لم تستطع الاحزاب الحاكمة، ولا الموالون لها من فئة «الثورجيّة الجدد» أن يستوعبوا بعد، أن في البلاد مؤسسّات، وأن بها منظمات عريقة، تعرف الشعب ويعرفها، وتعرف الساحات والمعارك، وخبرت السجون والمعتقلات وما طأطأت يوما، وتعرف أيضا أين ينتهي مربّع تدخّلها لكنها تدرك أكثر اين تبدأ مصلحة البلاد العليا، فتقف عندها. فالتهديدات التي ما انفكّ الاتحاد يتلقّاها منذ صعود هذه الاحزاب الى السلطة، واستقوائها بالاجنحة الارهابية، والرابطات العنيفة، التي كوّنتها من فلول التجمّع المنحلّ، ومن سقط المتاع من خرجي السجون، لا تنفكّ تتصاعد يوما بعد آخر، حتى وصل الامر الى غاية الخطورة، يوم أول أمس، بتلقي الاتحاد تحذيرات من جهات أمنية باحتمال حدوث اعتداءات مسلحة على المقر المركزي وبعض القيادات، وذلك في محاولة محمومة لنفث غلّهم على منظمة حشاد، التي مثّلت لهم العائق الكبير في طريق برنامجهم الرامي الى الاستيلاء على البلاد وتدجينها لصالحهم، والتي أثبتت بالفعل أنها تبقى دوما محلّ اجماع من أبناء الشعب التونسي بمختلف أطيافه، وتبقى الملاذ الاخير لكل الفرقاء مهما اختلفت توجهاتهم وآراؤهم. فهذا الدور التعديلي الذي يلعبه الاتحاد بامتياز، والذي استطاع خلال قرابة الثلاث سنوات الفارطة، أن يوفٌّ فيه بين العمل المطلبي اليومي العادي الذي يهتم بشؤون العمال والاجراء وبكل الطبقات الكادحة، وأن يقول كلمته في الشأن الوطني، وأن يتحمّل مسؤولياته، انطلاقا من الثورة التي حماها في مقراتها، وأطرّها بقياداته ومناضليه، وصولا الى القصبة واحد واثنين، وما تكبده الاتحاد من اجل اسقاط حكومة الغنوشي الاولى التي اعتبرت امتدادا لنظام بن علي، واثر ذلك ما تحمله من مسؤوليات صلب الهيئة الوطنية لحماية الثورة والانتقال الديمقراطي، الى أن أوصل البلاد الى الاستحقاق الانتخابي ل23 أكتوبر 2011، والتي تحمّل الاتحاد العبء الاكبر في انجاحها. بعد انتخابات 23 أكتوبر، بدأت الاطراف التي لم يكن في حسبانها انجاح المسار الانتقالي الديمقراطي، بل فقط كانت تخطط للهيمنة، بدأت في اظهار عدائية غريبة تجاه الاتحاد، وبدأت في استفزاز النقابيين والتطاول على المنظمة العريقة، بدل مكافأتها على وقفتها البطولية في طليعة الشعب والثورة، وبدل أن تمد حكومة الترويكا يدها الى الاتحاد، وتفتح معه كل ملفات الوطن والمواطن، فانها سارعت الى اغلاق الباب في وجه النقابيين، واستعداء الشارع عليهم، وأطلقت حملة شيطنة ضدّ بطحاء محمد علي لم يعرف لها التاريخ السياسي لتونس مثيلا. لكن الوقفة البطلة لابناء حشاد، وصمودهم، وتعليمهم من يستهدفهم دروسا في الوطنية والشجاعة، جعل هذا الاستهداف يتحول الى منهج عمل لدى الاطراف الحاقدة، وتطوّر الوضع الى استنباط ميليشيات مهيكلة ومنظمة ومرخصة قانونيا، مهمتها الوحيدة ضرب الاتحاد وحرق مقراته، وحتى رمي الفضلات أمام مكاتبه وفي ساحاته، في حركات لا تنمّ الا عن سوء النية والقصد، ولا تشي الا بحقارة مرتكبيها والمحرضين والدافعين لهم. هذا الاستهداف الممنهج، عرف أكبر تجلياته في هجوم 4 ديسمبر البربري على مقر الاتحاد، في عملية وحشية لا يمكن فهمها الا لمن عرف صراعات القبائل البدائية