نودّ، بداية، التذكير بأنّ الاتحاد العام التونسي للشغل قد اختار منذ نشأته أن يلعب الدور الوطني الذي يتجاوز المطالب الآنية لمنظوريه والشغالين عموما، واختار أن يكون له دور ريادي في استقلال البلاد وتحريرها من براثن الاستعمار. كما اختار بحكم مبادئه التأسيسية، أن يكون في مواجهة تعسف السلطة واستبدادها ، خاصة في الفترة البورقيبية، مما دعا السلطة إلى محاولة تحجيم دوره، بل والقضاء عليه، عبر الزج بقياداته في السجون او الإيعاز بتكوين نقابات موازية. ولم تخل فترة حكم بن علي ، على امتداد 23 سنة من صراع لم يكن معلنا أحيانا وخافيا أحيانا أخرى، رغم الإرادة المشتركة بين السلطة وقيادة الاتحاد لتفادي المواجهة. فالسلطة بحساباتها الأمنية تدرك خطورة الدخول في مواجهة مع منظمة بحجم الاتحاد العام التونسي للشغل، كما تدرك أنها ليست مضمونة العواقب، وقيادة الاتحاد التي تعايش ما تواجهه منظمات مستقلة، مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وجمعية النساء الديمقراطيات وجمعية القضاة الشرعية وجمعية الصحافيين والاتحاد العام لطلبة تونس من قمع ومحاصرة وهرسلة قضائية وانقلابات على شرعيتها، وذلك على خلفية مواقفها الواضحة من السلطة، تدرك مخاطر الدخول في صراع مباشر معها، فاختارت المسايرة في اغلب الفترات. إلا أننا لا نستطيع أن ندرك حجم دور الاتحاد خلال الانتفاضة الأخيرة ولا أن نتمثّل الدور الذي يلعبه في مرحلة الانتقال الديمقراطي دون ان نعي ابعاده التاريخية وطبيعة تكوينه وتوجهاته وعلاقته المتميّزة بمختلف مكونات المجتمع المدني . فبحكم خلفيته التاريخية يتحمل الاتحاد مسؤوليته الوطنية في كل منعرج حاسم تمر به البلاد ، من ذلك بلورة مطلب الاستقلال الوطني الذي جاء قبيل اغتيال فرحات حشاد ، جاء في فترة دقيقة، حيث احتد التناقض بين شعب يتوق للتحرر واستعمار يداري هزائمه المتعددة بمزيد القمع والتسلط ، تماما مثل ما حصل خلال فترة الانتفاضة التونسية الاخيرة، حيث استفحل التناقض بين مواطنين ونخب تتوق للكرامة والحرية والشغل وبين نظام قمعي فاقد للشرعية القانونية، وحتى الأخلاقية، كما ان انصهار مختلف التيارات السياسية والإيديولوجية داخل الاتحاد، وان ساهم في اضعاف الحياة السياسية وحدّ من نشاط الاحزاب، وضيّق افقها، حيث انحصر نشاطها فيما يسمح به فضاء المنظمة وقوانينها وإمكانياتها، الا انه كان عامل اثراء وتنوع، وساعد على وحدة المنظمة وتماسكها ودعم قوتها. الى ذلك، منذ البدايات الاولى لتكوّن منظمات مجتمع مدني تونسي، ربط الاتحاد علاقات محدودة احيانا ومتطورة أحيانا أخرى بالعديد منها، فكانت له علاقة خاصة بالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان منذ بدايتها، حين كان الدفاع عن القيادة الشرعية المسجونة اثر الاضراب العام في 26 جانفي 1978 اول اختبار لمصداقية استقلالية الرابطة ودفاعها عن الشرعية. وقد توطدت هذه العلاقة في السنوات الاخيرة بحكم التغيير الذي طرأ على العمل النقابي والحقوقي، اذ بدأ الوعي بادراج المطالب الاقتصادية والاجتماعية ضمن الحقوق الاساسية للمواطنين، وكذلك فرضت العولمة المتوحشة وتبعاتها الكارثية على العمل النقابي تحديات كبيرة تستوجب التنسيق مع كل المنظمات غير الحكومية التي تطالب بعلاقات اقتصادية واجتماعية اكثر عدلا، وقد تكرس هذا التنسيق في لقاءات المنتديات الاجتماعية العالمية، وانعكس هذا التنسيق في عديد المحطات ، نذكر منها على سبيل المثال، احتضان بعض الاتحادات الجهوية لنشاطات الرابطة، خاصة عند محاصرتها من قبل السلطة والسطو على