إصابة 8 جنود سوريين في غارة صهيونية على مشارف دمشق    القصرين: اكتشاف أول بؤرة للحشرة القرمزية    الجامعات الغربية تخاطب النظام العالمي الأنغلوصهيوأميركي.. انتهت الخدعة    بايدن يتحدى احتجاجات الطلبة.. "لن أغير سياستي"    بجامعة لوزان..احتجاجات الطلبة المؤيدين لفلسطين تصل سويسرا    أبناء مارادونا يطلبون نقل رفاته إلى ضريح في بوينس آيرس    مجاز الباب.. تفكيك وفاق إجرامي مختص في الإتجار بالآثار    حالة الطقس ليوم الجمعة 3 ماي 2024    القبض على منحرف خطير محلّ 19 منشور تفتيش    وزير الداخلية يدعو لانطلاق أشغال اللجنة المشتركة لمراقبة العودة الطوعية للمهاجرين    منزل جميل.. تفكيك شبكة مختصة في سرقة المواشي ومحلات السكنى    ساقية الزيت: حجز مواد غذائية مدعّمة بمخزن عشوائي    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنان عبد الله الشاهد    وفاة الممثل عبد الله الشاهد‬    ماذا في لقاء لطفي الرياحي بمفتي الجمهورية؟    النادي الافريقي يراسل الجامعة من أجل تغيير موعد الدربي    منوبة: مشتبه به في سرقة المصلّين في مواضئ الجوامع في قبضة الأمن    قيس سعيد: الامتحانات خط أحمر ولا تسامح مع من يريد تعطيلها أو المساومة بها    قضية التآمر على أمن الدولة: رفض مطالب الافراج واحالة 40 متهما على الدائرة الجنائية المختصة    صفاقس : غياب برنامج تلفزي وحيد من الجهة فهل دخلت وحدة الانتاج التلفزي مرحلة الموت السريري؟    انتخابات جامعة كرة القدم.. قائمة التلمساني تستأنف قرار لجنة الانتخابات    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    عاجل : معهد الصحافة يقاطع هذه المؤسسة    رئيس الجمهورية يتسلّم دعوة للمشاركة في القمة العربية    الروائح الكريهة تنتشر في مستشفي قابس بسبب جثث المهاجرين    إغتصاب ومخدّرات.. الإطاحة بعصابة تستدرج الأطفال على "تيك توك"!!    الترجي يقرّر منع مسؤوليه ولاعبيه من التصريحات الإعلامية    شوقي الطبيب يرفع إضرابه عن الطعام    عاجل/ إستقالة هيثم زنّاد من ادارة ديوان التجارة.. ومرصد رقابة يكشف الأسباب    البنك المركزي يعلن ادراج مؤسستين في قائمة المنخرطين في نظام المقاصة الالكترونية    مجددا بعد اسبوعين.. الأمطار تشل الحركة في الإمارات    رئيس لجنة الشباب والرياضة : تعديل قانون مكافحة المنشطات ورفع العقوبة وارد جدا    مدنين: بحّارة جرجيس يقرّرون استئناف نشاط صيد القمبري بعد مراجعة تسعيرة البيع بالجملة    هام/ الترفيع في أسعار 320 صنفا من الأدوية.. وهذه قيمة الزيادة    اليوم: جلسة تفاوض بين جامعة الثانوي ووزارة التربية    إرتفاع أسعار اللحوم البيضاء: غرفة تجّار لحوم الدواجن تعلق وتكشف..    وزارة التجارة تنشر حصيلة نشاط المراقبة الاقتصادية خلال الأربعة أشهر الأولى من سنة 2024    بنزيما يغادر إلى مدريد    عبد المجيد القوبنطيني: " ماهوش وقت نتائج في النجم الساحلي .. لأن هذا الخطر يهدد الفريق " (فيديو)    وزارة التربية على أتم الاستعداد لمختلف الامتحانات الوطنية    حادث مرور قاتل بسيدي بوزيد..    وفاة الروائي الأميركي بول أستر    الحبيب جغام ... وفاء للثقافة والمصدح    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 2 ماي 2024    الحماية المدنية: 9حالة وفاة و341 إصابة خلال 24ساعة.    هذه حقيقة فتح معبر رأس وعودة حركة العبور..