وفي البدء كانت الحركة حدثا أدهش فاعله، أربك صمتَ الكون. تمايلت السدرة في العلياء وأصيب العرش بنوبة حبّ ففاض الخلق وخرج الخالق من وحدته، علمنا الأسماء ثم تعالى ... في البدء كان النص، ألقى عصاه فإذا هي آيات خلفه تسعى... أشجار تتخير أسماءها قبل طلوع الفجر، تسرّح في القيلولة شعرها وتراود قمرا عن عزلته أناء الليل ... عصافير تنشر صحف القلق الأول ترتل حزن عجوز في القطب المتجمد وبكاء وُعول ...في البدء كانَ ثمّت هسهسة ورأينا «بارْط» وحيدا على قمم الهملايا يحاول فكّ اللغز ...في البدء كانت «حركة نص » ف«عمّ يتساءلون ... عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون » « لم نلتق إلا وداعا عند مفترق الحديث ». وحده مقهى النصّ اتسع لرؤانا، تلك الملتاعة بالإنسان بتوتّرنا الدائم بتناقضنا المذهل نأتيه فرادى وجماعات نتقمص بين فضاءاته أدوارا يحصل أن ننساها فيتذكرها النص ... النص لا ينسى ولكنه يوهم بالنسيان ... النص ذخيرتنا ضد المرتدين على الوردة ... طوق حمامتنا ... حمامتنا البيضاء ... البيضاء كقطعة ثلج في متصوّر بدويّ ... في مقهى النصّ كان تصادمنا العفوي جئناه من القرن الرابع للهجرة من رحلة طرفة بن العبد إلى حتفه من عمق في الذاكرة العربية من وجع حتميّ من قلق لم تتحمله الريح وفي مقهى النصّ أردينا النسيان قتيلا ... وحده مقهى النص اتسع لرؤانا ذات الخال الأسود والعشرين ربيعا; المهياف شقيقة ما لا يأتي المحفوفة بالألغام في مقهى النص تنزاح الألغام عن صيغتها الأولى تخون مكوّنها الجينيّ الألغام تفكك نفسها فنعيد التركيب يا للروعة لقد صارت حلما ... مقهى النص كي لا تخطئ دربه يوجد في ناحية من قلبك فتفحص دقاته ... نرتاده في اللاّوقت أجلنا مواعيد ونحرنا على عتبات المقهى نوقا عرجاء تركنا الساعات اليدوية للمهووسين بزيف الوقت وتركنا عقاربها تلسع من لم يتفحّص بعد دقات القلب فاخطأ درب المقهى ... عليه اللعنة ... لا غير. لا دستور لنا ... أكرر .. لقد جئنا على قلق لم تتحمّله الريح فكن ريحا ما شئت. توضّأ قبل دخول المقهى بقراءات ... تطهر من خوضك في اللاّشيء تعمّد قبل دخول المقهى وكن كفؤا للمعنى، لأناشيد البحارة في العصر الهيليني لطقوس عبور في القرن الافريقي ... هل قرأت رسائل كافكا إلى ميلينا ؟ إن لم تفعل هذا فامكث في البيت في إمكانك مثلا أن تحصي أطرافك أو أن تطبخ شايا في أوقات فراغك في إمكانك مثلا أن تغرق وجهك في المانقا ... ولكن يتعذر إن لم تقرأ «كافكا» أن تدخل مقهى النص ... فتوضأ قبل دخول المقهى بقراءات ... النص قراءات ... هل صادف أن عرفت امرأة بأناقة «جوليا كريستيفا» ... النص قراءات ... إن لم يحصل أن صادفت امرأة بأناقتها فمن المتعذر حتما أن نتصادم في المقهى ... مقهى النص ... النص قراءات ... سألتني صباح اليوم فتاة في الخامسة كانت تحمل لمجتها وقطعة شوكولاطة : أليس النص قراءات ؟ فأجبتها : هذا بديهي جدا بالضبط كلمجتك بالضبط كقطعة شوكولاطة. من لم يقرأ فتوحات الشيخ وطواسين القطب الأعظم دواوين الشعر العربي قديما وحديثا كتب النقد من لم يتوضّأ بالدم ومن لم يشرح صدره للإنسان سيخطئ نعلُه مقهى النصّ، قد يدخل بارا في مدن فقدت عذريّتها أو يدخل كهفا أو قفصا صدريا ولكن من المتعذر أن يدخل مقهى النصّ. في مقهى النصّ يجلس «بودلير» إلى حيرته، «أدونيس» إلى مهياره «درويش» إلى زهرة لوزه، والمتنبي إلى أشراط نبوءته .. سركون بولص .. وبول شاوول .. وفتاة الشعر الأرجنتيني تعاتب ملك الموت ... في مقهى النصّ ... لا نتشابه ... نحن مختلفون تماما مختلفون كما لن تتصور أبدا لكل فجره ولكل شكل صلاته لكل سمته ألم أقل لك « لا نلتقي إلاّ وداعا » إننا نكتب هذا الوداع ... إذا كنت لا تحسن كتابة وداع فدونك النصّ ومقهاه. مقهى النصّ امتداد وفي الامتداد يتسع البحر يشكل إيقاعه لا أحد يرث أحدا ولا أحد ينقطع عن أحد الوريث الوحيد هو النصّ. النصّ اتصال دائم مساحة للرقص الحرّ للولادة الحرة وللموت الحر، البقاء للنص يرث المقهى وما عليها. النص حالة سِلْم، إننا لا نقتل أحدا في مقهى النص كل شيء يتخذ شكلا جديدا لولادته. واهم من يصور نفسه قاتلا وواهم من يصور نفسه مقتولا. ليس للنص أب كلّنا أبناؤه ... ومثلما أن التبنّي ضرب من الوهم فالقطيعة وهم أكبر منه ...لا قاتل هنا ولا مقتول من يدخل مقهى النصّ فهو آمن أن الشابي ليس شجرة ولم يغطّ غابة، الغابة لا تغطيها شجرة، الشابّي يصلّي في هيكل حبّ، هكذا كنا نراه وسيظل في مقهى النص ... الطواويس يتعذر عليها أن تدخل مقهى النص ... الكتابة انحناءة لجلال النص، إنها فعل تواضع أو لا تكون. المقهى أزليّ، إنه كالحركة أدهش فاعله، وفي البدء كانت الحركة، كل متحرّك مربك بالضرورة، كل متحرك يحتشد أعداؤه في الساكن ... الساكن هو الذي لا يقرأ، هذا ما فهمته تلك الفتاة التي كانت تحمل لمجتها وقطعة شوكولاطة ذلك الصباح ... هكذا إذن أفهم «حركة نصّ»، إنها تَجاوز للمفهوم النمطيّ للانتماء وكل تحديد فيها لا يُلزم إلا صاحبه ولا يبرح أرضه، إنها معادل موضوعي للاختلاف وكل محاولة لمأْسَسَتها أو لتجويفها أو لقوْلبتها جناية في حقّ الحركة بما هي إرباك، بما هي دهشة، بما هي حرية وجريمة في حق النص بما هو قراءة، بما هو تعدّد ... حركة نص امتداد داخل القطيعة وقطيعة داخل الامتداد، إنها موقف مضادّ للقبح المستشري في المشهد الثقافيّ التونسي وفي الشعريّ منه خاصّة مضادّ للانتهازية الثقافية للتسطيح الذي نال من العملية الإبداعية وأحالها إلى دسائس تُحاك بعناية وإلى أعراض نأت بالكتابة عن جوهرها وحشرتها في دوائر من المكر والممارسات التي يتقنها أولائك الذين اتخذوا من الكتابة سبيلا إلى تحقيق مآرب أبعد ما تكون عن حقيقتها كما تمثلناها قراءة ومعاناة، صقلا للذات ونحْتا للكيان. حركة نصّ تواصل مع كل جميل وقطيعة مع كل قبيح. حركة نصّ ولادة متجدّدة لا قاتل فيها ولا مقتول سرب متفرّد غيرة على النص ودفاعا عن وجوده الذي عكّرته المعارك الوهمية والحسابات الشخصية والغايات الآنية إننا عباد النصّ وسدنته، نحترق لتظل جذوته وأما أولائك الذين حققوا لأنفسهم مآرب وظفِروا بالرّخيص من الغايات متوسّلين بالنصّ فسيحرقهم النصّ، سيلفظهم سيلقي بهم في العدم، إنما الحكم للنص وحده والحكم على النص «فاخرجوا من جرحنا ... اخرجوا من جرحنا». هكذا أفهم حركة نصّ. هكذا دخلت مقهاها حيث لا شيء يجمع بيننا إلا الغياب، الحاضر هو النصّ، لا شيء يجمع بيننا إلا النسيان. الذاكرة للنصّ ...لا شيء نتقاطع فيه إلا تعدد قراءاتنا ورؤانا ... إن لم تكن حاملَ رؤيا إن لم تكن قارئا فعليك لعنة النص ... اللّعنة لا غير ... هكذا رددت تلك الطفلة، الطفلة التي كانت تحمل لمجتها وقطعة شوكولاطة. الأستاذ والشاعر :شفيق طارقي عضو «حركة نصّ».