الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    المسرحيون يودعون انور الشعافي    أولا وأخيرا: أم القضايا    بنزرت: إيقاف شبان من بينهم 3 قصّر نفذوا 'براكاج' لحافلة نقل مدرسي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    نابل.. وفاة طالب غرقا    مدنين: انطلاق نشاط شركتين اهليتين ستوفران اكثر من 100 موطن شغل    كاس امم افريقيا تحت 20 عاما: المنتخب ينهزم امام نظيره النيجيري    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    منتخب أقل من 20 سنة: تونس تواجه نيجيريا في مستهل مشوارها بكأس أمم إفريقيا    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    الطبوبي: المفاوضات الاجتماعية حقّ وليست منّة ويجب فتحها في أقرب الآجال    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    عيد الشغل.. مجلس نواب الشعب يؤكد "ما توليه تونس من أهمية للطبقة الشغيلة وللعمل"..    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    كأس أمم افريقيا لكرة لقدم تحت 20 عاما: فوز سيراليون وجنوب إفريقيا على مصر وتنزانيا    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    ترامب يرد على "السؤال الأصعب" ويعد ب"انتصارات اقتصادية ضخمة"    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    كرة اليد: الافريقي ينهي البطولة في المركز الثالث    Bâtisseurs – دولة و بناوها: فيلم وثائقي يخلّد رموزًا وطنية    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    عاجل/ اندلاع حريق ضخم بجبال القدس وحكومة الاحتلال تستنجد    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    تعرف على المشروب الأول للقضاء على الكرش..    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأزمات المزمنة والحلول الممكنة
التربية والتعليم في تونس:
نشر في الشعب يوم 23 - 03 - 2013

التربية والتعليم، هذان اللفظان المترابطان عضويا هما على الإطلاق أهم مقياس يقاس به تقدم الأمم ونهضتها ومن ثم تحديد مكانتها في ميزان القوى العالمي الذي لا يؤمن بالجمود أو التخلف عن الركب وفي بلادنا يشهد القاصي والداني الانهيار المدمر لمستوى التعليم والمنظومة التربوية ما جعل المواطنين في حيرة من أمرهم ووضع موضع التساؤل قيمة الشهائد العلمية التي تسندها مؤسساتنا التربوية والتعليمية وهو أمر شديد الخطورة يستوجب الكف نهائيا عن اعتبار قطاع التعليم «فأر تجارب» يخضع للأهواء السياسية المختلفة والشروع كأولوية قصوى في حوار وطني شامل يكون بمثابة ورشة إصلاح يشارك فيها أهل القطاع والمختصون (وهو ما لم يحدث قبل الثورة أو بعدها) وقد ارتأت جريدة «الشعب» استطلاع رأي بعض الإطارات التربوية في هذا الموضوع.
شفيق الجندوبي: متفقد المدارس الإبتدائية وأستاذ علوم التربية
يقف المتأمل لواقع المجتمعات المنعتقة من نير الديكتاتوريات والمدشنة لمرحلة الانتقال الديمقراطي وما يتخلل هذه المرحلة من إرادة إصلاح وإعادة بناء لمؤسسات الدولة والمجتمع، على مفارقة حرية بالتدبر: فقد خلفت الدكتاتورية من جهة مؤسسات واهنة منخورة ضعيفة الأداة،وحبرت لها نصوصا وقوانين عصرية في أغلب الأحيان، بل وتضاهي تلك التي تحتكم لها المؤسسات في أعرق الديمقراطيات من جهة أخرى !
