منذ أن أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل عن قرار «تنظيم احتفالات عيد العمّال العالمي في غرّة ماي في شوارع تونس وبالتحديد في شارع الحبيب بورقيبة التزاما بثوابت الثورة وتأكيدا على الدفاع عن حق التظاهر والاحتجاج». منذ الاعلان عن ذلك تصاعدت ضدّه حملة تشكيك وتشويه، خفية تارة ومعلنة أطوارًا أخرى.. وتركّزت هذه الحملة على إثارة الفزع في صفوف الشغالين وعموم التونسيين، وأنذر بعضهم بيوم مرعب يفوق فيه العنف أضعافا وأضعافا ما حدث في ذات الشارع يوم 9 أفريل 2012 حينما نزل التونسيون للاحتفال بعيد الشهداء فجوبهوا بالقمع والتنكيل. وأصبحت عبارة «ربي ايقدّر الخير» هي كلمة السرّ بين التوانسة وساد جوّ من التوجس والحذر والخيفة.. كلّ هذا وهياكل الاتحاد تعمل بصمت وتصميم وثقة للإعداد لهذا العيد ليكون يوم عرس.. ولعلّ البعض قد أدرك أنّ الحملة لم تزعزع من ثقة النقابيين في خبرتهم وفي قدرتهم على التعبئة والتأطير، فتنادوا بالدعوة للمشاركة في الاحتفال بدعوى «الوحدة الوطنية».. وقد رحّب الاتحاد بتلك الدعوات بعيدًا عن النوايا ورجا أصحابها الالتزام بالاحتفال تحت راية الاتحاد صاحب الدعوة إلى الاحتفال. وجرت غرّة ماي بسلام: عرس حضرته الأغلبية عن طواعية ووعي وحبّا في الاتحاد وفي تونس فاصطحبوا عائلاتهم ورفرفت الاعلام واللاّفتات في أيديهم بحرية وتعالت الشعارات والاهازيج والنشيد الوطني من أصواتهم مدوّية قوية موحّدة.. فاستعادوا شيئا من الفرحة التي اختطفت منه منذ مدّة فلم ينعموا بها رغم إنجازهم لأعظم ثورة. لكن البعض حضره كمن تحضر «عرس ضُرّتها» على حدّ تشبيه احد المواقع الالكترونية! كان عرسا حقا عددًا وعدّة، كَمًّا وكيفًا، شكلا ومضمونًا فلم تفسده بعض المشاحنات الغريبة، ولا المشاهد المعزولة لمجموعات التطبيل التي تسارعت بعض الكاميرات، على عادة حليمة القديمة، الى التقاطها وتقييمها تغطية على غيرها من المشاهد، إمّا لتبرئة الذمة او للاشارة إلى أنّ هرسلة الإعلام قد أفرزت الولاء والطاعة.. مرّ العرس بسلام وخير وكان يومًا مشهودًا.. زخم بشري وزخم نقابي وزخم فكري وزخم سياسي وزخم ثقافي ليؤكد شارع الحبيب بورقيبة الشريان الرئيس للعاصمة رمزيته التاريخية ومشروعيته النضالية: لقد تحوّل هذا الشارع يوم غرّة ماي إلى فضاء رحب تمارس فيه الحريّة بما فيها الاستفزازية! بكلّ حرّية... كان كالمنتدى وأثبت فيه النقابيون والشغالون وعموم التونسيين رقيّهم الحضاري في كنف من الانضباط والمسؤولية مع قدرة فائقة على ضبط النفس.. وأكدّوا أن شعار الوحدة الوطنية ممارسة ميدانية بالدّرجة الأولى وأنها لا يمكن ان تتحقق إلاّ في مناخ ديمقراطي يتمّ فيه الاعتراف بالآخر وقبول الرأي المخالف واحترام مبدأ أن الحرية حقّ طبيعي للجميع وان التفرّد بالرأي واعتماد سياسة الإقصاء ومحاولة إلغاء المختلف وتغليب الهيمنة على التشارك والتوافق وانتهاج اسلوب المكاييل. لا يمكن ان تؤسس للوحدة الوطنية بل للاستبداد والدكتاتورية لا نريدها وحدة وطنية على شاكلة ما مارسته النازية في ألمانيا وكرسهُ حزبا الدستور والتجمّع في تونس.. نريدها وحدة وطنية ترعى الحرية وتحفظ الديمقراطية وتضمن حقّ الاختلاف والتنوّع والتنافس الشريف والنزيه في إطار التعددية الواسعة ولا تصادر معها الحقوق ولا يُجرّم النقد ولا تكفّر المعارضة ويتحرّك فيها المجتمع المدني بكل حرية واستقلالية وتنمو فيها الحياة السياسية بعد تصحّر عقود من القهر والظلم... وتعالج ضمنها الملفّات والقضايا في فضاء رحب من الحوار والتشارك... هذا هو مفهومنا للوحدة الوطنية. وتلك ممارستنا التي دأبنا عليها داخل الاتحاد العام التونسي للشغل فضاء للتعدّد والتنوّع.. لتمتين الوحدة داخله.