#خبر_عاجل    تونس تشهد تنظيم معرضين متخصّصين في "صناعة النفط" و"النقل واللوجستك"    ''أسترازنيكا'' تعترف بأنّ لقاحها له آثار قاتلة: رياض دغفوس للتونسيين ''ماتخافوش''    روبليف يقصي ألكاراز ويتقدم لقبل نهائي بطولة مدريد المفتوحة للتنس    يهم التونسيين : حيل منزلية فعالة للتخلص من الناموس    مصطفى الفارسي أعطى القصة هوية تونسية    تونس:تفاصيل التمديد في سن التقاعد بالقطاع الخاص    محمد بوحوش يكتب .. صرخة لأجل الكتاب وصرختان لأجل الكاتب    نَذَرْتُ قَلْبِي (ذات يوم أصابته جفوةُ الزّمان فكتب)    عاجل : سحب عصير تفاح شهير من الأسواق العالمية    وفاة حسنة البشارية أيقونة الفن الصحراوي الجزائري    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    القيروان: إطلاق مشروع "رايت آب" لرفع الوعي لدى الشباب بشأن صحتهم الجنسية والانجابية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأزمات المزمنة والحلول الممكنة
التربية والتعليم في تونس:
نشر في الشعب يوم 23 - 03 - 2013

التربية والتعليم، هذان اللفظان المترابطان عضويا هما على الإطلاق أهم مقياس يقاس به تقدم الأمم ونهضتها ومن ثم تحديد مكانتها في ميزان القوى العالمي الذي لا يؤمن بالجمود أو التخلف عن الركب وفي بلادنا يشهد القاصي والداني الانهيار المدمر لمستوى التعليم والمنظومة التربوية ما جعل المواطنين في حيرة من أمرهم ووضع موضع التساؤل قيمة الشهائد العلمية التي تسندها مؤسساتنا التربوية والتعليمية وهو أمر شديد الخطورة يستوجب الكف نهائيا عن اعتبار قطاع التعليم «فأر تجارب» يخضع للأهواء السياسية المختلفة والشروع كأولوية قصوى في حوار وطني شامل يكون بمثابة ورشة إصلاح يشارك فيها أهل القطاع والمختصون (وهو ما لم يحدث قبل الثورة أو بعدها) وقد ارتأت جريدة «الشعب» استطلاع رأي بعض الإطارات التربوية في هذا الموضوع.
شفيق الجندوبي: متفقد المدارس الإبتدائية وأستاذ علوم التربية
يقف المتأمل لواقع المجتمعات المنعتقة من نير الديكتاتوريات والمدشنة لمرحلة الانتقال الديمقراطي وما يتخلل هذه المرحلة من إرادة إصلاح وإعادة بناء لمؤسسات الدولة والمجتمع، على مفارقة حرية بالتدبر: فقد خلفت الدكتاتورية من جهة مؤسسات واهنة منخورة ضعيفة الأداة،وحبرت لها نصوصا وقوانين عصرية في أغلب الأحيان، بل وتضاهي تلك التي تحتكم لها المؤسسات في أعرق الديمقراطيات من جهة أخرى !
وإذا كانت هذه المفارقة تستوطن العديد من المؤسسات التي تعنى بمختلف مجالات الحياة، فإنها تزداد جلاء في القطاع التربوي الذي بات ضعفه وتواضع مردوده محل إجماع الملاحظين، وهو ضعف طال مختلف الأبعاد المستهدفة في ملامح خريج المدرسة التونسية المعرفية منها، وقد أظهرتها التقييمات الدولية (ترتيب تونس 65 في العلوم والرياضيات حسب اختبارات TIMSS التي أجريت في مارس 2007 م بمشاركة 68 دولة) وكذا ملامح الخريج المدنية وقد جلاها التنامي الملحوظ لظاهرة العنف اللفظي والبدني في الوسط المدرسي ومحيطه بين كافة الشركاء التربويين والإعتداء على الممتلكات والتجهيزات وحتى بداية ظهور التطرف الفكري والعقدي. وهو ما يؤشر لفشل في إشاعة قيم ومبادئ عجت بها التشريعات التربوية والشعارات المنمقة وعز بها الواقع المرير، مبادئ من قبيل: «القدرة على العيش مع الآخرين، والتسامح فكرا وسلوكا، واحترام الغير، واحترام القانون، والتحلي بروح المسؤولية، ورحابة الصدر إزاء النقد... إلخ مما حبر المشرعون من ملامح مدنية وضاءة ظلت جلها حبيسة الحبر ولم ينبت الواقع أحيانا إلا عكسها في واقع الأمر.
