ملفات عدة مازلت تنتظر الحلول في الميدان الاعلامي، ولعل أبرزها ملف الاشهار العمومي، الذي يحتل صدارة القضايا المتصلة بالمشهد الاعلامي التونسي. فالاشهار العمومي بما يمثله من دخل مالي قادر على تجاوز بعض صعوبات الصحافة المكتوبة، مازال حكرا على مؤسسات اعلامية دون غيرها، ولم يشهد حلولا الى اليوم رغم أنه تم الغاء العمل بوكالة الاتصال الخارجي التي كانت ذراعا للنظام السابق للهيمنة على وسائل الاعلام والتحكم في خطها التحريري من خلال تكليفها بدور توزيع الاشهار العمومي. تواصل غياب الضوابط والعدل في توزيع الاشهار العمومي، عرض عديد الصحف اليومية والأسبوعية الى ضائقات مالية كبيرة قد تؤثر في مستقبلها، بل ان نداءات استغاثة تصدر بين الحين والاخر من مؤسسات اعلامية عريقة وجديدة في السوق احتجاجا على غياب الانضباط لقوانين الشراءات العمومية، وبوجود محسوبية وولاءات سياسية أحيانًا تتدخل وتسلط نفوذها على مسألة توزيع الإشهار العمومي. وتطالب المؤسسات الاعلامية، اضافة الى الهياكل الممثلة للقطاع، الحكومة الحالية باتخاذ إجراءات عملية وفعّالة لإيجاد حلّ شفّاف وقانوني ينقذ الصّحف الصادرة بعد الثورة، ويساوي بين مكونات المشهد في حقها في الاشهار العمومي. من المسؤول؟ الحديث عن الاشهار العمومي وتوزيعه على مختلف المؤسسات الاعلامية يحيل المسؤولية مباشرة الى الدولة، وهو موضوع مازال الى اليوم لم يتم ضبطه، فبعد حل وكالة الاتصال الخارجي التي كانت الهيكل الوحيد الذي يوزع الإعلانات الاشهارية العمومية تعاظم الجدل حول من سيخلف هذه الوكالة لتنظيم توزيع الإشهار. ونظرا لغياب الاطار التشريعي والمؤسساتي، تسابقت الصحف والمؤسسات الاعلامية المرئية والمسموعة لتحصيل نصيبها من هذه المادة التي تدرّ سنويا حوالي 100 مليون دينارا على وسائل الإعلام عموما بما فيها التلفزات والإذاعات والصحف اليومية والأسبوعية . ويبدو أن الوزارات والمؤسسات العمومية تعتمد اليوم في توزيع إعلاناتها الإشهارية على معيار نسبة توزيع الصحف رغم ضبابية هذا الموضوع وتلجأ عموما إلى الصحف الأكثر انتشارا لتضمن لمادتها الإعلانية الرواج المطلوب، ومعيارا اخر يفترض أن لا يؤدي نشر الاعلانات في تلك الوسائل الاعلامية الى خلق مشاكل مع السلطة السياسية؟؟ والى الان فان السلطة الحالية تعتبر غير متحمسة لايجاد حلول في هذا الموضوع بل يذهب عدد من ممثليها الى التملص من المسؤولية عبر اتهام الهياكل المعنية بالقطاع بأنها لم تطرح اقتراحات واضحة في هذا المجال. فراغ تشريعي وتملص الوضع الحالي الذي يعيشه قطاع الاعلام يشهد فراغا تشريعيا تاما ينظم هذا القطاع، وذلك نظرا لعدم تفعيل المرسومين عدد 115 و116 المتعلقين بحرية الصحافة اللذين كانا ثمرة عمل جدي من قبل الهيئة الوطنية لاصلاح الإعلام، رغم وعود السلطة الحالية بتفعيل المرسومين. وأدى هذا الفراغ التشريعي، الى تفاقم ملف توزيع الاشهار العمومي، حيث أن نسبة كبيرة من مكونات المشهد الاعلامي لا تحظ بنصيبها من هذه المادة، وتؤكد الهياكل المعنية بقطاع الاعلام على غرار النقابة الوطنية للصحفيين وجمعية مديري الصحف على أن المطلوب من الدولة ليس أن تكون لها أدوار رقابية، وانما دورا حمائيا خاصة للصحافة المكتوبة وذلك بايجاد حلول عملية تضمن العدالة في توزيع الاشهار العمومي بينها. من جانبها تعتبر الحكومة أن ملف الإشهار العمومي يعتبر من أكثر الملفّات تعقيدا، مؤكدة على ضرورة صياغة الهياكل الممثلة للقطاع مذكرّة معايير موحّدة يمكن من خلالها للجهات المعنية تحقيق التوزيع العادل للإشهار. اقتراحات