يعجز القلم واللسان عن وصف حالات تكون خارجة عن المنطق والمعقول لا تخضع إلا إلى قانون الغاب، وهذه حال مؤسسة «تكنوفار» لصناعة بلور السيارات بالمرناقية التي كادت تتحوّل إلى ما يشبه قضية الشرق الأوسط. فقد قيل في شأنها الكثير ودار لقمان على حالها وكأن القائمين على حظوظها لا يأبهون لا بالتشريعات الاجتماعية المنظمة للعلاقات الشغلية ولا بدولة القانون والمؤسسات، ولا يهمهم تجويع العاملين الذي يتواصل منذ أكثر من سنتين. ولعل ما يزيد في حيرة ضحايا هذه المؤسسة وهم بالعشرات أن خصمهم مازال على موقفه المتجاهل لأبسط الحقوق التي تكفلها قوانين العمل بما في ذلك العقد المشترك للقطاع ومجلة الشغل. وإذا كان لهذه الغطرسة ما يبرّرها في سنوات ما قبل الثورة، فإن ما لا يقبله المنطق أن يزداد صاحب هذه المؤسسة غطرسة وعنهجية بعد الثورة بالذّات، هذه الثورة التي قامت من أجل الحرّية والتشغيل والكرامة وطنية.. مأساة إنسانية واجتماعية ملف مجمع «تكنوفار» بالمرناقية فيه الكثير من الملابسات التي يطول شرحها والتي نعرضها في هذا التحقيق بعد استماعنا إلى بعض أطراف النزاع واستيعاب الإشكاليات العالقة. ودون الخوض في التفاصيل فإن الاستنتاج الذي يفرض نفسه هو أن هذه المؤسسة لا يمكن بأية حال من الأحوال أن تتعلل بالحجة الممجوجة والكاذبة والمسماة «صعوبات فنّية أو مالية»، لأن المشكلة الأصلية تتمثل وبكل بساطة في سوء التصرف والإهمال، وكان من المفروض أن تصبح هذه المؤسسة من أكثر المؤسسات الصناعية المزدهرة لا في تونس فقط، ولكن في مستوى القارة الإفريقية. وأن ما يزيد عمال هذه المؤسسة شعورا بالغبن والمرارة أن التكنوفار قامت في سنوات عزّها على كواهلهم وسواعد التقنيين والمهندسين وسائر الإطارات، وهم من خيرة الكفاءات في مجال اختصاصهم، لكنهم اليوم بدل أن ينالوا نصيبهم من الأرباح الوافرة التي كانت جنتها المؤسسة يجدون أنفسهم في ظروف قاسية، حتى أن أحد العمال اضطر إلى أن يتّخذ من إحدى زوايا المصنع مقاما يأويه وعائلته بعدما عجز عن كراء ولو غرفة واحدة فوق السطوح.. إنها مأساة إنسانية واجتماعية بأتم معنى الكلمة، وقد أخذ المكتب المحلي للاتحاد العام التونسي للشغل مسنودا بالمكتب الجهوي بمنوبة على عاتقه معالجة هذا الملف الذي دخل بالتوازي مع ذلك مرحلة التقاضي، وينتظر العمال على أحرّ من الجمر ما ستقوله العدالة للمرّة الثانية على التوالي، لكنهم متخوفون من تغوّل صاحب المصنع. وهل يعقل أن يكون هناك بعد الثورة من يدّعي أن له اليد الطولى وأنه فوق القانون يرتكب ما شاء له أن يرتكب من التجاوزات وفي ما يلي بعض حيثيات الملف. حدثان لا ثالث لهما أعادا هذا الموضوع إلى مسرح الأحداث حسب تصريحات المهندس أسد الذوادي الموظف بمجمع تكنوفار. القضاء يقرّر الإحالة على الغير - الأول، مسألة تنفيذ حكم صادر عن محكمة الاستئناف بتونس يقاضي بإحالة شركات المجمع إلى الغير، وقد تمّ في الغرض تقديم عروض شراء كان أفضلها في حدود ميارا و700 ألف دينار مع محافظة الشاري على جميع مواطن الشغل، وهو عرض وصفه الجانب النقابي - في غياب عروض أخرى - بالمرضي والأسلم لحلّ مشكلة أعداد كبيرة من العمال المطرودين منذ جانفي2011، رغم أنه لا يمثل السعر الحقيقي للمؤسسات المحكوم ببيعها للغير. ولاحظ بعض الذين تحدثنا إليهم من أعضاء نقابة المؤسسات الأربعة وإطاراتها وفنييها أن القضاء طمأن العمال بالحسم في هذا الأمر بصفة نهائية يوم 11 مارس 2013، تمّ ذلك إثر تحرّكات عمالية جدّت أمام المحكمة بسبب تأجيل الجلسات التفاوضية. لكن قرار المحكمة في اليوم المزعوم جاء مخيبا للآمال حيث قضت بإعادة طلب تقديم عروض الشراء والإذن للمتصرف القضائي (الممثل القانوني لشركات مجمع تكنوفار) بإبلاغ «الباطرون» ياسين بن عزالدين بالأحكام الشغلية الصادرة ضدّه لصالح العمال وهم بقيمة جملية بلغت مليار و700 ألف دينار بدل أن تطلب منه تقديم طلب في الاستئناف. فساد مالي وإداري - الثاني، قضية الفساد المالي والإداري التي قدّمتها النقابة باسم العمال ضد صاحب العمل ياسين بن عزالدين الذي أوصل المؤسسة إلى حالة إفلاس لا مخرج له منها، وما أكده الخبراء رياض اسطنبولي وحاتم نقرة في تقريرهما بتاريخ 30 مارس 2012 وهو موضوع تم تداوله بمكتب التحقيق الأول بمحكمة منوبة الابتدائية منذ مارس 2011 من قبل 5 قضاة تحقيق من بينهم قاضي تم إعفاؤه بعد شهر من صدور بطاقة إيداع بالسجن ضدّ صاحب العمل بناء على تقرير الخبيرين. وحسب المهندس أسد الذوادي فقد صرّح قاضي التحقيق « مازلنا ننتظر ردّ البنك المركزي وردّ وزارة المالية بخصوص كشوف حسابات شركات مجمع تكنوفار ومبيعاتها ومشترياتها وحسابات العائلة لإثبات الفساد المالي المزعوم من العمال ونقابتهم الأساسية والذي أكده تقرير الخبراء». الحقيقة أن رسائل وجهت في الغرض من قاضي التحقيق إلى وزير المالية (18 ماي 2012) ومحافظ البنك المركزي (9 ماي 2011) ومن النقابة إلى محافظ البنك المركزي (9 ماي 2012) ومن الخبراء إلى محافظ البنك المركزي (25 سبتمبر2011، وإلى يوم الناس هذا لا جواب.. وهو ما يدعو إلى الشك - حسب المهندس أسد الذوادي في وجود أيادٍ خفية تحمي الفساد من وراء الستار؟ حيث اتضح أن الأستاذ عبد الرزاق الكيلاني الوزير السابق في حكومة حمادي الجبالي هو محامٍ صاحب العمل ياسين بن عز الدين وقد كلف مكانه عندما عيّن وزيرا الأستاذ عثمان شقرون شريكه في شركة المحامون المستشارون المتحدون الكائنة بنهج 8002 عمارة فضاء تونس مدرج (أ) الطابق الخامس بجهة «مونبليزير» بالعاصمة. يوم الغضب تلك هي مجموعة الأسباب التي دفعت يوم 26 مارس 2013 عمال مجمع تكنوفار بالمرناقية إلى تصعيد نضالهم وتنفيذ وقفة احتجاجية أمام مقر العمل المغلق في وجوههم منذ أكثر من سنتين سمّيت «يوم الغضب في التكنوفار»، حيث أغلقوا الطريق المؤدية إلى العاصمة (ج ب 5) وحمّلوا الحكومة مسؤولية تردّي أوضاعهم بسكوتها عن الفساد الإداري والمالي الذي أربك هذه المؤسسة وعدم السعي إلى استئناف قطب صناعي وطني لنشاطه وهذا أمر تدركه النقابة الأساسية جيدا، لأنها عقدت عديد جلسات العمل المطولة مع حكومة ووزراء بن علي ثم مع حكومة الباجي قائد السبسي وحكومة