مقراتها، وذلك رغم معارضة النظام، وحتى وان بقي هذا الاحتضان محدودا ومقتصرا على ثلاثة او أربعة اتحادات جهوية إلا انه فتح الباب أمام مزيد التنسيق والعمل المشترك. كما ان احتضان الاتحاد العام التونسي للشغل للجلسة العامة للمنتدى الاجتماعي التونسي، سنة 2005 قد كان بداية جنينية لمزيد التنسيق بين مختلف مكونات المجتمع المدني والاتحاد وفتح الباب امام مزيد التواصل والتنسيق والعمل المشترك. وقد أخذ التنسيق احيانا اشكالا غير معلنة ، تماشيا مع امكانيات الاتحاد وموقعه وعلاقته بالسلطة، مثل ذلك التنسيق الذي وقع خلال انتفاضة الحوض المنجمي، بين العديد من الحقوقيين وبين قيادة الاتحاد من اجل إطلاق سراح الموقوفين أو مساعدة عائلاتهم او حشد الدعم لهم، داخليا وخارجيا، وسيلعب هذا التقارب دورا مهما خلال الفتترة ما بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011، خاصة في غياب الاحزاب السياسية التي كانت تعاني الضعف والتشتت ، نتيجة ما عانته من قمع، وما راكمته من سلبيات نتيجة الصراعات والانقسامات، اذ بقي للاتحاد الذي لم يفقد مقراته ان يلعب دور الحاضن لكل التحركات الميدانية التي كانت تواجه السلطة، وقد كان في الآن نفسه، فضاءً يحتضن كل مكونات المجتمع المدني ووسيلة ضغط على السلطة عبر المظاهرات والاضرابات الجهوية، وان كانت مواقف القيادة المركزية ، في البداية خاصة، مرتبكة ومترددة، فان الدور الذي لعبته الهياكل الوسطى، اتحادات جهوية، نقابات عامة وهيئات إدارية ، قد حسم الموقف وقطع مع الارباك والتردد وعجّل بنهاية نظام بن علي. الفرحة غير المنتظرة بسرعة نهاية الطاغية لم تحجب حجم التحديات التي رافقت المرحلة الانتقالية، حسب رأيي، سعى الاتحاد منذ البداية للتنسيق مع المجتمع المدني، بعد 14 جانفي، وسعى الى ملء الفراغ السياسي والمؤسساتي الذي خيّم على البلاد، وسعى الى ترجيح كفّة القوى الوطنية والديمقراطية التي كانت ترنو الى بناء دولة ديمقراطية، في مواجهة القوى التي كانت تسعى لمصادرة الثورة وعودة بقايا النظام السابق، وكان للعديد من منظمات المجتمع المدني وبعض الاحزاب اليسارية دور هام في اسقاط الحكومة الاولى ذات الاغلبية التجمعية وحل التجمع الدستوري الديمقراطي والمطالبة بمجلس تأسيسي يخطّ مبادئ دستور جديد، واليوم تطرح على المجتمع المدني ومن ضمنه الاتحاد تحديات عديدة، منها ما هو ناتج عن مخلفات سنوات عديدة من القهر والظلم والفساد الاداري والمالي وغياب التوازن الجهوي واهتراء البنية التحتية وضعف المستوى التعليمي، وشبه العجز السياسي الناتج اساسا عن غياب عقلية التوافق والتنسيق والعمل الجبهوي لدى الاحزاب السياسية الديمقراطية، مما لايساعد على التأسيس لتداول ضروري على السلطة، ومنها تحديات محدثة، مرتبطة بنتائج الانتخابات، وبروز عقلية الغنيمة لدى السلطة، واستعداء الرأي المخالف واستهداف المجتمع المدني، وخاصة الإعلاميين والنقابيين والحقوقيين، ولعل اعتصام عناصر قريبة من النهضة لمدة خمسين يوما امام مقر التلفزة ورمي الفضلات امام دور الاتحاد والقمع الوحشي الذي جوبهت به مظاهرتي 7و9 افريل، والتهديد بخوصصة وسائل الاعلام العمومية ان هي لم تدخل بيت الطاعة، والصمت المشبوه تجاه التحركات السلفية المتجاوزة لكل القوانين والاعراف، ابتداء من اعتصام منوبة والاعتداء على الطلبة والاساتذة وتدنيس العلم ومرورا بامارة سجنان وترويع النساء في الشوارع، لن تطرح تساؤلات فقط حول نية الحكومة المؤقتة في تطبيق القانون، بل تستوجب وقفة قوية وحازمة من مكونات المجتمع المدني حتى لا يعود