رغم مرور ما يقارب الرّبع قرن على هذين النّصين فانها ينطويان على قدر من الراهنية يجعلنا لا نملّ العودة اليهما مع كل ذكرى سنوية تمرّ أو تلوح لاحداث ماي 68 في فرنسا وأوروبا، ومن ثمّة في العالم باجمعه. بل ان فرادة ونفاذ كل من فوكو ودولوز في تشخيص سياقات واستتباعات هذا الحدث يجعلان قمة هذين النصين الحاليّة ارفع حتى من تلك التي كانت لهما إبان صدورهما اول مرّة. ما الذي يقوله النصان جوهريا؟ أنّ ماي 68 ينبغي النظر اليه من جهة ماهو حدث مطلق وجذري وكوني وبالتالي غير قابل لايّ ضرب من ضروب الاختزال وعليه فان كل قراءة لا ترتقي الى هذه الابعاد فيه تظل بالضرورة قاصرة عن فهم ابعاده العميقة. ويقول النصان هذا (كلّ على طريقته) ضمن مستويين: سالب وموجب. سلبا: إن اسوأ طريقة لقراءة ماي 68 هي حصره في حدثيته المحدودة عبر اعتباره «انتفاضة» أو «ثورة» شباب طلاّبي يساري باريسي تواشج فيها التعليمي بالاجتماعي بالسياسي بالجنساني. إيجابا: ضرورة فهم الحدث في إبداعيته باعتباره لحظة نادرة (وبالتالي كليّة ومتحرّرة في زمنيتها التأريخية والتاريخانية) التقى فيها فعل الفكر في الواقع تثوير الواقع للفكر. من تواشج هذين المستويين يأتي في الآن ذاته نقد كل من فوكو ودولوز لمايمكن تسميته «الآثار الثانوية» لماي 68 كما يأتي تثمينهما للفتوحات الكبرى التي كانت وستكون له لا محالة، حتّى وإن كانت افاقها قد انسدّت حاليا. بلى ، يقول الفيلسوفان، لقد اجهضت الممكنات العظمى التي بشر بها الحدث لقد تمّت خيانته على كافة الاصعدة سواء من قبل الاجهزة والمؤسسات السلطوية التي عملت على تدجينه وهدر طاقته المبدعة او حتى من قبل القوى التي حضنته وامنت به و... خانته. لكنّ ذلك كله لا يعني مطلقا انه يمكن ان يقبر بكلّ هذا اليسر الذي تتبجّح به قوى اليمين (قديمها وجديدها) على اختلاف تلويناتها لانه ببساطة حمّال لبعد لايمكن الامساك به ضمن اعتبارات سوسيو تاريخية اولية ومختزلة. انه صيرورة فريدة من الابداع الجماعي الذي اتخذ من الواقع ذاته مادّة وصورة لاثر فنّي من طبيعة جديدة لا يحتمل التكرار وان كانت فيه طاقة مذهلة على «الفرق والمعاودة» (عنوان مؤلف لدولوز). يقول النصان كلّ ببلاغته المتفرّدة: ليس ابناء68 (هؤلاء اليتامى المغدورون في يتمهم ذاته) هم فقط أولئك الذين تظاهروا في جامعات باريس وشوارعها او الذي اقاموا المتاريس وحاربوا اجهزة الدولة القامعة تمردا على نظام تعليمي عتيق وعلى نظام وجود بائد معطِّل لكل الطاقات الابداعية فيهم والذين ارتدّ البعض منهم متبرّئا من «تهريج شبابه»، وإنّما هم الذين تظاهروا وسيتظاهرون سجنوا وسيجنون كتبوا وسيكتبون ويكتبون في كل لحظة وعلى كلّ لوح وارض مستعيدين تلك الجملة القاصمة التي يذكرها دولوز: إليّ بالممكن وإلا اختنقت...» والتي هي صيغة أخرى من عبارة ذلك الطبيب الارجنتيين الغامض «لنكن واقعيين، لنطالب بالمستحيل»!! الحريّة المغايرة الابداع: ذاك هو الثالوث الذي يختصر (ولا يستنفذ) قوّة وتعبيرية ماي 68 . بعد تسع وثلاثين سنة تزايدت راهنيّة الحدث وتفاقمت اسئلته الحارقة: اصوليات من منابت مختلفة تتآلف وتتآزر في تناقضاتها المزعومة لتنسف منذ البدء إمكانات ابداع اشكال جديدة من الوجود الفاعل والمفكّر دوما في ذاته، تنميطات عولمية بالغة السطوة زئبقية الحضور ترد الكائن الى مجرّد مستهلِك ومستهلِك بيولوجي وثقافي مفتقر الى ادنى مقوّمات النهوض بالذات أو حتى «الانهمام بالذات» (عنوان