حمادي الجبالي وتحديدا مع وزير العدل نورالدين البحيري ووزير الصناعة السابق محمد الأمين الشيخاوي ومحمد عبوّ وسمير ديلو من الأيام الأولى لتوليهم مناصب في حكومة الجبالي. ومحرزية العبيدي نائبة رئيس المجلس التأسيسي وجميعهم على علم بأدق تفاصيل، دون أن يعرف ملف التكنوفار حلحلة تذكر باتجاه الصلح بل بالعكس فقد ساد العمال إحساس بزيادة استقواء صاحب العمل الذي ما كانت ممارساته لتتمّ لولا الدعم والحماية التي يحظى بها بدليل أنه بعص صدور حكم قضائي في شهر ماي 2012 بإحالة المؤسسة إلى الغير كان المفروض أن يعود النشاط إلى سالف نسقه ويعود العمال إلى شغلهم، لكن الغريب أنه تمّت عرقلة شركات مجمع «تكنوفار» عندما سمح صاحب المؤسسة لنفسه باستئناف الحكم في محاولة منه لربح الوقت وتفويت الفرصة على العمال ليحرمهم من التعويضات المستوجبة قانونا. والنتيجة أن ظلت شركات مجمع تكنوفار عاطلة وقاصرة عن أي نشاط إنتاجي وتجاري البلاد في أمس الحاجة إليه. صعوبات مفتعلة ولنا أن نشير كذلك إلى أن عمال المصنع وممثليهم النقابيين التابعين للاتحاد العام التونسي للشغل كانوا طلبوا في 2 ماي 2012 من وزير العدل إنقاذهم من عبث العابثين بموارد رزقهم وأكدوا أنهم يعيشون منذ سنة 2008 وضعية اجتماعية مزرية للغاية خطط لها صاحب العمل بإقدامه على تفليس شركات المجمع من خلال إثقالها بالديون البنكية وغيرها وتحويل الأموال المنهوبة إلى حسابات بنكية عائلية في الداخل والخارج وإلى عقارات وذلك استباقا إلى ما يمكن أن تؤول إليه القضايا المنشورة ضدّه لدى الدوائر القضائية.. وقال العمال أن صاحب مجمع «تكنوفار» قام ببيع معدّات الانتاج إلى شركات عائلية وامتنع عن تزويد المجمع بالمواد الأولية ليبرّر عدم قدرته على خلاص أجورالعاملين وبالتالي يطردهم من العمل تحت غطاء الأزمة الاقتصادية. ويذكر أنه في يوم الغضب الذي نفذ فيه عمال مجمع «تكنوفار» وقفة احتجاجية قطعوا أثناءها الطريق العام وأحرقوا بعض العجلات المطاطية، حضرت السلطة الجهوية وتفاوضت مع ممثلي المحتجين بحضور والي منوبة وفكّ الاعتصام من أمام مقرات المؤسسة في المرناقية في انتظار نتائج المشاورات وما سيفضي إليه التقاضي بهذا الخصوص. وبالفعل حملت النقابة والي الجهة مسؤولية تدهور الأوضاع في«التكنوفار» لأنه على علم بمجمل دقائق وتفصيلات هذه القضية منذ اليوم الأول لتسلمه مهامه على رأس ولاية منوبة، لكنه لم ينجز شيئا حسب العمال والإطارات والفنيين والمهندسين بل أكد عند لقائه بهم أنه لا يستطيع فعل أي شيء لأن الموضوع بيد القضاء. بينما كان إلى الحكومة- حسب رأي العمال - اتخاذ ما يلزم من الإجراءات الفورية لانقاد هذا القطب الصناعي وحماية أكثر من 150 موطن شغل قار من أصل 300. ويدكر أن الاتحاد الجهوي للشغل بمنوبة واكب جميع تحركات العمال وأطرها وهو يتبنى جميع قضاياهم ومطالبهم في انتظار حكم المحكمة. إن الموضوع بيد القضاء لكن النقابة أعلمته بأنه المسؤول الأول فس حين أن العمال أكدوا أنهم يعيشون منذ 2008 وضعية اجتماعية مزرية خطط لها صاحب العمل من خلال اقدامه