القمع تحت مسميات جديدة، وقد اضيفت الى هذه التحديات مؤشرات جديدة ، منها التهاب الاسعار التي أثقلت كاهل المواطن وعجز الحكومة على الحد من مظاهر الاحتكار وانشغالها بالصراع مع خصومها السياسيين ومحاولة التمديد في مدة تواجدها في السلطة وعجزها عن التواصل والحوار مع المناضلين والنشطاء وطنيا وجهويا. ولم يساعد الظرف الاقتصادي على تحسّن الأوضاع والتهدئة، فقد زاد الوضع تعقيدا بواقع اقتصادي حرج، عقّدته التحركات الاجتماعية والاعتصامات المتكررة، وظرف دولي صعب، ناتج عن الازمات المتتالية للعولمة الرأسمالية، وحكومة لاتمتلك برنامجا اقتصاديا واجتماعيا واضحا، يضاف الى ذلك ان استحقاقات الثورة لازالت تراوح مكانها، فلا ملفات الفساد فتحت بجدية، ولا ملف الجرحى والشهداء سويّ، ولا المحاسبة سائرة بطريقة قانونية وعادلة، وما يزيد في الحيرة بروز بوادر عودة تدريجية للعديد من رموز الفساد الى الإدارات والمؤسسات، مع ما يصاحب ذلك من افتراض الولاء مقابل غضّ الطرف عن تجاوزات الماضي، ان الضعف السياسي الذي تعيشه بلادنا والناتج اساسا على تشتت المعارضة وضعف قدرتها على التنسيق وتوحيد المواقف واستجلاء المخاطر التي تهدد البلاد يثقل كاهل المجتمع المدني وقاطرته الاتحاد بمسؤوليات جسيمة، اذ اننا مطالبون بمواجهة قوى الردة والرجوع الى الماضي وومطالبون بالمساعدة في بناء مجتمع حداثي، يكرّس مبدأ المواطنة وحرية التعبير ويضمن الحق في النقد والاختلاف، كما ان التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي قامت على اساسها الانتفاضات العديدة في الجهات منذ الحوض المنجمي، مرورا باحداث السخيرة وسيدي بوزيد والقصرين وتالة ومكثر وغيرها لازالت قائمة ، لا بل ازدات تعقيدا،لذلك لابد من اعادة النظر في منوال التنمية وكيفية توزيع الثروة وارساء نظام جبائي عادل، الى ذلك نريد ان نؤكد انه، وعكس ما يتصوره ذوو الافاق السياسية الضيقة والمرجعيات الفكرية المنغلقة، فان تحقيق التنمية والتقدم بكل مستوياته لايمكن ان يكتب له النجاح دون قيم المواطنة والحريةوالمساواة بين الجنسين والقطع مع كل اشكال التمييز على اساس الدين او العرق او الجنس، وتلك مبادئ كانت دائما محل اتفاق بين النقابيين والحقوقيين ونشطاء المجتمع المدني، لكن ما يعيقنا اليوم هو مزيد العمل على ترسيخها. ان عملنا المشترك في حاجة الى اعلان مبادئ يكون محل توافق بين الجمعيات والمنظمات وحتى الاحزاب ويضمن الحقوق الاساسية للمواطنين ويقف دون ارادة السيطرة التي تسعى الى فرضها اطراف عديدة سواء كانت في السلطة او خارجها، ومن هذه المبادئ: ضمان الديمقراطية باستقلال القضاء وحرية الصحافة والنشر ضمان الحق في شغل قار واجر محترم وحماية اجتماعية لائقة ضمان الحق النقابي، بإبعاده المختلفة، كالحق في الاضراب والانخراط والتفاوض ضمان الحق في التعليم والصحة والمرافق العمومية لكل المواطنين صيانة حرمة الوطن ومناعته ورفض ارتهانه لاي طرف اجنبي ختاما، وان فتحت انتفاضة 14 جانفي افاقا جديدة وحفّزت احلامنا ، فاننا نجد بلادنا اليوم في مفترق طرق بين ارادة التغيير والتطور وبين الارهاصات الماضوية وعقلية الحزب الواحد، لذلك فالواجب يدعو كل المناضلين، في الاحزاب والمنظمات الى مزيد اليقظة والانتباه والتصدي الى كل ما من شأنه ان يعيد مسار قطار تطورنا الى الوراء، يبقى السؤال الذي يحيّر اكثر من متابع للوضع العام، وهو كيف يمكن للمجتمع المدني في تونس، رغم ما يمتلكه من تجربة نضالية وقدرة على الصمود وتطور فكري ان يملأ الفراغ السياسي والحزبي الذي تعيشه البلاد اليوم؟