أحد مؤلفات فوكو الاخيرة). وعلى الضفّة الأخرى : قلاّتٌ من التشكيلات ومن الذوات المبدعة تدرك وتعي جيدا قلّيتها وابداعيتها ولا تدعي القدرة على «تغيير العالم» لكنها أسوة بالخُلد. تحفر بلا هوادة لتنسف في العمق نظاما عولميا اصوليا ولتبدع ولو من اجل مستقبل غير منظور، شكل وجود واقامة في العام لا تخجلها فرادتها ولا تفت في عضدها شتى صفوف الاقصاء والتهميش التي تعيشها في اللحم والعظم مثلما تعيشها في الفكر. تلك هي شعرية ماي 68 التي لن تحتاج بعد الى شهر بعينه او سنة بعينها من أجل عيشها مجددا وتدوينها دائما وابدا... تلك هي عبقرية اليسار الخالدة. * في باريس، خلال ماي 68 وبعده مباشرة، شارك عدد كبير من المثقفين الفرنسيين في النّضال الطلابي، وهي تجربة صاغت على نحو جديد سؤال المقاومة والعلاقة بالسياسي وكذلك حدود الفعل الثقافي. لم يرد اسمكم ضمن هؤلاء المثقفين على الاقل حتى ,1970ن تغيبتم عن الجدل الذي حرّك آنذاك وجوها من العالم الثقافي الفرنسي كيف عشتم في ماي 68 ؟ وماذا عن ذلك بالنّسبة اليكم؟** خلال ماي ,68 كما كان الامر ايضا إبّان حرب الجزائر، لم اكن في فرنسا كنت دوما متأخرا قليلا، على الهامش، ومع كلّ عودة الى فرنسا أكون حاملا لنظرة غريبة بعض الشيء وبالتالي فإن ما أقوله لا يقبل دائما بسهولة. أذكر ما قاله ماركوز يوما بنبرة إنكارية، ما الذي كان يفعله فوكو أيام متاريس ماي؟ حسنا كنت في تونس، وينبغي أن اضيف انها كانت تجربة مهمّة. كنت محظوظا في حياتي: في السويد رأيت بلدا اشتراكيا ديمقراطيا ينجح جيدا. اما في بولونيا فقد عايشت ديمقراطية شعبية تشتغل على نحو سيّئ واكبت ايضا تجربة المانيا الفيدرالية لحظة طفرتها الاقتصادية مع بداية الستينات، واخيرا عشت في بلد من العالم الثالث تونس سنتين ونصف السنة. كانت تجربة مثيرة قبيل ماي 68 في فرنسا، كانت تحدث هناك مظاهرة طلابية ضخمة. كنّا في مارس 68 وحدثت اضرابات وتعليق للدروس وايقافات واضراب عامّ للطلبة. اقتحم البوليس الجامعة وانهال بالعصيّ على عدد كبير من الطلبة. جرح الكثير منهم والقى بهم في الشجن بعضهم مازال يقبع فيه حتّى الآن باعتباري استاذا وفرنسيا فاني كنت محميا نوعا ما تجاه السلطات المحلية وهو ما اتاح لي القيام بعدد من الاعمال وما مكنني ايضا من الاطلاع بدقة على ردود فعل الحكومة الفرنسية تجاه الموقف برمته. لقد تكونت لدي فكرة حيّة عمّا كان يجري في مختلف جامحات العالم. لقد تأثرت عميقا بأولئك البنات والاولاد الذين كانوا يعرّضون أنفسهم لجسيم المخاطر عبر كتابة منشور او توزيعه او عبر الدعوة الى الاضراب. كانت تلك بالنسبة لي تجربة سياسية حقيقية. * هل تقصدون انه كانت لكم تجربة سياسية مباشرة؟ بلى منذ انخراطي في الحزب الشيوعي الفرنسي، مرورا بمختلف الوقائع التي لحقت خلال السنوات التي حدّثتكم عنها لم أحتفظ من التجربة السياسية بسوى شيء من الريبيّة التأملية جدا. لا أخفي ذلك خلال حرب الجزائر لم تتح لي فرصة المشاركة مباشرة وحتى عندما جربت ذلك لم يكن الامر على حساب سلامتي الشخصية، في تونس على العكس، وجدّتني محمولا على مساندة الطلبة وعلى ملامسة شيء مختلف كليا عن هذه الرتابة التي تعانيها المؤسسات وتعانيها الخطابات السياسية في أوروبا. افكر مثلا في ماكانت عليه الماركسية، في الكيفية التي كانت تشتغل عندنا لما كنا طلبة في سنوات 1950 1952 أفكر ايضا في ما مثلته في بلد مثل بولونيا حيث كانت محل اشمئزاز من قبل الشباب (بقطع النظر عن انتماءاتهم الاجتماعية) وحيث كانت تدرّس على نحو شبه عقائدي. اتذكر ايضا تلك النقاشات الباردة الاكاديمية التي شاركت فيها حول الماركسية في بداية الستينات اما في تونس فقد اختلف الامر كان الجميع يعلنون انتماءهم للماركسية بعنف وحماسة جذريتين وباندفاع مبهر لم تكن الماركسية بالنسبة لأولئك الشباب طريقة أفضل لتحليل الواقع فحسب وانما كانت في ذات الان نوعا من الطاقة المعنوية، من الفعل الوجودي ذي الاهمية القصوى كنت احسّ مرارة واحباطا كبيرين عندما كنت افكر في الهوة الموجودة بين الكيفية التي كان الطلبة التونسيون يعيشون بها ماركسيتهم وبين ما كنت اعرفه عن كيفية اشتغال الماركسية في اوروبا (في فرنسيا، بولونيا او الاتحاد السوفياتي) هذا ما مثلته تونس لي: لقد دخلت ساحة الجدل السياسي لا في ماي 68 بفرنسا وانما في مارس 68 ببلد من العالم الثالث. * تولون اهمية كبرى لطابع الفعل الوجودي الملازم للتجربة السياسية لماذا؟ ربّما كان لديكم الشعور بأنّها الضمانة الوحيدة لاصالة التجربة الا تعتقدون ايضا انه كان هناك بالنسبة للشباب التونسي رابط بين خيارهم الايديولوجي وبين العزيمة التي كانوا يمارسون بها فعلهم؟ ما الذي في هذا العالم يمكنه ان يحرك في الفرد الوازع والرغبة والاقتدار والتمكن من القيام بتضحية مطلقة؟ دون ان تكون هناك اية ريبة في وجود طموح ما او نزوع الى السلطة او الى الاستفادة من وراء ذلك؟ هذا ما عاينته في تونس: البداهة الضرورية للاسطورة ولروحانية ما والطابع اللامقبول لبعض الوضعيات التي انتجتها الرأسمالية والاستعمار والاستعمار الجديد. في نضال من هذا النوع كانت مسألة الانخراط المباشر الوجودي بل الفيزيائي امرا مفروضا، اما احالة هذه النضالات نظريا الى الماركسية فلا أعتقد انها كانت اساسية، افسّر: لم يكن التكوين الماركسي للطلبة التونسيين شديد العمق وما كان يسعى الى التعمّق الجدل الحقيقي بينهم حول الخيارات التكتيكية وحول الاستراتيجيا حول ما كان ينبغي عليهم اختياره، كل ذلك كان يتم عبر مختلف تأويلات الماركسية لكن الامر كان يتعلق بامر اخر تماما لا شكّ انه كانت للايديولوجيا او للمرونة السياسية للعالم دور لا غنى عنه في قدح شرارة النضال لكن من جهة اخرى كانت تدقيقات النظرية وطابعها العلمي مسائل ثانوية تماما وكانت تستخدم باعتبارها تضليلا اكثر منه باعتبارها مبدأ سلوك مستقيم وعادل. * ألم تجدوا في فرنسا ايضا بعض علامات هذه المشاركة الحيّة والمباشرة التي عايشتموهافي تونس؟ أيّة صلات أقمتم بين التجربتين؟ كيف قرّرتم الدخول بعد ماي في اتصال بالنضال الطلابي عبر تطوير حوار ومقارنة كانت ادّ بكم الى اتخاذ عديد المواقف والى الانخراط مباشرة في حركات مثل فريق اخبار السجون (ف أ س) حول ظروف السجون الى جانب مثقفين مثل سارتر، جون ماري دومينيك وموريس كلافيل؟ عند عودتي الى فرنسا في نوفمبر ديسمبر 1968 فوجئت واندهشت بل احبطت مقارنة بما كنت عشته في تونس فالنضالات مهما كانت حدّتها وحماستها لم تستتبع نفس الثمن ونفس التضحيات لا وجه للمقارنة بين متاريس الحيّ اللاتيني وبين خطر السّجن خمس عشرة سنة، كما عليه الامر في تونس دار الحديث في فرنسا عن ماركسية مغالية، عن انفلات النظريات عن رمي بالردة وعن تكاثر النحل كان ذلك هو عكس، قفا، نقيض ما كان يثير حماستي في تونس ربما يفسر ذلك الطريقة التي سعيت إلى ان آخذ بها الامور بدءا من تلك اللحظة بعيدا عن تلك النقاشات اللامحدودة