لعلّ من الأخطاء الكبيرة التي وقعت فيها أغلب برامج الأحزاب السياسية في تونس، هي إدراج معضلة البطالة وآفاق التشغيل كأهداف استراتيجية، ذلك أنّ قضيّة التشغيل لا يمكن أن تحلّ إلاّ في إطار سياسة تنموية شاملة يأخذ فيها البعد الاقتصادي مداه على الصعيد المادي أو اللامادي. لذلك ارتفعت معدلات البطالة والمظاهر السلبية الناتجة عندها بمجرّد تداعي المستوى التنموي وعدم القدرة على فهم البنى الذهنية والنفسية لشريحة الشباب في تونس في غياب دراسات سوسيولوجية تقدّم الإجابات العلمية بمنأى عن تدخل السياسي أو الحزبي أو الايديولوجي. في هذا الإطار التقت «الشعب» الدكتور محمّد الجويلي أستاذ علم الاجتماع والمدير العام للمرصد الوطني للشباب. • إلى أي مدى يمكن الحديث عن شخصيّة قاعدية لدى شريحة الشباب في تونس وماهي أبرز مميّزات هذه الشخصية؟ إنّ مفهوم الشخصية القاعدية، لم يعد قادرًا على تفكيك مميزات شريحة الشباب في تونس الآن، وقد حسم الأمر سوسيولوجيا من خلال مقال شهير لبيار بورديو la jeunesse n'ai qu'un mot وفيه بيّن أنّ الشباب بالصيغة الجمع ماهي الاّ تلوينات مختلفة وطموحات متعدّدة ومسارات فردية متباينة، لم يعد ينظر الآن إلى الشباب كما كان بقدر ما ينظر الآن إلى الشباب بوصفه اختبارا ومواجهة لوضعيات معقدة ومفاوضة مستمرّة لانجاح تمشٍّ يختاره الشباب لحياته. • خلال مرحلة ما قبل الثورة برزت إخلالات تنموية بين الجهات وبين الفئات، ما تأثير ذلك على الجانب المدني والحضاري في السلوك العام لشريحة الشباب؟ إنّ الخلل التنموي قد مسّ كلّ فئات المجتمع وكلّ جهاته، بما في ذلك الاحياء العشوائية بالمدن الكبرى بما فيها مدينة تونس، والخلل التنموي يعني أيضا عدم قدرة الفاعلين بما فيهم الشباب على تطوير سلوك مدني يتناسب مع المرحلة لأنّ المدنية شرط من شروط التنمية. فالمدن الكبرى في العالم قد تطوّرت اقتصاديا بالتوازي مع تطوّرها اجتماعيا ومدنيا مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية التي يعدّ فيها المجتمع المدني قويا ومنظّما كقوّة الاقتصاد الأمريكي على جميع المستويات، وشهدنا مع هذا البلد ما يسمّى la gouvernance civique (الحوكمة المدنية) يعني هذا أنّ المجتمع المدني يشارك إلى جانب الحكومة في ادارة دواليب الدولة بما يمثّله من قوّة ضغط، وقوّة مقترح. وباستطاعته كذلك اسقاط الحكومة أو تصعيدها. إنّ أكبر رهان في مثل هذه المجتمعات هو الانسجام مع مكوّنات هذا المجتمع المدني، وبالعودة إلى تونس، شهدنا مرحلة كان فيها المجتمع المدني ملحقا بطريقة أو بأخرى بالمجتمع السياسي. ومثلما تداخلت الدولة وهيمنت على كلّ القطاعات فإنّها سعت إلى الهيمنة على المجتمع المدني، ولكن بعد 14 جانفي بدأ الشباب التونسي يتحرّك ضمن المنظومة المدنية مسجّلا بذلك غيابه عن المنظومة السياسية التقليدية أو المتعارف عليها. ولا ننسى أنّ 6٪ فقط من الشباب التونسي، سجّل في القائمات الانتخابية لانتخابات 23 أكتوبر، ولم تتجاوز مشاركته فعليا 10٪. قام المرصد الوطني للشباب بالتعاون مع الجمعية التونسية للعلوم الاجتماعية التطبيقية بصبر للآراء