ورغم تتالي الإصلاحات والمشاريع في العشريتين الأخيرتين (إصلاح 1991، إصلاح 2002، مشروع المقاربة بالكفايات، مشروع الخطة التنفيذية لمدرسة الغد...) فقد ظلت دار لقمان على حالها إن لم نقل أن الأحوال قد ازدادت ترديا بعد الثورة من فرط الانتدابات العشوائية في إطار التعليم التي وقعت تحت ضغط طلب التشغيل فغدت مسكنات للاحتقان الاجتماعي ونأت عن الاستحقاقية والكفاءة المطلوبة. هذا علاوة على ما أفرزه الوضع الانتقالي الثاني لبلادنا بعد انتخابات23 أكتوبر من ارتباك في توضح ملامح المشروع المجتمعي الذي سيفضي إليه استكمال بناء الجمهورية الثانية، وهو ارتباك يجعل الإصلاح التربوي غير ممكن من الناحية المنهجية. ومع ذلك يمكن القيام بالترميمات العاجلة التالية حسب اعتقادي تلافيا لهدر الوقت وضياع النشء:
- إعادة بعث دور ترشيح المعلمين والأساتذة كمؤسسات عريقة لتخريج الإطارات التربوية ذات المهنية المناسبة في كل الاختصاصات.
- مراجعة الزمن المدرسي بالتقليص من الحجم الإجمالي لساعات التدريس وتحسين الجودة (تلاميذ فنلندا التي يعد نظامها التربوي من أرقى ما يوجد في العالم يدرسون أقل ساعات من تلاميذنا).
- تجويد التكوين المستمر للمدرسين لرفع مهنيتهم وتحسين مردوديتهم البيداغوجية.
- حظر الدروس الخاصة خارج الفضاء التربوي وتنظيمها بيداغوجيا وتشريعيا ومراقبة القائمين عليها.
- إعادةالاعتبار لأنشطة الحياة المدرسية من رياضة وثقافة وفنون وأنشطة تمدينية لتكريس التربية الشاملة ووقاية أبنائنا من العنف.
- فك المركزية المفرطة في القرار التربوي وفسح هامش أوسع للمبادرات الجهوية الخلاقة التي بإمكانها إبداع حلول لبعض الإشكالات العائدة للبيئة الحاضنة للمدارس.
هذه بعض المقترحات التي وإن بدت ذات صبغة ترميمية، فإنها قد تساعد على تلافي إهدارات في الوضع التربوي الراهن. ويبقى الإصلاح الحقيقي آجلا ومعلقا في انتظار خروج بلادنا من مفترق طرقات مخاض التأسيس نحو التوافق على مشروع واضح يسهل على المختصين وضع اللبنات الإصلاحية المطلوبة لإطلاق منظومة تربوية جديدة تحقق طموحات المجتمع.
صالح العوني: مساعد بيداغوجي في التعليم الأساسي
لا يختلف اثنان في تدني المستوى المعرفي لأصحاب الشهائد العليا وللمتعلمين بصفة عامة ويرجع الكثيرون ذلك إلى منهج المنظومة التربوية الحالي أي إلى المقاربة بالكفايات إلا أن هذا في تقديري مجانب للصواب فأسباب ضعف المستوىالتعليمي عديدة ومتداخلة منها الارتقاء الآلي الذي وظف سياسيا للتباهي بعدد الطلبة وعدد الجامعات، دور العائلة التي استقالت تماما هدفها أن ينجح ابنها بغض النظر عن المستوى، كثرة المواد المدرسية، ضاغطة التوقيت ومع كل ذلك غياب الاحتراف ويمكن تجاوز ذلك إذا تحمل كل طرف مسؤوليته وإذا تلقى المربون على اختلاف أصنافهم التكوين الأساسي الضروري لتحكم الحرفية النظام التربوي في كل مستوياته.