وإذا كانت هذه المفارقة تستوطن العديد من المؤسسات التي تعنى بمختلف مجالات الحياة، فإنها تزداد جلاء في القطاع التربوي الذي بات ضعفه وتواضع مردوده محل إجماع الملاحظين، وهو ضعف طال مختلف الأبعاد المستهدفة في ملامح خريج المدرسة التونسية المعرفية منها، وقد أظهرتها التقييمات الدولية (ترتيب تونس 65 في العلوم والرياضيات حسب اختبارات TIMSS التي أجريت في مارس 2007 م بمشاركة 68 دولة) وكذا ملامح الخريج المدنية وقد جلاها التنامي الملحوظ لظاهرة العنف اللفظي والبدني في الوسط المدرسي ومحيطه بين كافة الشركاء التربويين والإعتداء على الممتلكات والتجهيزات وحتى بداية ظهور التطرف الفكري والعقدي. وهو ما يؤشر لفشل في إشاعة قيم ومبادئ عجت بها التشريعات التربوية والشعارات المنمقة وعز بها الواقع المرير، مبادئ من قبيل: «القدرة على العيش مع الآخرين، والتسامح فكرا وسلوكا، واحترام الغير، واحترام القانون، والتحلي بروح المسؤولية، ورحابة الصدر إزاء النقد... إلخ مما حبر المشرعون من ملامح مدنية وضاءة ظلت جلها حبيسة الحبر ولم ينبت الواقع أحيانا إلا عكسها في واقع الأمر.
ورغم تتالي الإصلاحات والمشاريع في العشريتين الأخيرتين (إصلاح 1991، إصلاح 2002، مشروع المقاربة بالكفايات، مشروع الخطة التنفيذية لمدرسة الغد...) فقد ظلت دار لقمان على حالها إن لم نقل أن الأحوال قد ازدادت ترديا بعد الثورة من فرط الانتدابات العشوائية في إطار التعليم التي وقعت تحت ضغط طلب التشغيل فغدت مسكنات للاحتقان الاجتماعي ونأت عن الاستحقاقية والكفاءة المطلوبة. هذا علاوة على ما أفرزه الوضع الانتقالي الثاني لبلادنا بعد انتخابات23 أكتوبر من ارتباك في توضح ملامح المشروع المجتمعي الذي سيفضي إليه استكمال بناء الجمهورية الثانية، وهو ارتباك يجعل الإصلاح التربوي غير ممكن من الناحية المنهجية. ومع ذلك يمكن القيام بالترميمات العاجلة التالية حسب اعتقادي تلافيا لهدر الوقت وضياع النشء:
- إعادة بعث دور ترشيح المعلمين والأساتذة كمؤسسات عريقة لتخريج الإطارات التربوية ذات المهنية المناسبة في كل الاختصاصات.
- مراجعة الزمن المدرسي بالتقليص من الحجم الإجمالي لساعات التدريس وتحسين الجودة (تلاميذ فنلندا التي يعد نظامها التربوي من أرقى ما يوجد في العالم يدرسون أقل ساعات من تلاميذنا).
- تجويد التكوين المستمر للمدرسين لرفع مهنيتهم وتحسين مردوديتهم البيداغوجية.
- حظر الدروس الخاصة خارج الفضاء التربوي وتنظيمها بيداغوجيا وتشريعيا ومراقبة القائمين عليها.
- إعادةالاعتبار لأنشطة الحياة المدرسية من رياضة وثقافة وفنون وأنشطة تمدينية لتكريس التربية الشاملة ووقاية أبنائنا من العنف.
- فك المركزية المفرطة في القرار التربوي وفسح هامش أوسع للمبادرات الجهوية الخلاقة التي بإمكانها إبداع حلول لبعض الإشكالات العائدة للبيئة الحاضنة للمدارس.
هذه بعض المقترحات التي وإن بدت ذات صبغة ترميمية، فإنها قد تساعد على تلافي إهدارات في الوضع التربوي الراهن. ويبقى الإصلاح الحقيقي آجلا ومعلقا في انتظار خروج بلادنا من مفترق طرقات مخاض التأسيس نحو التوافق على مشروع واضح يسهل على المختصين وضع اللبنات الإصلاحية المطلوبة لإطلاق منظومة تربوية جديدة تحقق طموحات المجتمع.
صالح العوني: مساعد بيداغوجي في التعليم الأساسي
لا يختلف اثنان في تدني المستوى المعرفي لأصحاب الشهائد العليا وللمتعلمين بصفة عامة ويرجع الكثيرون ذلك إلى منهج المنظومة التربوية الحالي أي إلى المقاربة بالكفايات إلا أن هذا في تقديري مجانب للصواب فأسباب ضعف المستوىالتعليمي عديدة ومتداخلة منها الارتقاء الآلي الذي وظف سياسيا للتباهي بعدد الطلبة وعدد الجامعات، دور العائلة التي استقالت تماما هدفها أن ينجح ابنها بغض النظر عن المستوى، كثرة المواد المدرسية، ضاغطة التوقيت ومع كل ذلك غياب الاحتراف ويمكن تجاوز ذلك إذا تحمل كل طرف مسؤوليته وإذا تلقى المربون على اختلاف أصنافهم التكوين الأساسي الضروري لتحكم الحرفية النظام التربوي في كل مستوياته.
