رافدا مهما لسيناريو الفيلم، حيث وازن بين ثنائية النور والظلمة من خلال الحالات النفسية لبطل الفيلم، كما ترافقت الموسيقى، صعودا ونزولا مع حالات انشراح العازف وانقباضها. كانت فكرة الفيلم رحلة في البحث عن تلك الأصول لعازف يشده الحنين إلى أصول عائلته وموسيقى طائفته لكن الفيلم اخذ منحى آخر أثناء التصوير وهو إضافة شخصية الابن الصغير للحبيب الجويني من إحدى زوجاته الثمانية والذي يمثل تواصلا بين الماضي والحاضر والمستقبل بحمله لنفس رغبة والده ومشروعه الفني، ولا يفوت المخرج في هذا السياق من الإحالة المباشرة على العراقيل التي تعترض مسيرة البطال في تأمين تواصلا بينه وبين ابنه من خلال الصد الذي يلاقيه من طرف مسؤول معهد الموسيقى العربية والمتوسطية أين «تنام» آلة القمبري الأولى التي ادخلها والده إلى تونس، حيث يصاب الحبيب الجويني بحالة يأس وإحباط لعدم تمكن ابنه من مشاهدة تراث جده وهو المجبول على حمله بأمانة حتى لا يندثر.