تم الاتفاق بين ممثلي السلطة الحالية وممثلي القطاع الاعلامي المتكون من النقابة العامة للثقافة والاعلام والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين وجمعية مديري المؤسسات الاعلامية في لقاء تفاوضي سابق على تقديم مقترحات حول الهيئة التعديلية للإعلام تسلم إلى المجلس الوطني التأسيسي وعلى تشكيل لجنة مشتركة حول الإشهار العمومي من أجل توزيع عادل للإشهار بين وسائل الإعلام. وتدعو النقابات الممثلة للقطاع الى تركيز اطار للحوار والتشاور بين الحكومة والهياكل الممثلة للقطاع تجتمع دوريا في انتظار احداث الهيئات التعديلية الضامنة لحريّة الصّحافة والتعبير والإبداع واستقلاليّة الإعلام العمومي. من جانبها تدعو النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين أن تكون من مهام الهيئة التعديلية تدقيق أعداد السحب والتوزيع والبيع للدوريات وتكوين بيانات من شأنها ان تنظم عملية توزيع الاشهار العمومي وذلك ضمانا للإنصاف بين كل المتدخلين. وتدعوالنقابة الى ان يتضمّن القانون المزمع سنّه حول الاشهار بندا خاصا يتضمّن وضع آليات من شأنها توفير الدعم العمومي للمشاريع الجديدة والهادفة مع وضع قواعد نهائية تنظّم توزيع الاشهار العمومي والذي يجب ان يتم في كنف الشفافية الكاملة. من جانها دعت جمعية مديري الصحف الى بعث لجنة مؤقتة متكوّنة من الوزارة الاولى وجمعية مديري الصحف والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين وذلك لدرس ملفات الصحف التي تمر بأزمة مالية في انتظار تقنين وهيكلة الاعلام.. محاباة ولا يشك اثنان في أن توزيع الاشهار العمومي على الوسائل الاعلامية يجري وفق محاباة بعض المؤسسات الاعلامية اذ أن هناك صحفا رأت النور اثر الثورة تتمتع بنصيب كبير في هذا المجال، من ذلك أن جريدة الفجر الناطقة باسم الحزب الحاكم «حركة النهضة» تتحصل على مادة اشهارية عمومية تغطي أكثر من 10 صفحات ، بينما تحرم صحف أخرى تماما من هذا الاشهار وبالتالي عائداته. كما تواصل بعض وسائل الاعلام التقليدية احتكارها لنصيب وافر من هذا الاشهار العمومي، ويعمد بعض مالكي الصحف الى الحصول على نصيب مؤسسته من هذا الاشهار عبر طرق مشبوهة وغير واضحة في ظل غياب الهيكل والاطار القانوني. من جانب اخر، يؤكد المتابعون للمشهد الاعلامي أن بعض المؤسسات العامة لا تمتلك خبرة في ميدان الاشهار، وهي تعمد الى نشر مادتها الاشهارية دون أي دراية بالمشهد الاعلامي ولا بنسب توزيع الصحف. الأخطار كثيرة هي الأخطار قد يسببها تواصل واقع توزيع الاشهار العمومي على وسائل الاعلام على حاله، فقد يؤدي ذلك الى احتكار مؤسسات بعينها لهذا الاشهار ويمكنها من أموال طائلة ويتواصل اهدار المال العام كما كان عليه الشأن أيام تولي وكالة الاتصال الخارجي بهذه المهمة. و يسبب حرمان بقية المؤسسات الاعلامية من مداخيل هذا الاشهار في غلق عدد منها، وهو ما الت اليه عدد من الصحف على غرار صحيفة «الأولى» التي أغلقت بعد أن شهدت عجزا ماليا فادحا، وقد يكون نفس المصير متربصا بمؤسسات اعلامية ناشئة توفر مواطن شغل عديدة لتقنيين وصحفيين ومؤثثة للمشهد الاعلامي الجديد الذي مازال في حاجة الى تكريس تعددية حقيقية ومهنية ترتفع بالقطاع الى مستوى تطلعات المواطنين بعد الثورة. ولكن الأخطر قد يكون في الالتجاء الى المال السياسي والى رأس المال المشبوه الذي يبغي التحكم في سياسة تحرير بعض المؤسسات وهو ما من شأنه أن يعيد الاعلام الى ما قبل 14 جانفي، ويجعل من الاتجاهات التحريرية لتلك المؤسسات وفق أجندات مشبوهة لا تحمد عقباها.