حسين العمراني: أستاذ تعليم ثانوي
قد لا يختلف إثنان في أن النقد والتفطن إلى النقائص والإخلالات هو عنوان الصحوة وأول مطالب الثورة وإن بوادر اليقظة هي أول خطوة على درب الإصلاح والتغيير في بلادنا ذلك أن الناقد لا يستطيع أن ينقد ما لم يستحضر في تصوره ومخيلته البديل الأفضل.
ومن الحقائق غير القابلة للجدل أو الاختلاف حاجة المنظومة التربوية في تونس إلى الاصلاح الجذري. وإن ما يعاب على رجال السياسة أن آخر اهتمامهم هذا الملف الذي يعتبره كل تونسي من أوكد المطالب لعلاقته بحاضرالبلاد ومستقبلها ولارتباطه الوثيق بعملية التنمية وإني أرى أن هذه المسألة جديرة بالاهتمام وانطلاقا من خبرتي المتواضعة في ميدان التربية والتعليم وباختصار شديد يمكن تناول موضوع التربية والتعليم من زاويتين:
الزاوية الأولى: مظاهر الفشل في المنظومة التربوية وأسباب ذلك.
الزاوية الثانية: طرق الإصلاح والعلاج.
I. أ. مظاهر الفشل:
إن الفشل الذريع الذي مرت به المنظومة التربوية في تونس خلال السنوات السابقة يتمحور في:
1. تدهور كبير في نوعية التعليم.
2. تقلص عدد التلاميذ القادرين على متابعة البرامج التعليمية.
3. تزامن عملية النجاح في التعليم مع عنصرالإنتقاء.
ب. أسباب الفشل
حشو البرامج التعليمية في الأساسي والثانوي بعدد فاحش من المواد الضخمة.
انعدام التكامل والتناسق بين هذه المواد.
حصر دور المدرس في إتمام البرامج.
عدم قدرة المدرس على تشخيص مواطن الضعف والخلل في إبانها بسبب طول البرامج .
غياب تشريك الفاعلين الحقيقيين في تنفيذ عملية الإصلاح «المربون وإطار التفقد».
التسييس المفرط للمدرسة.
II. طرق العلاج والإصلاح
إعادة النظر وبصورة جذرية في هيكلة المنظومة التعليمية من حيث مراحلها.
تحسين الوضع المادي للمدرسين.
القيام بحملات توعوية متواصلة ورصينة موجهة بالأساس للأولياء والتلاميذ.
منح المؤسسة التعليمية في مختلف المراحل أقصى ما يمكن من الاستقلالية.
ضرورة العودة في الارتقاء من مرحلة تعليمية إلى أخرى إلى المناظرات الوطنية «السيزيام - النوفيام».
بوراوي الطرابلسي: أستاذ جامعي
الجامعة التونسية هي من أهم إنجازات دولة الإستقلال، الدولة التي اعتبرت التعليم السبيل الوحيد للنهوض بالبلاد من التخلف والنهج الوحيد لبناء أركان دولة عصرية قادرة على بلوغ الحداثة فالمعادلة كانت شديدة الوضوح: تعليم المواطن التونسي يؤدي حتما إلى المحافظة على استقلال البلاد والتخلص من التبعية بأشكالها المتعددة الاقتصادية والسياسية والإجتماعية-الثقافية. لذلك ربطت دولة الاستقلال مصير البلاد بمصير التربية والتعليم. فكان الرهان على العقول ولا على البترول. لقد كان الاتفاق على الحفاظ على روح التعليم العصري لإنجاح مشروع مؤسسة التعليم العالي أي بعث جامعة تونسية مستقلة لكن دون القطع مع الموروث الفرنسي لأنه السبيل الوحيد في تلك الفترة من تاريخ تونس لبعث جامعة عصرية. هذا الاختيار الوطني انسجم مع المطالب الاجتماعية، وأصبح متأصلا في الخلية الأولى للمجتمع ألا وهي الأسرة. فإن كانت دولة الاستقلال تسعى لقهر التخلف فإن المجتمع يرى في التعليم الوسيلة الوحيدة لقهر الفقر الكافر. فكان الشعار «أقرا على روحك لا ليّام تلوحك».