حسين العمراني: أستاذ تعليم ثانوي
قد لا يختلف إثنان في أن النقد والتفطن إلى النقائص والإخلالات هو عنوان الصحوة وأول مطالب الثورة وإن بوادر اليقظة هي أول خطوة على درب الإصلاح والتغيير في بلادنا ذلك أن الناقد لا يستطيع أن ينقد ما لم يستحضر في تصوره ومخيلته البديل الأفضل.
ومن الحقائق غير القابلة للجدل أو الاختلاف حاجة المنظومة التربوية في تونس إلى الاصلاح الجذري. وإن ما يعاب على رجال السياسة أن آخر اهتمامهم هذا الملف الذي يعتبره كل تونسي من أوكد المطالب لعلاقته بحاضرالبلاد ومستقبلها ولارتباطه الوثيق بعملية التنمية وإني أرى أن هذه المسألة جديرة بالاهتمام وانطلاقا من خبرتي المتواضعة في ميدان التربية والتعليم وباختصار شديد يمكن تناول موضوع التربية والتعليم من زاويتين:
الزاوية الأولى: مظاهر الفشل في المنظومة التربوية وأسباب ذلك.
الزاوية الثانية: طرق الإصلاح والعلاج.
I. أ. مظاهر الفشل:
إن الفشل الذريع الذي مرت به المنظومة التربوية في تونس خلال السنوات السابقة يتمحور في:
1. تدهور كبير في نوعية التعليم.
2. تقلص عدد التلاميذ القادرين على متابعة البرامج التعليمية.
3. تزامن عملية النجاح في التعليم مع عنصرالإنتقاء.
ب. أسباب الفشل
حشو البرامج التعليمية في الأساسي والثانوي بعدد فاحش من المواد الضخمة.
انعدام التكامل والتناسق بين هذه المواد.
حصر دور المدرس في إتمام البرامج.
عدم قدرة المدرس على تشخيص مواطن الضعف والخلل في إبانها بسبب طول البرامج .
غياب تشريك الفاعلين الحقيقيين في تنفيذ عملية الإصلاح «المربون وإطار التفقد».
التسييس المفرط للمدرسة.
II. طرق العلاج والإصلاح
إعادة النظر وبصورة جذرية في هيكلة المنظومة التعليمية من حيث مراحلها.
تحسين الوضع المادي للمدرسين.
القيام بحملات توعوية متواصلة ورصينة موجهة بالأساس للأولياء والتلاميذ.
منح المؤسسة التعليمية في مختلف المراحل أقصى ما يمكن من الاستقلالية.
ضرورة العودة في الارتقاء من مرحلة تعليمية إلى أخرى إلى المناظرات الوطنية «السيزيام - النوفيام».
بوراوي الطرابلسي: أستاذ جامعي
الجامعة التونسية هي من أهم إنجازات دولة الإستقلال، الدولة التي اعتبرت التعليم السبيل الوحيد للنهوض بالبلاد من التخلف والنهج الوحيد لبناء أركان دولة عصرية قادرة على بلوغ الحداثة فالمعادلة كانت شديدة الوضوح: تعليم المواطن التونسي يؤدي حتما إلى المحافظة على استقلال البلاد والتخلص من التبعية بأشكالها المتعددة الاقتصادية والسياسية والإجتماعية-الثقافية. لذلك ربطت دولة الاستقلال مصير البلاد بمصير التربية والتعليم. فكان الرهان على العقول ولا على البترول. لقد كان الاتفاق على الحفاظ على روح التعليم العصري لإنجاح مشروع مؤسسة التعليم العالي أي بعث جامعة تونسية مستقلة لكن دون القطع مع الموروث الفرنسي لأنه السبيل الوحيد في تلك الفترة من تاريخ تونس لبعث جامعة عصرية. هذا الاختيار الوطني انسجم مع المطالب الاجتماعية، وأصبح متأصلا في الخلية الأولى للمجتمع ألا وهي الأسرة. فإن كانت دولة الاستقلال تسعى لقهر التخلف فإن المجتمع يرى في التعليم الوسيلة الوحيدة لقهر الفقر الكافر. فكان الشعار «أقرا على روحك لا ليّام تلوحك».