ل 1200 شاب من كامل جهات البلاد، أيّاما قبل الانتخابات وسجلنا النتائج التالية: 22٪ فقط من الشباب حضروا على سبيل الفصول اجتماعات حزبية، 75٪ من الشباب يعتقدون انّ الحكومة هي المسؤولة على تنظيم الانتخابات ويكشف هذان الرقمان على موقف شبابي من العمل السياسي الرسمي وعوّضوه بأشكال أخرى من المشاركة وبتصريف آخر للمشاركة السياسية أهمّها الممارسة المدنية عبر الجمعيات أو الاحتجاجات، مثلما وقع في عديد البلدان الأوروبية ومنها اسبانيا تحت عنوان les indignés بمعنى الساخطون وهو ما يؤشر إلى بروز حركات اجتماعية شبابية جديدة بقليل من الايديولوجيا وبكثير من التعامل الحدثي مع ما يرونه مساسا بوضعيتهم. • شكّلت الملاعب الرياضية خلال السنوات الماضية إطارًا واسعا للتنفس الجماعي لدى الشباب بما كان يؤشر لتنامي ظاهرة العنف، هل تعتبر الملاعب الرياضية الإطار الذي نظّم شباب الثورة للثورة على النظام السائد؟ إذا لم تكن الرياضة كل المجتمع موجود في الرياضة، يدفعنا هذا إلى القول إنّ الظاهرة الرياضية وكرة القدم على وجه الخصوص يمكن أن تكون مفتاحًا نفهم من خلاله تناقضات المجتمع واخلالاته. ما لاحظناه منذ 10 سنوات أو أقل إعادة تشكّل بعض الشباب ضمن حركة اجتماعية جديدة، هي حركة ULTRAS هذه الحركة الشبابية تكشف عن شكل جديدة من التجربة الاجتماعية يكون الشاب داخلها قادرًا على أن يعيش نمطا من الحياة وان يواجه اختيارات متعدّدة يكون هو فيها المركز دون اكراهات التنظيمات التقليدية ومنها بالخصوص التنظيمات الحزبية. انّ سهولة الحركة التي يتمتّع بها الشاب ويجدها عندما ينضم الى مجموعات ULTRAS، تدفع به إلى التحكم في اختياراته دون وصاية أبوية مع ما تسمح بهن هذه المجموعات من تطوير وتفعيل لرأسمال عاطفي يحرّكه الشاب ويستعمله من أجل التعبير عن مواقفه بما في ذلك المواقف السياسية. مكّنت هذه المجموعات هؤلاء الشباب منذ 2008 خصوصا من امكانية مواجهة عنيفة وقوية مع الأجهزة الأمنية الموجودة في الملاعب، وتدريب على إلغاء حاجز الخوف ما جعلهم يعتقدون أنّ ما يقومون به يدخل ضمن سياق نضالي من أجل التعبير على الرأي، لم تكن هذه المجموعات بمنأى عن الشأن السياسي وفي آخر سنة 2010 بدأت مقولات حقوق الانسان الجزء المهم والمعلن في أغاني هذه المجموعات كتعبير عن رفضهم لحالات القمع التي تعرّضوا إليها. الوضع مشابه في مصر، ولكن بأكثر اندماج لمجموعات ULTRAS في الشأن السياسي، ففي مصر تعتبر هذه المجموعات فاعلا سياسيا بارزًا في ميدان التحرير. • في السنة الدولية للشباب التي أقرّتها الأممالمتحدة أسقط الشباب النظام السياسي الذي اقترح هذا البرنامج هل أنّ تباين الخطاب عن الممارسة السياسية من شأنه أن يفقد الشباب الثقة في الأحزاب السياسية وفي أي نظام سياسي؟ لم يكن النظام السابق قادرًا على فهم سيوسيولوجي لدى ما يعتمل داخل فئات الشباب بكل تلويناتها. لقد اعتقد النظام السابق ان تمدرس الشباب وحصوله على ديبلومات وانخراطه في منظومة الحداثة، تجعله مكتفيا بمجاراة الوضع والتعامل معه بشكل براغماتي ولكن النظام السابق قد نسي ان ما يدفع بالشاب إلى الغضب والاحتجاج والسخط على أوضاع البطالة هو ما يسمّى بظاهرة الاحباط النّسبي تعني هذه مقولة ذلك الفارق بين تطلّعات الشباب وما يتصوّره ممكنا بالنسبة إليه من جهة، وبين ما يحصل عليه فعليا في الواقع اليومي. فكلّما ارتفعت درجات الرجاء والتطلّع وقابلتها من جهة ثانية درجات عالية من الاحباط، إلاّ وكان ذلك دافعا إلى الاحتجاج وبقوّة وصلت حدّ المساهمة في تغيير النظام. • من من الشريحتين أقرب إلى الثورة الشباب المتعلّم والعاطل أم الشباب غير المتعلّم والعامل؟ من خلال مقولة الاحباط النسبي تعتقد أنّ الشباب الحاصل على ديبلومات هو الأقرب الى الثورة على النظام، لأنّ شعوره بامكانية الوصول الى مبتغاه كبير، والامكانيات المتوفرة لديه تسمح بذلك وهو ينظر الى ما يحدث في العالم المتقدّم. هذا القرب من المبتغى وعدم التمكّن منه هو الذي يُقوّي درجة الاحتجاج. في حين انّ الشباب غير الحاصل على ديبلومات مستكين في هذه الحالة بشكل عام لوضعه مقتنع انّه «يستحق وضعه» مجازاة لعدم قدرته على مواصلة الدراسة وفقدانه لمهارات تؤهله للعمل، كلّ هذه المعطيات قد تضعف درجة احتجاجه ولا تجعله بالقوّة التي نجدها لدى الشباب المتعلّم. ولذلك اختارت هذه الفئة من الشباب (غير الحاصلة على ديبلومات) شكلا آخر من الاحتجاج قد لا يخرج السلطة السياسية بشكل غير مباشر وهو الهجرة خلسة نحو أوروبا. هناك اذن شباب حاصل على ديبلوم يعتقد أنّ مكانه موجود في بلده وعلى السلطة السياسية ان توفّر له ما يناسبه من عمل وبين شاب آخر غير متعلم يعتبر انّ عليه البحث عن حلّ خارج حدود الوطن. • تأخّر سنّ الزواج لدى الشباب هل يمكن اعتباره من العناصر المؤثرة في تحقيق التوازن العاطفي والاجتماعي وفي الدفع نحو إلغاء كلّ الضوابط الاجتماعية؟ تأخّر سنّ الزّواج 29 سنة للاناث و34 سنة للذكور، يكشف عن نقلة ديمغرافية وسيوسيولوجية دالة مرتبطة بالتمدرس وبموقف الشباب من مؤسسة الزواج ويحرّك كلّ هذا نزعة فردانيّة نحو تحقيق الذات ليس بالضّرورة مرتبطا بالاقتران، ولكن تبقى مؤسسة الزواج مهمّة لدى الشباب، ولكن بتعريف مغاير يكون فيه الشاب صاحب الاختيار مسؤولا عليه باحثا عن جدواه. • ألا يعتبر الانغماس الكلّي في الدين والمخدرات شكلا من أشكال الاغتراب؟ أمام وضع البطالة التي تعيشها نسبة مهمة من شباب تونس، تصبح السلوكات الخطرة دافعا بالأزمة إلى الأمام وتأتي في مقدّمتها ظاهرة المخدّرات المعبّرة عن رغبة في التعالي عن الوضع القائم وخوض تجربة جديدة تنسى الشاب واقعه المؤلم. وهذا ما يفسّر وجود هذه الظاهرة بشكل ملفت في الاحياء الشعبية كشكل احتجاجي على البطالة والتهميش، وهؤلاء الشباب لا علاقة لهم بالشأن السياسي من بعيد أو من قريب، فقد اختاروا طريقة احتجاجهم عبر تدمير الذات وهي أعنف أشكال الاحتجاج الممكنة. أمّا الظاهرة الثانية هي أشكال جديدة من التدين بمختلف تلويناتها السامي منها والعنيف، فإنّها تكشف هي الأخرى عن رغبة في «تديين» الاحتجاج واعطائه الصبغة الروحية. وفي ذلك تعبير عن اختيار فردي لأسلوب في الحياة يجعل الشاب قادرًا على طمأنة نفسه وهو يقوم بالفعل الاحتجاجي.