بمناسبة الذكرى 56 لانبعاث الجيش الوطني ونظرا إلى الدور الريادي الذي لعبته المؤسسة العسكرية منذ ميلادها والمتمثلة في حماية النظام الجمهوري ومؤسسات الدولة والدفاع عن حرمة الوطن من العدوان الداخلي والخارجي والمساهمة الفعّالة في البناء التنموي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي ونظرا إلى الموقف المشرف الذي وقفه الجيش التونسي اثناء ثورة الحرية والكرامة وانتصاره لأبناء الشعب على حساب منظومة الاستبداد والفساد رأينا ان نفتح زاوية على المؤسسة العسكرية من وجهة نظر بحثية من خلال دراسة للباحثة بدرة قعلول استاذة علم الاجتماع وعلم الاجتماع العسكري، تحاول رصد منظومة التكوين العسكري الاكاديمي من حيث الخصائص والمعوّقات والآفاق وتؤكد على دور المدارس التحضيرية العسكرية التونسية في ضمان الكفاءة العسكرية والمهنية للجيش التونسي وخطورة إلغائها. إن ما يدفعنا إلى التطرق لموضوع التعليم العالي العسكري في تونس بوصفه منظومةَ تكوين عسكري و أكاديمي هو أهمية هذا القطاع في تكوين الضباط والعسكريين من الناحية العسكرية والمهنية وكذلك في بناء الهوية و المرجعية النفسية والاجتماعية والعسكرية بصفة خاصة وللتمشي المؤسساتي للمؤسسة العسكرية التونسية بصفة عامة. خصوصية التكوين العسكري التونسي فلا يخفى على أحد بأنّ التكوين العسكري التونسي في اغلب فتراته منذ الاستقلال له خصوصية الكفاءة العسكرية والمهنية، فهو جيش اتسم بالانفتاح على المدارس العسكرية العالمية الأكثر تقدما وديمقراطية. فتجدنا أمام جيش جمهوري غير مؤدلج بل هو جيش موغل في الانصهار وفي الالتزام للوطن وللمؤسسة العسكرية مع الكفاءة العلمية و المهنية. فهو جيش يعتمد نظام التجنيد و المهنية في نفس الوقت. في أبحاثنا حول منظومة الجيش التونسي وخصوصيته باعتباره جيشا جمهوريّا مقارنة بالجيوش العربية يمكن إسناد صفة الحياد والديمقراطية رغم عديد النقائص التي كان مصدرها السياسة البورقيبية منذ 1962 وسياسة بن علي منذ وصوله للحكم وخاصة الإقصاء والتهميش المادي و المعنوي منذ 1992 لتصبح المؤسسة العسكرية مجتمعا مغلقا حول ذاته مجردا من آليات التعامل والهيكلية الاجتماعية و للعلائقية مع المجتمع المدني والانفتاح والسلوكيات الديموقرطية وهذا الانغلاق المبالغ فيه يعتبر من أهم النقائص في المؤسسة العسكرية التونسية. التكوين العسكري والعلمي داخل المنظومة العسكرية التونسية أما في ما يخصّ التكوين العسكري والعلمي داخل المنظومة العسكرية التونسية فان شعارها هو جيش جمهوري للدفاع على حرمة الوطن من العدوان الداخلي والخارجي والمساهمة في البناء التنموي من الناحية الاقتصادية والاجتماعية. فهو جيش يحمل طابعا نموذجيا ذا تجربة لها خصوصيتها الثقافية وذلك من خلال بناء الهوية العسكرية التونسية عند العسكريين وخاصة الضباط، فالهوية هي مجموعة من الصفات والمفاهيم النفسية والاجتماعية، فهي شعور داخلي من خلال تكوين اجتماعي أو ما يسمى في علم النفس الاجتماعي بالتنشئة الاجتماعية، وهذه المرحلة من اخطر المراحل التي تتكون وتبنى فيها الهوية الفردية والاجتماعية العسكرية وروح الانتماء إلى المجموعة أو ما يسمى بالانتماء والمعيش الهوياتي. فالشعور بالانتماء إلى الهوية العسكرية ينقسم إلى عديد الأحاسيس الداخلية لدى الفرد: مثل الشعور بالانسجام