هذا التناغم بين المطلب السياسي والمطلب الاجتماعي-الثقافي هو الذي بعث للوجود مؤسسة تعليمية قادرة على توليد جيل جديد من المتعلمين خلّص إلى حد ما البلاد التونسية من خطر التبعية للآخر. لكن المشروع الوطني دخل مرحلة الأزمة الهيكلية مع بدايات الثمانينات، فترة انتكس فيها مشروع الدولة الاشتراكية في العالم وأصبح النظام الليبرالي السبيل الوحيد لحل الأزمات. فدخلت تونس مرحلة إملاءات صندوق النقد الدولي. وكانت أولى وصايا هذا الصندوق تخلي الدولة عن دعمها للقطاع العام في إطار ما يعرف بالاصلاحات الهيكلية، ومن بينها قطاع التعليم العالي. فبدأت الحكومات المتعاقبة بالتخلي عن المشروع الوطني وبدأ الشك ينخر طموحات المجتمع التونسي وأصبح التساؤل عن جدوى الاستثمار في التعليم لبلوغ الرقي الاجتماعي. فكان المسمار الأول في نعش الجامعة الشعبية والتعليم الديمقراطي والثقافة الوطنية عندما قررت الحكومة في منتصف التسعينات العمل كليا بشروط صندوق النقد الدولي للخروج من الأزمة، وتجلى ذلك في تعدد الاصلاحات وفق التقسيم العالمي الجديد للعمل ووفقا لمتطلبات مرحلة منظومة العولمة.
ومن بين هذه الشروط التخلي نهائيا عن الربط بين التعليم العالي والجودة، وذلك من خلال وضع مقاييس جديدة للإرتقاء شبه الآلي، وكان الهدف من ورائه تفادي الإكتظاظ قصد تجنب التشغيل في قطاع التعليم. كما وجدت المنظومة الجديدة في التكثيف من البرامج البيداغوجية والكتب المدرسية السبيل الأنجع للتخلص التدريجي من مسألة مجانية التعليم وذلك بالتشجيع على استهلاك الكتب والبرامج. أما على مستوى الجامعة فقد فرض على الدولة التونسية التوجه صوب الشعب القصيرة قصد تخريج التقنيين السامين في الميادين التكنولوجية. وكان الهدف من وراء ذلك توفير قوة عمل متخصصة لاستغلالها في مشاريع رأسمالية قادمة تقوم على تحويل المصانع من تراب العالم المتقدّم إلى البلدان الفقيرة وذلك في إطار السعي إلى التخلص من الصناعات الملوّثة والصناعات المكلفة بسبب أجور العمال هناك. وانخرطت الدولة التونسية في هذا المشروع وأصبح التعليم العالي يخدم المصالح الخارجية و لا البلاد. وبما أن الرأسمالية لا يمكن أن تعيش إلا في أزمات و لا يهمها ما قد تحدثه الأزمات من تقلبات سياسية و اجتماعية، فإنها لم تساعد الدولة التونسية في حل مشكل البطالة في صفوف خريجي الجامعة. ذلك أن مكينة تخريج الطلبة بلغت مرحلة الإنتاج السريع والكبير، ولم تعد الدولة التونسية قادرة على التقليل من الإنتاج حيث فاق العرض الطلب فكانت بوادر أزمة اجتماعية تبشر بحركات احتجاجية قد تصل إلى الانتفاضة، فكانت تحركات الحوض المنجمي. وتواصل عيش البلاد على وقع مأساة حاملي الشهادات العليا، وأصبح الشعار « أقرا وإلا ما تقراش الخدمة مفماش». وتزامن ذلك مع تفشي الفساد المالي و المحسوبية وتحوّل الاقتصاد الموازي إلى تنظيم مافيوي. ولم تجد الحكومة في تلك الفترة من حلول غير بعث صناديق اجتماعية، فكانت سياسة الصناديق الفارغة وسياسة الهروب إلى الأمام. فرفع الشباب العاطل شعار « الشغل استحقاق يا عصابة السراق» وكانت نهاية حكم دام 23 سنة.
