لم يكن الامر يستحق دعاية أو إشهارا أو صرف أموال طائلة أو تجنيد سيارات وحافلات لنقل الأحبة ليشهدوا إحياء أربعينية حبيبهم. من كل الجهات جاؤوا من الحارات الشعبيّة ومن الأحياء الميسورة من الشمال ومن الجنوب من الشرق ومن الغرب يحملون صوره وعلم الوطن المخضب بدماء الشهداء ورايات الجبهة الشعبيّة التي كان احد مؤسسيها وبناتها والساهرين على انتشارها في الأرض، كما كان يحلو له أن يعلن في اجتماعاتها الشعبيّة. أربعون يوما على اغتيال الشهيد شكري بالعيد قد تنقص يوما أو تزيد تلك حكاية أخرى لا ينتبه إليها إلاّ المغرضون والمرضى من أصحاب النفوس الضعيفة الذين هالهم أن يهزمهم حيّا وميتا. أربعون يوما مرت ومازال الدمع يتدفق من العيون ومازالت رصاصة الاغتيال الجبانة تحرق قلوب أحبته ورفاقه وأصدقائه. لم تبرد نار الغضب في صدورهم ولم تقدر الأيام أن تنسيهم فقيدهم، فقيد الوطن. كان في انتظارهم روحا قلقة تهفو لزيارة الأحبة، من على هضبة سيدي بلحسن الشاذلي كانت روح الشهيد شكري بلعيد تشرئب إلى البعيد تسرّح البصر إلى كلّ خيال قادم باتجاه قبره ليلقي عليه السلام في أربعينيته ويجدّد له العهد والبيعة على مواصلة النضال من اجل الأهداف والمبادئ التي أستشهد من اجلها. كانت روحه تسأل في سرّها هل نسيني الرفاق ؟ هل باعدت الأيام بيني وبين أهلي وناسي وشعبي ؟ لم يطل السؤال فمع اشراقة يوم السبت 16 مارس 2013 كان الآلاف من الرفاق والأحبة يتقاطرون على مقبرة الجلاّز ولسان حالهم يقول: ها قد جئنا يا بلعيد. زيّن القبر بأكاليل الورد ودبت الحياة في الجلاّز بكت العيون ورفعت الحناجر بالشعارات وغنّى البعض من وجع الفراق أغنية ناظم الغزالي التي أعدتها إلى الحياة «ميحانا ميحانا غابت شمسنا الحلو ما جانا حياك بابا «حياك ألف رحمة على بياك» فأنشدت معه بصوت مبحوح وبخجل الأطفال وبضحكة تتقد فيها كل الاحتمالات الجميلة. وعند انتصاف النهار جاء من تنتظرهم الوالد والزوجة والإخوة والرفاق والأصدقاء وجددوا أمامك قسما مواصلة الدرب مهما طال وتقديم من اغتالوك إلى العدالة لتهنأ روحك وترقد بسلام. عشرة آلاف أو يزيد لا تهم الأرقام ودعوك وداع الأربعين واتجهوا نحو الجسر الذي مررت به مرارا وأنت تزور مهد طفولتك وريعان شبابك جبل الجلود، لعلّك وأنت تودعهم مزهوا تذكرت العراق التي أحببت وعشقت حدّ الهيام ففيها جزء من روحك العربيّة وعزّتها القوميّة وضميرك الإنساني، أو لعلك بالتحديد تذكرت « جسر المسيّب» جسر ناظم الغزالي الذي استثناه الشهيد صدّام حسين من ضمن كل جسور العراق بلفتة خاصة. ومن الجسر مرّ الأحبة إلى شارع قرطاج، قرطاج عليسة التونسيّة الأمّ المؤسسة وحنبعل التونسي البطل الذي أذلّ روما، روما التي بعثت اليوم فكنت الصوت القويّ الذي صرخ فيها «لن تغسل روما العصر وكلّ وكلائها الشرقيين رجليها في مياه المتوسط». في شارع الحبيب بورقيبة الذي احتضن آخر ملاحم التخلّص من رأس الدكتاتوريّة، كان الزحف قد وصل ذراه الآلاف غمروا الشارع طوفانا بشريا في انتظار وصول القادمين من الجلاّز. الآلاف من الشباب والشابات من نشامى تونس وماجداتها يحملون صورك رايات ويلبسون وجهك قناعا ليرهبوا من أرادوا تغييبك وإسكات صوتك. وحين التقى الجمعان كبر الكرنفال وتحوّل عرسا للوفاء والنضال والإصرار على استكمال ما ابتدأت. تداول على المنصة كل أحبتك، رفيقتك وبسمتك، رفاق حزبك، ورفيقك في الجبهة، وإخوتك في الاتحاد وقالت فيك المناضلة ليلى خالد القادمة من فلسطين التي أحببت كلام الكبار للكبار.