هذا التناغم بين المطلب السياسي والمطلب الاجتماعي-الثقافي هو الذي بعث للوجود مؤسسة تعليمية قادرة على توليد جيل جديد من المتعلمين خلّص إلى حد ما البلاد التونسية من خطر التبعية للآخر. لكن المشروع الوطني دخل مرحلة الأزمة الهيكلية مع بدايات الثمانينات، فترة انتكس فيها مشروع الدولة الاشتراكية في العالم وأصبح النظام الليبرالي السبيل الوحيد لحل الأزمات. فدخلت تونس مرحلة إملاءات صندوق النقد الدولي. وكانت أولى وصايا هذا الصندوق تخلي الدولة عن دعمها للقطاع العام في إطار ما يعرف بالاصلاحات الهيكلية، ومن بينها قطاع التعليم العالي. فبدأت الحكومات المتعاقبة بالتخلي عن المشروع الوطني وبدأ الشك ينخر طموحات المجتمع التونسي وأصبح التساؤل عن جدوى الاستثمار في التعليم لبلوغ الرقي الاجتماعي. فكان المسمار الأول في نعش الجامعة الشعبية والتعليم الديمقراطي والثقافة الوطنية عندما قررت الحكومة في منتصف التسعينات العمل كليا بشروط صندوق النقد الدولي للخروج من الأزمة، وتجلى ذلك في تعدد الاصلاحات وفق التقسيم العالمي الجديد للعمل ووفقا لمتطلبات مرحلة منظومة العولمة.
ومن بين هذه الشروط التخلي نهائيا عن الربط بين التعليم العالي والجودة، وذلك من خلال وضع مقاييس جديدة للإرتقاء شبه الآلي، وكان الهدف من ورائه تفادي الإكتظاظ قصد تجنب التشغيل في قطاع التعليم. كما وجدت المنظومة الجديدة في التكثيف من البرامج البيداغوجية والكتب المدرسية السبيل الأنجع للتخلص التدريجي من مسألة مجانية التعليم وذلك بالتشجيع على استهلاك الكتب والبرامج. أما على مستوى الجامعة فقد فرض على الدولة التونسية التوجه صوب الشعب القصيرة قصد تخريج التقنيين السامين في الميادين التكنولوجية. وكان الهدف من وراء ذلك توفير قوة عمل متخصصة لاستغلالها في مشاريع رأسمالية قادمة تقوم على تحويل المصانع من تراب العالم المتقدّم إلى البلدان الفقيرة وذلك في إطار السعي إلى التخلص من الصناعات الملوّثة والصناعات المكلفة بسبب أجور العمال هناك. وانخرطت الدولة التونسية في هذا المشروع وأصبح التعليم العالي يخدم المصالح الخارجية و لا البلاد. وبما أن الرأسمالية لا يمكن أن تعيش إلا في أزمات و لا يهمها ما قد تحدثه الأزمات من تقلبات سياسية و اجتماعية، فإنها لم تساعد الدولة التونسية في حل مشكل البطالة في صفوف خريجي الجامعة. ذلك أن مكينة تخريج الطلبة بلغت مرحلة الإنتاج السريع والكبير، ولم تعد الدولة التونسية قادرة على التقليل من الإنتاج حيث فاق العرض الطلب فكانت بوادر أزمة اجتماعية تبشر بحركات احتجاجية قد تصل إلى الانتفاضة، فكانت تحركات الحوض المنجمي. وتواصل عيش البلاد على وقع مأساة حاملي الشهادات العليا، وأصبح الشعار « أقرا وإلا ما تقراش الخدمة مفماش». وتزامن ذلك مع تفشي الفساد المالي و المحسوبية وتحوّل الاقتصاد الموازي إلى تنظيم مافيوي. ولم تجد الحكومة في تلك الفترة من حلول غير بعث صناديق اجتماعية، فكانت سياسة الصناديق الفارغة وسياسة الهروب إلى الأمام. فرفع الشباب العاطل شعار « الشغل استحقاق يا عصابة السراق» وكانت نهاية حكم دام 23 سنة.
