الحاجّة شريفة السعداوي، امرأة من زمن لم يسمع به أغلبنا، زمن الفعل دون حسابات ضيّقة، دون شعارات سياسية مفرغة من معانيها ودون نقاش عقيم لا يقدّم ولا يؤخّر. «شريفة السعداوي» امرأة تأتينا من زمن كان فيه الولاء لتونس فقط، كان فيه البحث عن الكفاءة قبل لون الانتماء، كان فيه النضال في سبيل الحريّة والاستقلال والتمثيل المشرّف لتونس بعيدا عن المطالبة بالتعويضات والمزايدة على سنوات السجن. صدفة تعرّفت إلى هذه المرأة، فهالني حجم التعتيم الذي لحق مناضلينا وحجم التحجيم الذي لحق بتاريخنا القريب. تاريخ يتجرّد من نبض الشارع، يتجرّد من اليومي ليكتب فقط صفحات باردة في مجملها، مدرسيّة في أغلبها، رخاميّة جافة رسميّة. وكان الفضل في التعرّف إلى «الحاجّة شريفة» إلى الصديق الأستاذ «المنذر المرزوقي» الذي صدر له مؤخرا كتاب عن المناضل «حسن السعداوي»، والذي عاش يدافع عن حقوق العمّال في وجه الاستعمار الفرنسي وانتهى في مركز للأمن، زمن الاستقلال، يدافع عن العمل والعمّال أيضا. ولم تكن “الحاجة شريفة" إلاّ زوجة هذا المناضل الكبير الذي تسكت كتب التاريخ الرسميّة وشبه الرسميّة عن الحديث عنه أو تكاد، لنكتشف أنّها أيضا قد تجاهلها التاريخ وهي المناضلة التي شاركت في العمل السياسي ضدّ المستعمر الفرنسي وهي صاحبة أوّل جواز سفر لتونسيّة مسلمة وهي التي مثّلت تونس في المؤتمر العالمي للحركة النسائيّة ببرلين سنة 1950. و«الحاجّة شريفة»، شيوعيّة المنبت والهوى، كان والدها أحد كوادر الحزب الشيوعي التونسي زمن الاستعمار، وكان زوجها، «حسن السعداوي»، صديق والدها ورفيقه في الحزب والنضال، فزوّجه ابنته ابنة الأربع عشرة سنة. لتنطلق حينها رحلة كفاح طويلة لم يكن هدفها مناصب في الدولة ولا تعويضات على سنوات الكفاح والحرمان والمطاردة. وإنما الغاية الأسمى كانت تحرير الوطن ونحت سبيل لرقيّه وتقدّمه. ولم يبخل المناضل «حسن السعداوي» على زوجته بالعلم فأوكل أمر تعليمها إلى معلّم خاصّ يشرف على تعليمها نهارا ويتكفّل الزوج، رغم محدودية تعليمه، بالمراجعة لها ليلا وذلك قبل أن يفتح لها مجال المشاركة في العمل الوطني والنقابي. فانخرطت الحاجة شريفة في الحزب الشيوعي التونسي وانضمت إلى الهياكل المنبثقة عنه فكان انخراطها في الاتحاد النسائي التونسي التابع للحزب الشيوعي التونسي، ومثّل هذا الانتماء بداية لمسيرة من النضال أخذت أشكالا عدّة وصادفت أجواء الحرب العالمية الثانية.. وتمثّل نشاط «الحاجّة شريفة» في عقد الاجتماعات بالنساء التونسيات لتوعيتهن بضرورة العمل الوطني والمشاركة في الحياة السياسية والنضالية لتحرير الوطن، وساهمت صحبة نساء تونسيات غفل التاريخ الرسمي عن ذكرهن في النضال الوطني دون سقوط في ثنائية الرجل والمرأة فقد كانت الغاية تجمع كل القوى القادرة على الإفادة دون اختزال لأحد الاطراف في خانة دون أخرى.. وقد كانت النساء التونسيات حينها على وعي كبير بالمسألة الوطنية والقومية، كما كان لهنّ حضور في المحافل الدّوليّة باعتبارهنّ فاعلات في المجتمع السياسي والنقابي لبلدهنّ الرازح تحت الاستعمار.. وضمن هذا الإطار كانت مشاركة «أمّي شريفة» في المؤتمر العالمي للحركة النسائيّة المنعقد في برلين للمرة الأولى سنة 1950، وهي التي لم تتجاوز حينها العشرين من عمرها.. ، ولم يمثّل أبناؤها الثلاثة عائقا أمام سفرها ضمن الوفد التونسي المشارك في المؤتمر والمتكون من ثلاث نساء.. ولم يمنع «أمي شريفة» من أن تكون صاحبة أوّل جواز سفر لتونسية مسلمة في ذلك الحين. وقد حرص المناضل المرحوم «حسن السّعداوي» أن يذكّر زوجته بأنّها تمثّل تونس، وعليه فيجب أن تحمل زيّ هذا البلد في محفل دوليّ تحضره النساء من كلّ أصقاع العالم مباشرة بعد أن حطّت الحرب العالميّة