غير أن الأزمة لم تزل بنهاية النظام السابق، بل أصبح النزيف أكثر خطورة، في ظل عدم الإستقرار السياسي. فلأسباب انتخابية لا ترغب الحكومات المؤقتة في مصارحة الشعب. فالصراحة تقضي من سلطة الإشراف الطرح الموضوعي لأزمة الجامعة التونسية. يبدو أن الكل لا يريد مصارحة الشعب التونسي وكشف ما اشترطه صندوق النقد الدولي والهيئات المالية والاقتصادية في الدول الغنيّة لتمويل إصلاح التعليم العالي.
وحسب اعتقادي فإن البلاد فقدت الفرصة الملائمة للخروج من الأزمة، في فترة كان بالامكان التعامل مع صندوق النقد الدولي والهيئات الدولية من موقع قوة، عندما انبهر العالم بالثورة التي أطاحت بالدكتاتورية. وقد يكون مرد ذلك الانزلاق الذي وقعت فيه الجامعة التونسية. والبلاد ككل، وراء تلك المشاكل المغلوطة بعيد الثورة، مشاكل من نوع: إذا بلع الحوت يونس فكيف يستطيع الوضوء في كرش الحوت؟ في زمن تعيش الجامعات الأخرى عصر الرقمية. فأصبحت الجامعة التونسية جامعة أهل الكهف.
إنّ أبواب الإصلاح في إطار المشاريع الوطنية لازالت مفتوحة، لكن شريطة أن تكون الحلول خارج الصراع السياسي، على الأقل في هذه المرحلة الانتقالية. ولا يكون ذلك إلا بمصارحة الشعب بحقيقة أزمة الجامعة التونسية ومشكل التعامل مع إملاءات صندوق النقد الدولي. لا يمكن تجاهل هذا الصندوق في عملية الإصلاح أو رفض شروطه من منطلقات إيديولوجية، لا من اليسار ولا من اليمين، على الأقل في هذه المرحلة، وذلك قصد وقف نزيف الجامعة التونسية. إنما يكمن دور الطبقة السياسية في الوضعية الراهنة، بمختلف أطيافها، تقديم الحلول الاجتماعية والثقافية الكفيلة بالتخفيف من وقع الأزمة ومن وقع نتائج العمل بقرارات صندوق النقد الدولي لإصلاح التعليم العالي.
لكن نزيف الجامعة يحتاج كذلك إلى حلول سريعة. وهذه الحلول مرتبطة بالتشخيص الأولي. إن الجامعة ثلاثة أعمدة: الطلبة والأساتذة وسلك الإدارة والعملة.
أما الطلبة فهم راس مال التعليم العالي. والطلبة وحدهم ضحايا هذه الأزمة. وحدهم يعيشون في يأس وضيق. ماذا وفّرنا للطالب ؟ لا شيء سوى مصير مجهول، وتمييز علمي، وفقر ثقافي ومادي. لقد كانت الجامعة حاضنة للمتميز منذ الخطوات الأولى في التعليم الابتدائي – في أن يزهر، وذلك بسبب الفقر. وأصبحت مثل صناعة الشاشية في عصر البيات. يعاني الطالب كذلك من قسوة جغرافية التوجيه الجامعي. فإن كان من الجهات الفقيرة فالعلوم الإنسانية مصيره لأنها لا تدر الأرباح وإن كان من الجهات المحظوظة فالعلوم الصحيحة دار هجرته لأنها تدر الغنائم. فعدنا بالجامعة التونسية إلى الزمن الذي كانت فيه جامعة الزيتونة قلقة محروسة لا يدخلها غير أبناء الفلاح والتاجر والحرفي. لذلك فإن اتخاذ بعض الإجراءات للقضاء على هذا التمييز لا تتعارض واتفاقيات صندوق النقد الدولي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تفشي ظاهرة التغيب هي ظاهرة شديدة الارتباط بمسألة السكن الجامعي. لا بد من توفير السكن الجامعي لجميع الطلبة الذين هم في حاجة للسكن وذلك طيلة المدة التي يقضونها في الدراسة. قد أبدي الملاحظة التالية: لا يرتبط السكن الجامعي بالضرورة بمشاريع بناء المبيتات الجامعية