غير أن الأزمة لم تزل بنهاية النظام السابق، بل أصبح النزيف أكثر خطورة، في ظل عدم الإستقرار السياسي. فلأسباب انتخابية لا ترغب الحكومات المؤقتة في مصارحة الشعب. فالصراحة تقضي من سلطة الإشراف الطرح الموضوعي لأزمة الجامعة التونسية. يبدو أن الكل لا يريد مصارحة الشعب التونسي وكشف ما اشترطه صندوق النقد الدولي والهيئات المالية والاقتصادية في الدول الغنيّة لتمويل إصلاح التعليم العالي.
وحسب اعتقادي فإن البلاد فقدت الفرصة الملائمة للخروج من الأزمة، في فترة كان بالامكان التعامل مع صندوق النقد الدولي والهيئات الدولية من موقع قوة، عندما انبهر العالم بالثورة التي أطاحت بالدكتاتورية. وقد يكون مرد ذلك الانزلاق الذي وقعت فيه الجامعة التونسية. والبلاد ككل، وراء تلك المشاكل المغلوطة بعيد الثورة، مشاكل من نوع: إذا بلع الحوت يونس فكيف يستطيع الوضوء في كرش الحوت؟ في زمن تعيش الجامعات الأخرى عصر الرقمية. فأصبحت الجامعة التونسية جامعة أهل الكهف.
إنّ أبواب الإصلاح في إطار المشاريع الوطنية لازالت مفتوحة، لكن شريطة أن تكون الحلول خارج الصراع السياسي، على الأقل في هذه المرحلة الانتقالية. ولا يكون ذلك إلا بمصارحة الشعب بحقيقة أزمة الجامعة التونسية ومشكل التعامل مع إملاءات صندوق النقد الدولي. لا يمكن تجاهل هذا الصندوق في عملية الإصلاح أو رفض شروطه من منطلقات إيديولوجية، لا من اليسار ولا من اليمين، على الأقل في هذه المرحلة، وذلك قصد وقف نزيف الجامعة التونسية. إنما يكمن دور الطبقة السياسية في الوضعية الراهنة، بمختلف أطيافها، تقديم الحلول الاجتماعية والثقافية الكفيلة بالتخفيف من وقع الأزمة ومن وقع نتائج العمل بقرارات صندوق النقد الدولي لإصلاح التعليم العالي.
لكن نزيف الجامعة يحتاج كذلك إلى حلول سريعة. وهذه الحلول مرتبطة بالتشخيص الأولي. إن الجامعة ثلاثة أعمدة: الطلبة والأساتذة وسلك الإدارة والعملة.
أما الطلبة فهم راس مال التعليم العالي. والطلبة وحدهم ضحايا هذه الأزمة. وحدهم يعيشون في يأس وضيق. ماذا وفّرنا للطالب ؟ لا شيء سوى مصير مجهول، وتمييز علمي، وفقر ثقافي ومادي. لقد كانت الجامعة حاضنة للمتميز منذ الخطوات الأولى في التعليم الابتدائي – في أن يزهر، وذلك بسبب الفقر. وأصبحت مثل صناعة الشاشية في عصر البيات. يعاني الطالب كذلك من قسوة جغرافية التوجيه الجامعي. فإن كان من الجهات الفقيرة فالعلوم الإنسانية مصيره لأنها لا تدر الأرباح وإن كان من الجهات المحظوظة فالعلوم الصحيحة دار هجرته لأنها تدر الغنائم. فعدنا بالجامعة التونسية إلى الزمن الذي كانت فيه جامعة الزيتونة قلقة محروسة لا يدخلها غير أبناء الفلاح والتاجر والحرفي. لذلك فإن اتخاذ بعض الإجراءات للقضاء على هذا التمييز لا تتعارض واتفاقيات صندوق النقد الدولي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تفشي ظاهرة التغيب هي ظاهرة شديدة الارتباط بمسألة السكن الجامعي. لا بد من توفير السكن الجامعي لجميع الطلبة الذين هم في حاجة للسكن وذلك طيلة المدة التي يقضونها في الدراسة. قد أبدي الملاحظة التالية: لا يرتبط السكن الجامعي بالضرورة بمشاريع بناء المبيتات الجامعية