عن تلك المركسة المغالية، عن تلك الخطابية الجموح التي كانت تسم الحياة الجامعية ولا سيّما في فنسان (Vincennes) سنة 1969 حاولت انجاز اشياء تستتبع التزاما شخصيا فيزيائيا وواقعيا يطرح المشكلات بالفاظ دقيقة ومحددة ضمن وضعية معطاة. انطلاقا من ذلك فقط يصبح بالامكان اقتراح تحليلات من شأنها ان تكون ذات ضرورة لقد حاولت عبر العمل في ال G.I.P بخصوص مشكلة الموقوفين ان اخوض تجربة تمضي عميقا. كانت تلك فرصتي حتى استعيد في الان ذاته ما اشتغلت عليه في كتابات مثل تاريخ الجنون او ولادة العيادة وما كنت فذ عايشته في تونس . * حين تسترجعون ماي 68 فانكم تتحدثون عنه بنبرة فيها نوع من الحطّ من شأن هذا الحدث وكأنكم لا ترون فيه الا الجانب التهريجي، المودلج لئن كان منصفا التأكيد على حدوده ولا سيما تلك المتعلقة بتشكل النحل فانني اعتقد انه لا ينبغي ان نغمط حقّ هذه الظاهرة التي كانت حركة جماهير عرفتها اوروبا بجملتها تقريبا. لا شك انه كانت لماي 68 اهمية استثنائية من المؤكدانه ما كان يمكن القيام بما قمت به بخصوص السجن والانحراف والجنسيات لولا ماي 68 ما كان ذلك ممكنا في مناخ ما قبل 68 لم أقصد القول انه لم تكن لماي 68 ايّة قيمة بالنسبة لي، ما قصدته هو انّ عددا من الابعاد الاكثر بروزا والاكثر سطحيّة في نهاية 1968 وبداية 1969 كانت غريبة عني كليا. ما كان مدار الامر حقا ما غيّر الاشياء فعليا كان من طبيعة واحدة في كل من فرنساوتونس لكن في فرنسا افضى ماي 68 عبر نوع من الفهم المعكوس الذي ارتكبه في حق نفسه الى تشكل النحل الى تشظي الماركسية اجساما صغرى من الاطروحات التي طفقت تكفر بعضها البعض لكن في العمق تغيرت الامور على نحو جعلني اشعر بالراحة اكثر مما كنت اعيشه في السنوات السابقة، خلال وجودي بفرنسا، في 1962 او في .1966 فالمسائل التي كنت انكببت عليها بالدرس بدأت تدخل مجال الاهتمام العام. المشاكل التي لم تكن تجد في الماضي اصداء اللّهم في الطب النفسي المضاد بانقلترا صارت ذات راهنية لكن كان يلزمني حتى امضي بعيدا، حتّى اعمّق الخطاب ان انقب تلك القشرة السميكة والمجزّأة في آن والمتمثلة في النحل وفي النقاشات النظرية اللامتناهية. لقد بدا لي ان صنفا جديدا من الطلاب ومن العمل المشترك بين المثقفين وغير المثقفين كان وقتها ممكنا. * ولكن على أية اسس وباية خطابات واية مضامين امكن إقامة الصلة والحال ان اللغات لم تكن على تواصل فيما بينها؟ صحيح انني لم أكن استعمل المعجم الذي كان طاغيا لقد اتبعت سبلا اخرى ومع ذلك فقد كانت هناك بمعنى ما نقاط مشتركة كنا نتوصل الى التفاهم حول مشاغل ملموسة حول مشاكل واقعية، ها ان قوما من الناس يتحمّسون حالما يرد الحديث عن المعازل عن الجنون، عن السجون، عن المدينة، عن الحياة، عن الموت... عن كلّ هذه الأبعاد الملموسة للوجود والتي تثير شتى الاسئلة النظرية. ** جزء من حوار اجراه مع المجلّة الإيطالية Contributo الايطالية، العدد الاول جانفي مارس 1980 واعيد نشره ضمن كتاب Dits et Ecrits الذي أشرف عليه كلّ من دانييل ديفيرو فرنسوا إ والد (1994 Gallimard,) ص ص 41 95 . ** * (Groupe dصinformations su les priscens) G.I.P أسسه فوكو صحبة عدد من الفلاسفة والمثقفين والفنانين سنة 1971 (فيفري) وكان هدفه فضح الممارسات غير المقبولة داخل السجون الفرنسية واعطاء الكلمة للسجناء انفسهم (بواسطة عائلاتهم) للتكلّم عن ظروف سجنهم ثمّ نشر ذلك في شكل مناشير وورقات غير ممضاة.