النقابيون، الحقوقيون، الناشطون، السياسيون، أهالي سليانة جميعهم ينادونه، «سي نجيب» وذلك لا يعود فقط إلى موقعه ككاتب عام للاتحاد الجهوي للشغل بسليانة، بل لكونه مربّ وصاحب رفعة اخلاق وهدوء طبع ومزاج قلّما نجده عند مسؤول تهبّ من حوله العواصف العاتية وتهتز من كلّ جنباته الأمواج الهائلة. أفنى جزءًا من عمره في النضال النقابي وقد يفقد ما بقي منه في حادث مرور مروّع عندما كان يهمّ للاستجابة إلى نداء الواجب النقابي. اليوم يتحرّك مستعينًا بعكازه فلا يهدأ... رمزيته عوّضت قلّة حركته.. فقاد مع رفاقه ملحمة سليانة التاريخية، نلتقيه اليوم في الحوار النقابي لنكشف عن جملة من مساراته النضالية وعن واقع المدينة بأهلها البواسل. خلال الأسبوع الماضي، ضربت سليانة موعدًا مع التاريخ لترسم عناوين بارزة في النضال وفي التحضّر. فكيف تنقل إلى الرأي لعام الوقائع من مواقع متقدّمة؟ بداية إنّ احداث سليانة قد كانت أساسا نتيجة ما أُعلن عنه من مناظرات خاصة بالتعليم الأساسي والتعليم الثانوي ونوّاب المعلّمين حيث كانت النتائج كالتالي: التعليم الأساسي من 1400 = 7 معلّمين مقبولين فقط من سليانة التعليم الثانوي من 1500 = 15 أستاذ مقبولين ومن 1000 نائب 10 مقبولين فقط من سليانة علما وأنّ أكبر نسبة في النيابات موجودة في سليانة بعدد 450 نائبا. وقد كانت هذه النتيجة بمثابة الصدمة بالنسبة إلى حاملي الشهادات العليا إلاّ أنّه تبيّن بعد تصريح وزير التربية أنّ هناك تجاوزات قد وقعت أي أنّ آخر مجموع على المستوى الوطني بالنسبة للنوّاب هو 22,5 وعلى مستوى سليانة هناك نوّاب لهم مجموع 34,5 ومع ذلك لم يقع انتدابهم زيادة على أنّنا قد اعتبرنا أنّ هذه السنة الدراسية هي الأسوء في التاريخ، فهناك مدارس بلا معلّمين وأبناؤها لا يدرسون في العديد منها اضافة إلى غياب مديري المدارس. وعلى اثر هذا الحيف المتعمّد تجاه الجهة كان القرار بتنفيذ اضراب بين اسلاك التربية يوم 22 سبتمبر 2011 وكان الاضراب ناجحًا على جميع المستويات حيث وقع تجمّع هائل أمام الاتحاد الجهوي للشغل ثمّ الانطلاق إلى مقر الولاية حاملين لافتات الاتحاد العام التونسي للشغل وشعارات كانت بالأساس ذات طابع اجتماعي تطالب بالتنمية والتشغيل والتوزيع العادل للثّروة. شهدت مدينة سليانة عديد الأحداث التي انطلقت شرارتها الأولى باعتقال المحتجين في 26 أفريل 2011، وباعتقال شباب مكثر وتواصلت مع بعض المسيرات السلمية والاحتجاجية، غير أنّ السلط الجهوية لم تقدّم ولو حلولاً جزئية، فكيف تقرؤون هذا الصّمت تجاه المطالب الشرعية للجهة؟ بالفعل، إنّ القضيّة 206 بتاريخ 26 أفريل 2011، كانت أساسا وليدة احتقان شعبي، امتدّ إلى مؤسسة أمنية يقولون أنّه وقع ائتلاف محتوياتها فكان الردّ قمعيا وعنيفًا ووحشيا إلى أبعد الحدود. فريق من القرجاني يداهم المنازل ويروّع الأهالي ويأخذ عنوة العديد من الشباب الذين لم تثبت ادانتهم وهم قابعون إلى حدّ اليوم في السجون وكانت القضايا تعرض على المحاكم المدنية. كما وقع توجيهها إلى المحاكم العسكرية، وحسب اعتقادنا تبقى هذه القضايا سياسية بالأساس، و17 شهرًا وهؤلاء الشباب بالسجون دون محاكمة. فكان مطلب من مطالب الاتحاد الجهوي بسليانة أن تنظر العدالة في هذه الملفات باستقلالية تامة وفي آجال