والتفاهم داخل المجموعة وذلك باتباع نسق ديناميكيتها، بالانتماء، بقوة الثقة المكتسبة داخل النسق المؤسساتي والثقة المنظّمة داخل المؤسسة ومجموعة الانتماء. من خلال أبحاثنا السوسيولوجية حول المؤسسة العسكرية التونسية لاحظنا هذه الروح الانتمائية للمؤسسة العسكرية والالتزام الوطني تحت شعار الحياد وعدم الانخراط ضمن الولاءات الضيّقة سواء الايديولوجية أو السياسية أو النظامية أو لأشخاص، وهذا ما يحسب للجيش التونسي رغم نقائصه، (هذا ما لاحظناه ولاحظه العالم خلال الثورة وما بعد ثورة 14 جانفي إلى أن يأتي ما يخالف ذلك). فبناء الهوية عند العسكريين يعتمد بالأساس على المعيش داخل المؤسسة العسكرية والتكوين العسكري، وبهذا يكون قد انطبعت فيه روح الانتماء وخصوصية الهوية العسكرية والتفكيرداخل إطارالالتزام الوطني المؤسساتي، ومنهايجدر الاعتراف بهوية فردية واجتماعية لها تاريخها داخل نسق المؤسسة بممارسة سلوكيات عسكرية وثقافة عسكرية تونسية تنسجم وروح الانتماء والعقيدة والحيادية التامة والولاء للوطن وعدم الانسياق وراء ولاءات ضيقة إيديولوجية سياسية وخير مثال يجب الاعتبار منه لتفادي السقوط في المتاهات مثال التجربة العسكرية الإيرانية، الباكستانية والاندونيسية، وكذلك التجارب العسكرية العربية وخاصة مصر والجزائر... أهمّ ركائز التكوين العسكري التونسي من أهم ركائز وأقوى أسس التكوين العسكري التونسي وخاصة تكوين الضباط كمشروع مسؤولين عسكريين في المستقبل هو الاعتماد على المدارس والاكادميات العسكرية والمدارس التحضيرية العسكرية، إذ أن عملية الاستقطاب والاندماج والتكيّف النفسي والاجتماعي وبناء الهوية العسكرية وروح الانتماء تبدأ في سن مبكرة من عمر18 و19 سنة. فالمدرسة التحضيرية العسكرية هي عبارة عن تحضير نفسي للاندماج والإقبال على الخدمة العسكرية واجبا وطنيا ونسقا عسكريا في مرحلة أولى، ونسقا علميا وكفاءة مهنية بدرجة ثانية. ولهذا أثبتت التجارب في علم النفس العسكري ضرورة الدخول في سن مبكرة للمؤسسة العسكرية حتى تضمن أولا سرعة وسهولة الاندماج داخل المؤسسة العسكرية دون ميولات أو نزاعات ايدولوجية يعني دون لون سياسي يمكن أن تتسبب في انتكاسات نفسية وتمرد ومشاكل داخل مجموعة الانتماء والخروج عن المنظومة السلوكية داخل المؤسسة العسكرية والكل يعرف خصوصية المجتمع العسكري لما يحمله من ضوابط وقيم وسلوكيات وثقافة عسكرية خاصة مبنية بالأساس على ضوابط مؤسساتية عسكرية. إن الدخول في المؤسسة العسكرية التونسية لتكوين الضباط يبدأ بعد الحصول علي شهادة ختم الدروس الثانوية بمعدل «جيد» و«جيد جدا» و يبدأ في عمر بين 18و19 سنة يعني في المرحلة الأخيرة من فترة المراهقة (تنقسم سن المراهقة إلى ثلاث فترات) وهي فترات حرجة في تكوين الشخصية وبروزها يعني تبني عملية التنشئة الاجتماعية والميولات الاجتماعية وتبني التركيبة الاجتماعية بوصفها مرجعية سلوكية وقيمية. مع العلم أن الفترة الأخيرة تسمي «بفترة الفلسفة الوردية لدى المراهق» يعني بعد فترات المراهقة الأولى والثانية التي تتسم بالتمرد والرفض والانكماش والتعرف المادي للذات ندخل في منعرج البحث عن فلسفة للحياة في اغلبها ذات توجه ورديّ واعتبارات اجتماعية ونفسية من خلالها يقتلع الفرد الاعتراف من الآخرين بسلطة وجوده بوصفه فردا فاعلا يؤثر ويتأثر وفي تفاعل