أو كراء البنايات. قد يكون آن الأوان لإصلاح ديوان الخدمات الجامعية كي يساهم في معلوم الكراء لدى الخواص وذلك بوضع كراس شروط للعائلات القادرة على إيواء طلبة. إن القضاء على ظاهرة التغيب هو من بين الوسائل المتاحة لفرض الجودة في الجامعة والارتقاء بها إلى مصاف الجامعات المتقدمة. كما يعاني طلبة العلوم الإنسانية من مشاكل أكثر خطورة، فهم مشاريع بطالة. لذلك ينبغي العودة إلى أهداف منظومة «إمد»، لقد كان الهدف من ورائها توفير المجال للطلبة للتحرك والتنقل داخل الفضاء الجامعي، فطالب التاريخ كان المفروض أن يتنقل بين الجامعات، على سبيل المثال لدراسة علوم الصحافة، اللغة الألمانية وحتى دراسة الرياضيات. كان من المفروض أن يكون الهدف من منظومة «إمد» فتح المسالك أمام الطالب لفتح آفاق جديدة في التشغيل، وإعطاء فرصة ثانية للطالب الذي فشل في اختيار الشعبة المناسبة، أو تمكين الطالب من فرصة ثانية للتميّز في الشعبة التي لم يستطع التوجه إليها.
المكون الثاني في الجامعة الأساتذة. هم كذلك يعيشون أزمة خانقة لكن دوافعها مغايرة. فأزمة الأساتذة الجامعيين هي قبل كل شيء أزمة قيم جامعية. لقد كانت مهمة الجامعي الرئيسية نشر العلم وتكوين الأجيال قصد مواصلة المشروع الوطني المتمثل في تحديث الدولة والمجتمع. لكن منذ أواسط التسعينات تنكر البعض لهذه القيم، و أصبح همهم الوحيد وشغلهم الشّاغل الحصول على منصب إداري. فأصبح البعض يتفنن في لحس الأحذية في وزارة التعليم العالي إلى درجة ممارسة الدعارة الأكاديمية. وأتذكر ما حدث لنا في شهر جوان سنة 2005، إبان الإضراب الإداري، عندما تحول بعض من الأساتذة إلى وشاة لدى الوزير وذلك للفوز بخطة مدير مؤسسة جامعية. ففعلوا بنا ما لم يفعله الوزير نفسه. وتمت مكافأتهم وتحصلوا على الإدارة والبعض منهم لا يزال في الإدارة إلى اليوم هذا، بل أطلق البعض العنان للحيته عسى أن تكون لهم الخطوة عند سلطة الإشراف، واختار الآخر «الثورجية» أصبح من كبار الثوار لعله بذلك يتحصن و يهرب من ماضيه فلا يحاسب.هؤلاء هم من دمر الجامعة التونسية ، تلونوا بكل الألوان كالحرباء ، وعاصرو كل الحكام و قدموا لهم الخدمات الجليلة على حساب القيم الجامعية .لذلك لا بد من كسر تقاليد المحسوبية وعلاقات الولاء الموروثة منذ عهود سابقة و التي لا زالت سارية المفعول إلى يومنا هذا كي يتنحى هؤلاء عن الجامعة. فوزارة التعليم العالي هي وزارة وليست ديوان عطاء. إن التفاضلية الجامعية تقوم قبل كل شيء على التفاضلية العلمية والفكرية والقيم الجامعية، وحدهم الأساتذة الذين عملوا على نشر المعرفة والعلم، وحدهم أساس كل إصلاح في الجامعة التونسية، فهم حماة العلم والمعرفة والقيم الإنسانية داخل الجامعة.
المكون الثالث في الجامعة السلك الإداري والعملة، لا بد من تحسين أوضاعهم الإجتماعية وتشريكهم في الحياة الجامعية، فقد أثبتوا عند الأزمات صدق انتمائهم لهذا الفضاء المعرفي وصدق دفاعهم عن الجامعة. وخير دليل على ذلك الدور الذي لعبوه للدفاع عن كلية الآداب منوبة بعيد 14 جانفي عبر الانخراط في الميثاق الجامعي و إنجاحه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.