وغاراتها للسلب والنهب والتدمير والانتقام. ولم تمر الحادثة بدون تبعات، اذ تكالب أنصار الحُكم على الاتحاد وبدؤوا في نسج الدسائس والمؤامرات، فكانت بدعة الاصلاح النقابي الديمقراطي وركضها المحموم لتقسيم الاتحاد واضعافه، وكان التغاضي على منظمات موازية تشتغل بدون ترخيص، وحتى دعمها والتحالف معها إن لزم الأمر، واستمرت حملة التشويه للقيادات النقابية فردا فردا، والتعرض لحياتها الخاصة، ونسج الأكاذيب والأراجيف والادعاءات، وفبركة الملفات، وتزوير الحقائق وقلب التاريخ، وأصبح أولئك الذين لم يجدوا يوما مكانا يستظلون به إلا ساحة محمد علي، أبطالا وثوارا مقابل الاتحاد الذي وسموه بكل النعوت البالية والبغيضة. وتماديا في غيّهم، وأما الخسائر المتلاحقة التي منيت بها حملتهم الشرسة، مرّوا الى طور ثان من الاستعداء والاستهداف، وتقدمت لغة التخوين درجة أخرى لترتقي الى مرحلة التكفير، وصار التهديد بالقتل والتصفية الجسدية، أمرا يوميا بالنسبة لأعضاء قيادة الاتحاد ومسؤوليه، وأصبحت حياة النقابيين في خطر دائم، خاصة مع ثبوت أن هؤلاء الذين قتلوا شكري بلعيد ومحمد البراهمي، قتلة بالسليقة ومجرمون بالبداهة، ولا يتورعون عن سفك الدماء، طالما انها تخدم مصلحتهم. هذا التطور النوعي في التهديد والاستهداف الممنهج، والمحاولات الدؤوبة لاقتلاع منظمة حشّاد وإخراجها نهائيا من المعادلة، لم تفلح، بل بالعكس أظهرت مزيدا من الصلابة والقوة والوحدة في صفوف الشغالين، وجعلت الاتحاد محور العملية السياسية، وقلب الاستقطاب الوطني، ورأس الحراك الاجتماعي، وتقدمت المنظمة الشغيلة خطوات عملاقة على درب البناء الديمقراطي لتونس، وتصدّت بمفردها أولا، وبمعية باقي المنظمات الأخرى ثانيا، لأكبر أزمة عرفتها تونس منذ الاستقلال، وتمكنت من جمع كل الفرقاء حول مبادرتها، وأرغمت الجميع على الرضوخ لمنطق مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. هذا النجاح العملاق، لم يرق لمن حاول على مدار سنتين أن يفشل الاتحاد وان يقضي عليه، فاشتغلت آلة الترهيب من جديد، وبأكثر عنفا هذه المرة، واصبح مقر الاتحاد مهددا بالتفجير، وقياداته مهددة بالقتل، بل مرّ الامر حتى الى أبنائهم وأفراد عائلاتهم، وأصبح النقابيون يعيشون في جوّ من الحرب المفتوح عليهم، لكنهم مع ذلك قالوها عالية: لسنا وسطاء ولا بوسطاجية، نحن أصحاب مبادرة، ونحن ابناء تونس ونعرف مصلحتها، ويعنينا استقرار بلدنا بالدرجة الاولى. ومع تواصل اصرار الاخرين على ضربه، وتهميشه، واخراجه من اللعبة، يزداد صمود الاتحاد وعنفوانه، ويستمر في اضطلاعه بمهامه الوطنية على أحسن وجه، وينجح في جمع الفرقاء، وفي تقريب وجهات النظر، وينجح أكثر خاصة في تجنيب البلاد مزيدا من التوتر والتأزم. هذا الدور الذي يلعبه الاتحاد اليوم لا يقل أهمية عن الدور الذي لعبه المؤسسون الاوائل أيام الثورة التحررية من ظلم الاستعمار وقهر الديكتاتورية، عندما لم يفرّقوا بين مهامهم النقابية وواجبهم الوطني، وهو نفس الدور الذي أحرج بورقيبة وبن علي، يحرج حكام اليوم، ويجعلهم يعرفون جيدا أنهم بمواجهة قوة اجتماعية وعقل سياسي ووحدة جماهيرية، لا يمكن الا التعامل معها بالحوار.