كنت دائما أفضل السفر على متن القطار. ربما لأنه بالنسبة إلي يمثل الحياة باختلافاتها وتناقضاتها وبحركتها الدائمة. وكذلك كانت ابنتي « نور « اونوارة كما نفضل أن نناديها دائما. فالسفر بالقطار كان فرصة لتلعب وتمرح وتزرع الحبور، وهي تتنقل كالفراشة بين مقاعده وتجمع التذاكر من الركاب وتغني بأعلى صوتها كل ما حفظته من أناشيد في رياض الأطفال. هكذا كانت يوم السبت الخامس والعشرين من شهر أوت ونحن نمتطي قطار الخامسة والنصف مساء من العاصمة في اتجاه مدينة سوسة. وصل القطار القلعة الصغرى ، فاستعد كثيرون للنزول ووقفنا معهم. لكن تبين أن القطار لايقف في القلعة الصغرى فرجعنا للجلوس. لكن فوجئنا به يقف ليفتح أبوابه.وتدافع الكثيرون للنزول وكنا من بينهم . وصلنا إلى الباب وكانت « نوارة» أمامي. ولكن القطار تحرك حالما وضعت صغيرتي رجليها على درجات الباب.ولولا أن احد الركاب كان واقفا بالباب فانتشل ابنتي من براثن الموت لتحولت إلى أشلاء مبعثرة واختلط وردي فستانها بدمائها الطاهرة . هكذا حضر المشهد أمامي فأغمي عليّ . كان الألم والذهول يعصفان بي ولم استفق إلا على رؤية مراقب التذاكر . توجهت إليه. أريد إيصال صوتي وإخراج صرخة احتجاج عن كل ما نشاهده يوميا من استهتار بإنسانية الإنسان. حاول مراقب القطار بكل الطرق الدفاع عن زميله وتبرير تصرفه ، بدعوى أن فتحه الأبواب في محطة القلعة الصغرى « مزية منو « وخطئي أن فكرت في النزول في محطة سابقة عن محطتي. نزلنا في سوسة ، فتوجهت مباشرة الى رئيس المحطة آملة أن يقبل رسميا شكواي. لقد كان المهم بالنسبة إليه آن الحادث لم يقع بينما كان المهم بالنسبة لي أننا مهددون بوقوعه في كل لحظة ، وهو دليل على الاستهتار واللامبالاة. كنت أحدثه عن ظاهرة عامة تأتي على الأخضر واليابس وكان يكلمني عن حادث عادي نجت منه ابنتي وكفى. كنت أحدثه عن سائق لم يكلف نفسه غلق الأبواب قبل الانطلاق ولا النظر الى النازلين قبل غلقها ، وهو يحذرني من التفكير في النزول في محطة قبل المحطة التي قررت النزول فيها. فالى متى نغض الطرف عن مظاهر الاستهتار بإنسانية الإنسان ؟