انسجامي داخل النسق الاجتماعي وفي مجموعة الانتماء لديه. من هنا تكون الأرضية الملائمة لاستقطاب الشباب فتجدهم ينزلقون في مزالق التيارات الفكرية والدينية والسياسية في الكليات والجامعات المدنية و هذا يعتبر خطرا ونقطة فصل بالنسبة إلى تكوين الشباب في تلك المرحلة. وبهذه المعطيات هل يعقل أن نلغي المدارس التحضيرية العسكرية باعتبارها نقطة بداية التزام الفرد للعمل والانضمام داخل النسق العسكري باعتباره قاعدة لتأسيس وبناء الهوية العسكرية والالتزام داخل المنظومة العسكرية ؟ تداعيات إلغاء المدارس التحضيرية العسكرية إن هذا القرار يضع الشاب «ذلك المراهق» داخل أرضية مهيأة لتجاذبات فكرية وإيديولوجية وألوان سياسية، فالتحضير داخل المؤسسات التعليمية المدنية هو تحضير علمي وتحضير للانخراط داخل المنظومة المدنية لا تمتّ بصلة لتحضير عسكري والتزام عسكري ووطني بالمفهوم العسكري والجمهوري. إن إلغاء المرحلة التحضيرية فيه نوع من المغامرة لمستقبل المؤسسة العسكرية ولتكوين الضباط، ففي هذا التحوير نوع من عدم الأخذ بعين الاعتبار للنقاط الايجابية لهذه التجربة وإفراغها من محتواها العسكري الخصوصي لتدخل في نسق عسكري ومدني ونسق المهنية العسكرية التي أثبتت فشلها داخل اكبر المؤسسات العسكرية في العالم «فرنسا، الولاياتالمتحدةالأمريكية» إذ أن مفهوم التجنيد والالتزام العسكري لم يعد موجودا داخل المنظومة الفكرية والنفسية للعسكري (اليوم هناك عديد الأبحاث بصدد الانجاز لإيجاد الحلول) فهو يجعل من العسكري مشروع رأسمالي فاشل مفرغ من روح الانتماء والثقافة العسكرية مشبع بروح الارتزاق والمهنية الجافة فتجدنا بهذا النموذج أمام عسكري مفرغ من القيم العسكرية له تقاليد وقيم المهنية الرأسمالية التي أعلنت فشلها على جميع الأصعدة وخاصة الصعيد الإنساني والهوية لدى الأفراد والمجموعات إذ تجدك أمام عسكري انتهازي، جشع، عسكري مؤدلج عنصري، عسكري جبان، ليست له عقيدة عسكرية بل له عقيدة مهنية مادية بحتة وهنا يكمن الخطر داخل المؤسسة العسكرية خاصة وان وهؤلاء هم مشروع قادة ومسؤولين. من أخطر المشاكل التي تطرح اليوم في المؤسسات العسكرية الكبرى العالمية هي بروز عديد الظواهر الاجتماعية المحرجة والصراعات الاجتماعية والنفسية والعزوف عن الاندماج العسكري التي أصبحت تمثل مصدر قلق لدى أصحاب القرار، فالعسكري عبر تاريخ الإنسانية و في التشريع الديني والإنساني يجب أن يتحلى بأخلاقيات عالية إنسانية يحترم الذات الإنسانية يحترم القانون وسلطته قانونية قبل أن تكون سلطته عسكرية مسلّحة وهذا وجدناه وبان خلال الأزمات وفي الثورة التونسية، إذ لاحظ الجميع اتزانا إنسانيا وأخلاقيات عسكرية كبري. فما الذي يدفع المؤسسة العسكرية إلى التخلي وهدم عمود فقري في التكوين العسكري؟ هل هي الناحية المادية التي ستخسرنا في جيلين أو ثلاثة لنستفيق بأنها كانت تجربة غير حكيمة؟ ربما اذهب إلى الإصلاح في البرامج والأقسام التعليمية وخاصة إدراج برامج ووحدات تعليمية في العلوم الإنسانية. إما إلغاء المدارس التحضيرية فسوف يجرّنا إلى خلق مشروع مؤسسة شبه مدنية تتسم بالطابع المهني لا العسكري. مؤسسة تنقص ضبّاطها ركائز التحضير النفسي والاجتماعي لخدمة الوطن بعيدا عن المزايدات السياسية و الإيديولوجية الضيّقة بمعنى مؤسسة هشّة بالمفهوم العسكري، وتونس في هذه الفترة والسنوات القادمة تطلب مؤسسة عسكرية قوية من الناحية الإنسانية قبل الناحية التقنية والمهنية (المهنية في المستوى العملي المدني لها من الايجابيات أكثر من السلبيات، أما على المستوى العسكري فالعكس صحيح). مخاطر الاستقطاب الأيديولوجي على المؤسسة العسكريّة ونرجع إلى وحدة التحليل لدينا، فبعد نجاحه في «الباكالوريا» والتوجيه نحو التعليم العالي ستجد «الشاب يستعدّ للمرحلة الانتقالية في تركيبة شخصيته ومنها يبحث عن أرضية إيديولوجية يقف فوقها فيستقطب داخل نسق فكري واجتماعي وسياسي ترضي ميولاته الفكرية وتركيبته الاجتماعية وتنشئته الاجتماعية الأولى والثانية ليدخل مرحلة التنشئة الاجتماعية الثالثة أين تبدأ بروز الشخصية ذات التوجّه السياسي والإيديولوجي. وان الكليات والمدارس العليا هي خير مكان وهي المرتع الكبير للتفكير والتجاذبات والنشاطات السياسية. فمنذ السنة الأولى تقريبا تجده قد استقطب وتشبّع بفكر معين إما تيار ديني بشتّى مساراته المعتدلة والمتطرّفة، أو تيار يساري تحت شعار العدالة الاجتماعية والثورة ضد الفقر وحق الغني في الفقير، أو تيار رأسمالي فيه الغاية تبرر الوسيلة... آسفة لأقول بأنّ هذا الطالب سوف يخلق معضلة انتمائه في وقت ما لأنها قضية تركيبة شخصيته ووجوده فردا اجتماعيا يحمل انتماء. فهو سوف ينخرط داخل المؤسسة العسكرية بتوجهاته وانتماءاته ليصبح في المستقبل فاعلا ومسؤولا عسكريا وليطالب بجيش حسب ميولاته وانتماءاته فيصبح جيشا دينيا(إيران،اندونيسيا، إسرائيل...)أوجيش متسلط سياسيا واقتصاديا (الجيوش العربية) أو جيش مرتزقة (الجيوش الإفريقية والأوربية) ونماذج عديدة غيرها. وبهذا سوف تكون الولاءات والدخول في متاهات سياسية موالية للنظام أو لأفراد أو تدخل في صراعات من اجل السلطة السياسية والمادية لا تحمد عقباها. سبل إصلاح المنظومة التكوينية والتعليمية العسكرية إن الإصلاح داخل المنظومة التكوينية والتعليمية العسكرية لا تتمّ بإلغاء المرحلة التحضيرية العسكرية في سن مبكرّة، فالإصلاح لا يعني الهدم وخاصة أن المدرسة التحضيرية تعتبر من أعمدة البناء للمؤسسة العسكرية التونسية (فهدم ذلك العمود يعني هدم المنظومة العسكرية عموما، فلا يقام بناء دون أعمدة). فالنظر بعمق للأمور ودراسته على المدى المتوسط والبعيد هو الحل لإصلاح المنظومة التكوينية العسكرية التونسية من الداخل. وان ما لاحظناه داخل المؤسسات التونسية بصفة عامة هو الهدم وليس البناء وهذا ما يجعل نسق ودينامكية التقدم ضعيفة. ثمّ إن الأخذ بتجارب الآخرين جيّد لكن يجب دائما مراعاة الخصوصية الاجتماعية والتركيبة المؤسساتية فليس كل ما يطبّق في مجتمعات أخرى يمكن إسقاطه داخل مجتمعنا هنا لا نراعي خصوصية مجتمعنا وظرفيته التاريخية. كما أشير في آخر تحليلنا أن التعليم العالي العسكري في البلدان الغربية يشهد اليوم جدلا كبيرا وهو في أزمة على جميع الأصعدة، وهناك عديد الأبحاث والدراسات لإعادة النظر والإصلاح داخل المنظومة العسكرية (خاصة من الناحية المهنية التي غاب فيها طابع الالتزام العسكري) فلا نسقط تجاربهم الشبه فاشلة. كما أن النماذج العسكرية داخل البلدان التي تسمح بالإيديولوجيات والانتماءات الفكرية والسياسية (إيران، باكستان،اندونيسيا) هي اليوم في جدل وصراعات داخل المؤسسة العسكرية والسلطة السياسية