أغنية "ميحانا ميحانا" للفنّان الكبير ناظم الغزالي أصبحت منذ فترة تقريبا على كل لسان. يعود الفضل في ذلك إلى الشهيد شكري بلعيد وإن كان بطريقة غير مباشرة ولم يقع التّخطيط لها بل على العكس فإن المسألة تمّوت تقائيا وبمحض الصدفة. فقد أدّى الرّاحل الأغنية في برنامج تلفزيوني على قناة التونسية بطلب من منشّط برنامج وفجأة صارت الأغنية وكأنّها نشيد للحرية وكأنها أكثر الأشياء تعبيرا عن الشهيد شكري بلعيد. ربما لم يكن اختيار الفنانة يسرى المحنوش لنفس الأغنية لتقديمها في السهرة الختامية للبرنامج العربي"ذي فويس" أو أحلى صوت والذي حقّقت فيه نجاحا كبيرا ووصلت إلى الدور النهائي, ربما لم يكن اختيارها للأغنية مجرد صدفة فهي أغنية جميلة ومعروفة وصاحبها من بين أكبر الفنانين الذين عرفهم العرب كما أنها أدتها بشكل مذهل لكن الصدفة تمثلت في أن الناس أقبلت على أغنية "ميحانا ميحانا" وكأنّها تكتشفها لأوّل مرة بعد اغتيال شكري بلعيد. ويكفي أن نلقي نظرة على مواقع التواصل الإجتماعي عبر الإنترنيت حتى نقدّر حجم النجاح الجماهيري الذي حققته الأغنية بصوت يسرى المحنوش وكأنه شاء القدر أن يقع إنصاف الفنانة التونسيّة التي أبلت البلاء الحسن في سهرة الختام في البرنامج العربي وخذلها التصويت ولم تفز بالجائزة الكبرى للبرنامج التي آلت إلى منافسها المغربي. هل هي مجرد صدفة؟ لكن هل يمكن أن نعتبر أن انتشار أغنية "ميحانا ميحانا" لناظم الغزالي بسرعة البرق بمجرّد أن أداها الشهيد شكري بلعيد يعود فقط للصدفة أو هو فقط نتيجة تعاطف التونسيين مع الرجل الذي وقعت تصفيته بيد الغدر. ربّما لا نجانب الصواب إذا قلنا ذلك لكن انتشار الأغنية لا يعود لهذه الأسباب لوحدها. الفن الصادق هو الذي يبقى بعد أن تنتهي الأشياء الأخرى وتلك أصل الحكاية. غريب كم أن أغنية لوحدها قادرة على التعبير عما يجيش في نفس الناس. نذكر مثلا أن يوم تشييع جنازة شكري بعليد كان الكثيرون يترنّمون بكلمات الأغنية والدموع تسيل غزيرة من العيون. كثيرون لا يستطيعون وإلى اليوم مقاومة البكاء عندما يستمعون إلى الأغنية. لأنّها تذكرهم بشكري بلعيد وتذكرهم بلحظة حزينة. يكفي أن تنطلق الأغنية حتى يعود سيل من الذكريات. إنها ببساطة قد استولت على وجدان التونسيين وأصابتهم في العمق. ولعلنا لا نستطيع أن ننفي أن ترنم شكري بلعيد بأغنية ميحانا ميحانا فترة قصيرة قبل اغتياله ساهم في إعادة إحياء الفنان ناظم الغزالي وضخ الروح في الفن العراقي في تونس من جديد. نذكر والعهد غير بعيد أن الفنان حسين الأعظمي وهو قامة فنية رفيعة وهو أستاذ المقام العراقي بامتياز لم يجد ترحيبا كبيرا من الجماهير التونسية في مهرجان قرطاج الدولي. لقد وجد الأستاذ الكبير صعوبة في شد انتباه الجماهير في قرطاج رغم ما برهن عليه من قدرة عظيمة على آداء المقام العراقي كما أنه لم يستطع مسك الجماهير رغم آدائه الرهيب للموّال وللأغنية العراقية. وفي الحقيقة فإن كثيرين كانوا يخشون على مكانة الفن العراقي في قلب الجماهير العربية. لأن الفن العراقي هو أحد أعمدة الثقافة العربية. صحيح نجح كاظم الساهر وماجد المهندس وآخرون في الوصول إلى الجماهير لكن يبقى هؤلاء مشدودين إلى العصر أكثر منه من الحفاظ على الفن العراقي الأصيل. ولعلنا نشير في هذا السياق إلى أن المقام العراقي انضم إلى قائمة التراث الإنساني وتضعه اليونسكو على قائمة التراث الذي وجبت حمايته. لكن كيف يمكن حمايته إذا تحوّلت الأذواق عن هذا الفن. الفن الخالد واليوم وبفضل حركة ربما لم تكن مقصودة من شكري بلعيد لكنها نابعة عن ذوق فني كبير وعن حسّ مرهف عادت الحياة إلى الفنّ العراقي الأصيل وأصبحت الناس تترنم من جديد بأغنية لناظم الغزالي وأصبحت الناس تتساءل عن هذا الفنان الذي وكأن الرماد قد نفض عنه بلمسة سحرية وفجأة وبدون مقدمات تراجعت الأغنية المستهلكة والأغنية "السندويتش" واسترجعت الأغنية الأصيلة مكانتها في القلوب. وإن كان ناظم الغزالي صاحب "الميحانا ميحانا" غنيّ عن التعريف فهو من القامات الفنية العالية والتي تفخر بها المنطقة العربية فإننا نذكّر بأنه فنان عراقي ولد في بداية العشرينات من القرن العشرين وتوفي سنة 1963 وترك رصيدا كبيرا من الأغاني الجميلة. الجمهور التونسي -من الذين يفضلون اللون الطربي- يحفظ لهذا "التينور" العربي الكثير من الأغاني لعل من أبرزها" طالعة من بيت أبوها" و"فوق النخل" و"هلا هلا " و"يمّ العيون السود "وغيرها وقد غنى ناظم الغزالي لعمالقة الشعراء العرب القدامى والجدد على غرار المتنبّي وأبو فراس الحمداني وإيليا أبو ماضي وأحمد شوقي وغيرهم. ناظم الغزالي من العلامات المضيئة في عالم الأغنية العربية وقد كان مجددا رغم وفائه لبيئته ونقله للأجواء العربية الأصيلة وكان يملك حنجرة نادرة وقد كان بطبيعة الحال موهوبا جدا وصوته استثناء في الساحة الموسيقية العربية. ولعل ترنّم التونسيين بمئات الآلاف اليوم بأغنيته ميحانا ميحانا تكريما لروح شكري بلعيد فيه رد اعتبار كذلك لناظم الغزالي. تحية لروح الفنان العربي ولروح الرجل التونسي الذي أحيا بموته ذكرى فنان عربي لامع وجعل أغنيته تسكن قلوب التونسيين.