قريبة حتى يتمكّن الموقوفون من معرفة مآلهم، وهم الآن مضربون على الطعام. أمّا في مكثر، فكانت زيارة رئيس الدولة والوعود التي صرّح بها وأطلقها من بعث مشاريع بالمعتمدية والتي لم تر النور إلى حدّ هذه الساعة ومع تفاقم البطالة وزيادة على عدم التواصل مع معتمد مكثر وعدم خلاص عملة الحظائر، احتقن الجو العام، فكانت المسيرات السلمية والتجمع أمام مقر المعتمدية ومطالبة المعتمد بفتح باب الحوار والاستماع إلى هموم أهالي مكثر. وكانت الاحتجاجات أيضا مطالبة برحيل المعتمد الذي لم يرغب في الحوار بل عكس ذلك تقدّم بقضيّة كيدية ضدّ ثلاثة شبّان بايعاز من الوالي السابق (أحمد الزين المحجوب). فكانت المطالبة من الاتحاد الجهوي والمجتمع المدني وأهالي الجهة كذلك باطلاق سراحهم فورًا لعدم صحّة الدعوى القضائية المرفوعة ضدّهم. أربع مراسلات من أجل عقد جلسة تفاوض، لكن «الوالي المخلوع» واجهها بصمت مطبق وبعد أن وقع ما وقع فماذا ربح الوالي وماذا خسرت سليانة؟ سليانة برجالها النقابيين، ساهموا مساهمة عظيمة في المسار الثوري، وكلّنا جميعا فاعلين في التهدئة بعد 14 جانفي بالتفاعل ايجابا مع الوالي الأوّل بعد الثورة ثمّ الوالي الثاني السيد منصف الخميري، نتحاور ونتجادل ونحاول ايجاد الحلول. وعند تعيين السيد أحمد الزين المحجوب انتظرنا ما يقارب الشهر دعوة منه لعقد جلسة، لكن لم يتم ذلك فقمنا بالخطوة الأولى ومراسلته بتاريخ 5 مارس 2012 ثمّ تلتها مراسلات أخرى دون جدوى. لكن واجهنا الوالي بصمت مطبق ودون ردّ، وبقيت مشاكل العمّال، تنتظر حلولا في جلسات تفاوض بالضرورة يكون فيها للسلطة الأولى بالجهة دور مهمّ فقمنا بمراسلة الأخ حسين العباسي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل والأخ الأمين العام المساعد المسؤول على النظام الداخلي نورالدين الطبوبي لضرورة التدخل في عقد جلسة عمل وفتح قنوات تواصل مع السلطة الجهوية واللذين تدخّلا لدى السيد وزير الداخلية لتعقد جلسة يتيمة ظلّت الأولى والأخيرة. فالوالي برفضه التعامل الاتحاد العام التونسي للشغل، فوّت فرصة علينا جميعًا لحلّ اشكالات عاجلة، يمكن أن يستفيد منها عمّالنا في الجهة. والأمرُّ في كلّ هذا أنّ الوالي لا يستقبل المواطنين الذين كانت انتظاراتهم كبيرة لتخطّي حاجز الفقر المدقع الذي يعيشونه إلى ما بعد الثّورة وكلّف مدير مكتبه ليحلّ محلّه في الإلتقاء بالمواطنين دون تسوية فعلية لمطالبهم ودون استجابة لاحتياجاتهم. وقد كانت هذه المسؤولية أكبر من حجم مدير المكتب، حيث أصبح الآمر والنّاهي في مركز الولاية: سليط اللسان ولم يكن يتجاوب حتى مع أقرب الموظفين في ادارة الولاية. ومن هنا، بدأ الاحتقان إلى يوم الحادثة، حيث توجّه إلى مكتب الكاتبة العامة للنقابة الأساسية للسلك المشترك لمركز الولاية، مستعملاً الفاظانابية فنهته عن ذلك الكاتبة العامة، فما كان منه إلا أن صفعها ودفعها بقوّة ممّا استوجب نقلها إلى المستشفى الجهوي بسليانة من قبل الحماية المدنية. فكان أن وقف العمّال والأعوان والعملة في وقفة احتجاجية رمزية داعين الوالي إلى محاسبة المعتدي حيث رفض الوالي استقبالهم معلّلا ذلك عبر وسائل الاعلام المرئية بأنّه شجار بسيط بين عونين!! ممّا زاد في حالة الغليان، وكان قد تحوّل الاحتجاج إلى اعتصام آزرته الهياكل النقابية ومواطنون مطالبين برحيل الوالي ومدير مكتبه. وبقدوم هذا الوالي لم تربح سليانة أي شيء بل خسرت كلّ شيء، والدليل على ذلك احصائياتهم الرسميّة والتي تتمثّل في أن المشاريع في سليانة قد تأخّرت في مدّة 7 أشهر الأخيرة بالثلث عمّا كانت عليه سابقا!! هل للأحداث الأخيرة انعكاسات ايجابية على مستقبل العمل النقابي بالجهة؟ بالفعل، فإنّ الأحداث الأخيرة قد عرفت حالة قصوى من الاحتقان وكان الاتحاد هو قبلة أهالي سليانة المفقرين والمهمشين والمعطّلين عن العمل الذين وجدوا فيه مظلّة تدافع عن همومهم ومشاكلهم. لئن سيذكر التاريخ أنّ «انتفاضة الرش» ستقترن بالمدّة النيابية لنجيب السبتي، فكيف تستشرف العمل النقابي وواقع التنمية في الجهة مستقبلا؟ سليانة جريحة، سليانة تتألم لأنّ الأمن المستقدم أفرط في استعمال القوّة ونكل بالأهالي نساء ورجالا بطرق متنوّعة من الوحشيّة باستعمال الرش والقنابل المسيلة للدموع وألوانا من التعذيب، فكانت الاصابات البليغة وكان فقدان البصر والحركة العضوية لبعض من شبابنا الذين طالبوا في مسيرات سلميّة ومؤطرة من طرف النقابيين بالتشغيل والحياة الكريمة والتنمية، فكانوا أن جنوا الاعاقة الأبدية. ومنذ تولى المكتب التنفيذي الجديد المسؤولية النقابية في 2009 وإلى حدود هذه اللحظة، قد تزايد عدد المنخرطين والمنضوين تحت لوائه وكان التشاور هو السمة البارزة في علاقتنا بهياكلنا النقابية، وكان العمل النقابي الجاد هو شعارنا من النضال والانعتاق نحو الحرية والديمقراطية. وما يمكن أن تجنيه سليانة على المستوى التنموي هو بأيادي الحكومة الحالية التي بالضرورة أن تكون قد فهمت الدرس ووصلتها الفكرة لانتظارات أهالي سليانة ومواطنيها بالرّغبة الملحة في التنمية العادرلة وتشغيل المعطلين والتوزيع العادل للثروات. بعد أن أفنيت جزءًا كبيرًا من عمرك في العمل النقابي وبعد أن كدت تفقد ما بقي منه ماهي أبرز الرسائل التي توجهها إلى جيل النقابيين الشبّان في سليانة وفي المناطق المفقرة بالأساس؟ كنت أبحث على بطاقات انخراطاتي في المنظمة العتيدة التي استشهد من أجلها زعماء نذكر من بينهم الزعيم حشاد الذي نحيى ذكراه الستين يوم الاربعاء 5 ديسمبر 2012. لقد ناضلنا في صلب هذه المنظمة خلال أزماتها سنة 1978 وخلال محنتها سنة 1985 وكنّا نعيش الأزمة كلّ مرّة ونخرج منتصرين رغم العذابات والجراحات والمرارات والمعاناة، ولم نتخلّ لحظة عن مبادئنا وقيمنا. وتضحياتنا، مهما كبرت تبقى صغيرة وقليلة أمام حجم المنظمة وعراقتها. واليوم الاتحاد العام التونسي للشغل يزخر بطاقات شابة ستكمل المشوار والمسار وتحافظ على شعاراته ومبادئه. هل يوجد من عائلة الأخ نجيب المصغرة من سيأخذ المشعل عن أبيه النقابي والحزبي والمناضل؟ أنا أب لثلاث بنات واحدة مهندسة الأولى رباب عاطلة عن العمل والثانية ستتخرج من شعبة الهندسة هذا العام وأجدهما سندًا عاطفيا وعائليا قويا عند المحن. وبنت ثالثة «زينب» وهي التي ترافقني في كلّ لحظة مع والدتهم المناضلة السيدة نعيمة المربية الفاضلة بالتعليم الأساسي. لقد كن جميعا لي سندًا خصوصا عندما تعرّضت إلى حادث مرور أليم ومروّع. وبالمناسبة أتوجّه بالشكر إلى كلّ من تعطاف مع محنتي من نقابيين وحقوقيين ومن أهالي سليانة جميعا.