لعلنا لا نبالغ حين نقول اننا وكثيرون مثلنا كلما خططنا حرفا أو فتحنا ملفا أو نقدنا سلوكا أو كشفنا حقيقة أو نصرنا مظلموما، الا ووضعنا أيدينا على قلوبنا من عقاب ينتظرنا من هذا المسؤول أو ذاك، ولا نتحدث هنا عن القضايا المرفوعة ضدّ الاعلاميين، بل عن إجراءات المنع والحرمان والتضييق والمحاصرة التي يمارسها، هؤلاء الذين يضيقون ذرعا بالحق، ضدّ وسائل الاعلام عموما... وضدّ الصحف خاصة وللتدليل على ذلك سنكتفي بذكر ردود الفعل المتشنجة لوزير النقل ضدّ جريدة الشعب، الوزير المعروف بخطبه النارية ضدّ الاتحاد والمشهور بتشبيك علاقاته مع كل من يعادي الاتحاد... سلوك نرجو أن يكون فرديا وليس توزيعا للأدوار... والذي لم يتوان منذ اشهر عن قطع اشتراكات وزارته في جريدتنا ومنع اي اشهار عمومي فيها صادر عن مصالح وزارته... إن هذا التصرف قد طال مسؤولين كبارا آخرين عرفوا في السابق بارتفاع منسوب الديمقراطية في دمائهم حتى فاقت نسبة الاكسوجين! هم ايضا أصابتهم العدوى أو لعلهم كانوا مؤهلين لذلك وضاقوا ذرعا بالنقد وتبرموا وكتموا الغيض ثم ترجموه حصارا وتضييقا وتشكّيا في كل محفل بمناسبة ودون مناسبة... إن هذه الوضعية ليست خاصة بجريدة الشعب، فكثير من الصحف تعاني مثل هذه الممارسات أو أكثر... وبعضها اضطر للإذعان والرضوخ، وبعضها كان مؤهلا مسبقا لتقديم الولاء والطاعة كما كان يفعل في السابق، وعدد منها مازال يحاول الصمود في وجه العاصفة رغم الاضرار التي لحقته... ولقد لعب الفراغ القانوني طيلة السنتين الماضيتين دوره في سيادة قانون الغاب وانتشار ظاهرة المحاباة وسيطرة ممارسة تأليف القلوب في المجال الاعلامي لمحاولة اعادة تشكيل مشهد اعلامي موال للسلطة الحاكمة يلعب فيها كل من المال العمومي والمال السياسي دورا كبيرا في التصنيف على أساس الولاء أو الخصومة ان لم نقل العداء... ولئن كان قرار تفعيل المرسومين 115 و 116 رغم ما فيهما من نقائص وفراغات خطوة ايجابية لسدّ الفراغ القانوني الذي سمح سابقا بسيطرة فوضى الغاب، فإن تجسيد التفعيل ضمن جملة من الاجراءات العاجلة، نراه مهما جداً ومؤكدا تماما وأهم هذه الاجراءات تشكيل الهيئة التعديلية المستقلة للإعلام السمعي والبصري وتعديل القانون بإحداث هيئة تعديلية مستقلة للصحافة المكتوبة والالكترونية تسهر على تخليص قطاع الاعلام بتفرّعاته من أي هيمنة وتضمن استقلاليته وحياديته وموضوعيته وحرفيته وتؤمّن التوازن بينه بعيدا عن جبروت النزعة التسلطية للسلطة وبمنأى عن الطبيعة الاحتكارية لطغيان المال السياسي وخاصة منه الفاسد... إن معركة تحرير الاعلام قد بدأت مناوشاتها الأولى منذ عهد الاستبداد، ودفع كثير من الاعلاميين ثمنها تضحيات، وقد أرست ثورة الكرامة والحرية بدايات الانتصارات فتحققت بفضلها أهمّ انجازاتها، لكنها انتصارات عرفت انتكاسات بسبب استمرار الضربات التي توجهها بعض الاطراف لحرية الاعلام قصد الهيمنة عليه وبسبب تواصل سلوكات الاذعان والخضوع من بعض الاعلاميين لسلطانْي المال والسلطة... ومن يظنّ أن هذه المعركة قد انتهت فهو واهم... لذا وجب على الشرفاء من الاعلاميات والاعلاميين، وهم كثرٌ، أن يواصلوا دفاعهم عن شرف مهنتهم وعن استقلاليتها، واليقظة عند تفعيل القوانين وفرض استحقاقات ثورة الحرية ومنها ضمان حقّ النفاذ الى المعلومة وتأمين حرية التعبير وحرية الاعلام، ولعل أحد ضمانات ذلك هي الاستقلالية الادارية والمالية لوسائل الاعلام والعدالة أمام القانون وأمام المال العمومي عند سداد الالتزامات أو عند نيل الحقوق... ولن لا يُضطرّ الحرّ الى الأكل بثدييه...