أوزارها. وأشار إليها أن تضع «السفساري» التونسي و«الرخامة» ما إن تحطّ الطائرة وتهمّ هي بالنزول. وهكذا كان.. فقد نزلت «الشابة شريفة» درجات الطائرة تحمل عبق تونس وزيّها التقليديّ المميّز لتتلقّفها عدسات المصوّرين والصحافيين الألمان ويجعلوها على الصّفحات الأولى لصحفهم رمزا للأصالة القادمة من ثنايا تونسالمدينة والمنفتحة على مدنيّة جديدة والباحثة عن الحريّة لشعبها الثائر. ولم تكتف “الشابة" بالحضور بل ألقت كلمة باسم الوفد التونسي في هذا المؤتمر العالمي الذي حضرته نساء من ألمانيا وروسيا وإيطاليا وكبريات دول العالم. وكانت لها فرصة معاينة الدّمار الذي ألحقته الحرب بألمانيا الشرقيّة ومعاينة بناء جدار برلين الفاصل بين الألمانيّتين. وقد سعى المضيّفون حينها إلى التأثير في المؤتمرات وذلك بأخدهم إلى محرقة اليهود، وقد يكون ذلك بهدف إبراز بشاعة الحرب كما قيل لهن حينها وقد يكون بهدف حشد التأييد لتوطين اليهود في فلسطين خاصّة والهجرة إلى الأراضي العربية كانت مستعرة حينها. ورغم تأثّر«الشابة شريفة» بذلك المكان فإنّها حال عودتها إلى تونس سارعت إلى عقد اجتماع في الحفصية تدعو فيه اليهود التونسيين إلى عدم السفر إلى فلسطين لأنّ توطين اليهود هناك هي مؤامرة على الشعب الفلسطيني برعاية أنقليزية، فاليهود تونسيون لهم وطن ينتمون إليه، وسفرهم إلى فلسطين هو مصادرة لأرض الآخر، غير أنّ أغلب اليهود الحاضرين ثاروا ضدّ هذا الخطاب وحاولوا الفتك بها، ممّا اضطرها إلى الالتجاء إلى بيت إحدى منخرطات الحزب الشيوعي التي خبّأتها قبل أن يتمّ تهريبها ليلا إلى بيتها. وما تزال ذاكرة «أمّي شريفة» حيّة نابضة وهي تسترجع صفحات من النضال الوطني، تجوب أسواق تونس رفقة إحدى عشرة حرّة تونسيّة تتخفين تحت «السفساري» تحملن العلم التونسيّ، وكلّما وجدن دكاكين مفتوحة أخرجن أعلامهنّ يلوّحن بها ويدعين إلى الإضراب العام «فقد اغتيل حشّاد». ثمّ يركضن إلى الأزقة الفرعية بعيدا عن ملاحقة شرطة الحماية لهنّ. ولم يسلّمن حتّى أمّنّ الإضراب العام في الحاضرة تونس. لم يكن حينها يشغلهنّ هاجس “المكمّلة" ولا «المساوية»، كنّ بين جنود تونس، يجتمعون على وحدة الهدف وضرورة الرقيّ بالبلاد والرّفع من مستوى المجتمع، لم يمنعها خوفها على أبنائها، ولم يردّها بطش المستعمر، أخذت عن زوجها الإيمان بالقضايا العادلة من تحرير وسلم اجتماعيّ وصون لحقّ العمّال ودفاع عنهم. وقرنت وزوجها الإيمان بالعمل، فكانت امرأة عاملة إلى جانب نشاطها النقابي والوطني، فعملت في مستشفى شارل نيكول لتساهم إلى جانب زوجها في العناية بأبنائهما. ولم تتخلّ «الحاجة شريفة» عن عملها «النضالي» بين كوادر الحزب الشيوعي التونسي، كما لم يتراجع المناضل «حسن السعداوي» عن خطّه النضالي بعد الاستقلال، وهو ما جعلهما في صراع دائم مع السلطة القائمة انتهى بإيقاف نشاط الحزب الشيوعي، وتحجير العمل عن المنظّمات التابعة له بالنّظر بما في ذلك اتحاد «الحاجة شريفة» كما انتهى بالمناضل «حسن السعداوي» إلى الاستشهاد في مركز للأمن سنة 1963، ليترك زوجة في كفالتها ثمانية أبناء، ولا دخل لهم غير ما تتقاضاه هي من عملها بالمستشفى ولتبدأ بذلك رحلة كفاح جديدة في تربية أبنائها رغم الحصار الذي تعرضت له وحرمانها من جواز سفرها وعدم الاعتراف للمرحوم « حسن السعداوي» بأيّ فضل أو حتى بجراية تقعّد. «أمّي شريفة السعداوي» لا تطلب غير نفض الغبار على التاريخ النابض لهذه البلاد الطيّبة وإعادة الاعتبار لمن سعى إلى إعلاء شأنها والرقيّ بها رجالا ونساء. وهي تستحقّ اعترافا بالجميل لما كانته منذ أربعينات القرن الماضي تاريخ انضمامها إلى الاتحاد النسائي التونسي. فألف تحيّة إلى الحاجة «شريفة السعداوي» وإلى حرائر تونس في كلّ زمن.