أو كراء البنايات. قد يكون آن الأوان لإصلاح ديوان الخدمات الجامعية كي يساهم في معلوم الكراء لدى الخواص وذلك بوضع كراس شروط للعائلات القادرة على إيواء طلبة. إن القضاء على ظاهرة التغيب هو من بين الوسائل المتاحة لفرض الجودة في الجامعة والارتقاء بها إلى مصاف الجامعات المتقدمة. كما يعاني طلبة العلوم الإنسانية من مشاكل أكثر خطورة، فهم مشاريع بطالة. لذلك ينبغي العودة إلى أهداف منظومة «إمد»، لقد كان الهدف من ورائها توفير المجال للطلبة للتحرك والتنقل داخل الفضاء الجامعي، فطالب التاريخ كان المفروض أن يتنقل بين الجامعات، على سبيل المثال لدراسة علوم الصحافة، اللغة الألمانية وحتى دراسة الرياضيات. كان من المفروض أن يكون الهدف من منظومة «إمد» فتح المسالك أمام الطالب لفتح آفاق جديدة في التشغيل، وإعطاء فرصة ثانية للطالب الذي فشل في اختيار الشعبة المناسبة، أو تمكين الطالب من فرصة ثانية للتميّز في الشعبة التي لم يستطع التوجه إليها.
المكون الثاني في الجامعة الأساتذة. هم كذلك يعيشون أزمة خانقة لكن دوافعها مغايرة. فأزمة الأساتذة الجامعيين هي قبل كل شيء أزمة قيم جامعية. لقد كانت مهمة الجامعي الرئيسية نشر العلم وتكوين الأجيال قصد مواصلة المشروع الوطني المتمثل في تحديث الدولة والمجتمع. لكن منذ أواسط التسعينات تنكر البعض لهذه القيم، و أصبح همهم الوحيد وشغلهم الشّاغل الحصول على منصب إداري. فأصبح البعض يتفنن في لحس الأحذية في وزارة التعليم العالي إلى درجة ممارسة الدعارة الأكاديمية. وأتذكر ما حدث لنا في شهر جوان سنة 2005، إبان الإضراب الإداري، عندما تحول بعض من الأساتذة إلى وشاة لدى الوزير وذلك للفوز بخطة مدير مؤسسة جامعية. ففعلوا بنا ما لم يفعله الوزير نفسه. وتمت مكافأتهم وتحصلوا على الإدارة والبعض منهم لا يزال في الإدارة إلى اليوم هذا، بل أطلق البعض العنان للحيته عسى أن تكون لهم الخطوة عند سلطة الإشراف، واختار الآخر «الثورجية» أصبح من كبار الثوار لعله بذلك يتحصن و يهرب من ماضيه فلا يحاسب.هؤلاء هم من دمر الجامعة التونسية ، تلونوا بكل الألوان كالحرباء ، وعاصرو كل الحكام و قدموا لهم الخدمات الجليلة على حساب القيم الجامعية .لذلك لا بد من كسر تقاليد المحسوبية وعلاقات الولاء الموروثة منذ عهود سابقة و التي لا زالت سارية المفعول إلى يومنا هذا كي يتنحى هؤلاء عن الجامعة. فوزارة التعليم العالي هي وزارة وليست ديوان عطاء. إن التفاضلية الجامعية تقوم قبل كل شيء على التفاضلية العلمية والفكرية والقيم الجامعية، وحدهم الأساتذة الذين عملوا على نشر المعرفة والعلم، وحدهم أساس كل إصلاح في الجامعة التونسية، فهم حماة العلم والمعرفة والقيم الإنسانية داخل الجامعة.
المكون الثالث في الجامعة السلك الإداري والعملة، لا بد من تحسين أوضاعهم الإجتماعية وتشريكهم في الحياة الجامعية، فقد أثبتوا عند الأزمات صدق انتمائهم لهذا الفضاء المعرفي وصدق دفاعهم عن الجامعة. وخير دليل على ذلك الدور الذي لعبوه للدفاع عن كلية الآداب منوبة بعيد 14 جانفي عبر الانخراط في الميثاق الجامعي و إنجاحه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.