رحلة العاصمة في حدود الحادية عشرة من صباح يوم الثلاثاء 5 أكتوبر 1965 وصلت إلى العاصمة التي أزورها بالمناسبة للمرة الثالثة في حياتي. كان المسار إلى شقيقي الأكبر بعيدا عن قلب العاصمة. وكانت الحركة عادية. فلا اختناق ولا مشاكل مرور. وصلت إلى حيث يقطن شقيقي فاستقبلني بحرارة مما خفف على وطأة فراق الأهل والأحباب. وشعرت وكأنني أعود إلى الحضن الدافئ الذي افتقدته منذ الصباح، وخصصنا العشية لاقتناء بعض الملابس ومتطلبات التدريس. ثم توجهنا في حدود الخامسة مساء إلى محطة الارتال لاقتناء تذكرة السفر. كان احساسي وقبل أن أقف أمام بائع التذاكر أنني سأكون في عملي الجديد قريبا جدا من العاصمة. لقد تمعنت مليا في الخريطة ورأيت أن موقع باجة قريب من العاصمة حتى كاد يخيل إليّ أنه بامكاني العمل بباجة والمبيت بالعاصمة إلا أنني سرعان ما أفقت عن غفوتي حين أكد لي بائع التذاكر أنه لا يعرف لا اسم المنطقة ولا اسم معتمدية «الجبل الأبيض» ولولا تدخل أحد المسافرين الذي أوضح لنا أن الجبل الأبيض يعرف اليوم بنفزة لبقيت في مدار الضياع، بعد ان أقنعنا جميعا أن الاسمين لنفس المدينة وانتهت مشكلة التذكرة. لكن آلامي تضاعفت فثمن السفرة إلى نفزة أرفع من ثمن السفرة من سوسة إلى تونس. ووقتها أيقنت أن لا أمل لي فيما تخيلته سابقا. فعليّ أن أعد نفسي لطول الغياب. وبدأت أدخل بحق في عالمي الجديد وقضيت الليلة الثانية إلى جوار شقيقي. وفي حدود الخامسة صباحا من يوم الاربعاء 6 أكتوبر امتطيت سيارة تاكسي محملا بالأدباش بعد ان ودعت أخي، واتجهت نحو محطة القطار. ركبت القطار المتجه إلى باجة الذي انطلق في حدود السادسة صباحا، وكانت المرة الأولى في حياتي التي أركب فيها القطار. وجاء مراقب التذاكر يسألنا تذاكرنا، ولما وصلني واطلع على تذكرتي. قال لي أنت تركب هذا القطار لأول مرة. ولما أجبته بنعم سألني عن مهنتي. قلت له: معلم جديد فقال لي لقد أخطأت اختيار القطار وعليك بالنزول بمنوبة وانتظار قطار ماطر ثم امتطاء قطار طبرقة. وما كان سائدا في صفوف الناس أن أعدادا هامة من المعلمين ينهون حياتهم المهنية بمستشفى الرازي بمنوبة نتيجة الارهاق الكبير الذي يعانونه في مسيرتهم استحضرني هذا الاحساس.. فقلت له مازحا: بقية المعلمين ينهون حياتهم في منوبة وأنت تريد أن أنزل منذ اليوم الأول بهذه الربوع. فضحكنا طويلا ولم تكن هذه الضحكات قادرة على ازالة ما أشعر به من ضيق. وودعت المراقب ونزلت. وكلي إحساس بأن عهد المتاعب قد بدأ. وصلنا محطة القطار بماطر، وكانت تقع بساحة فسيحة وكانت الرياح الهوجاء تهب بقوة ولم نجد مكانا واحدا نحتمي به. وبعد معاناة، حل ركب قطار طبرقة. امتطيته مع المسافرين وبدأ القطار يطوي الأرض طيّا يشق الدروب والمنعرجات وشعرت بأن عالمي الجديد انطلق من هنا. شدتني السهول والمرتفعات، شدني الاخضرار وجمال الطبيعة، دخل بنا القطار الأنفاق فشعرت بشيء من الراحة والاطمئنان.. مررنا بسجنان وتمرة واقتربنا من نفزة، وكنت اسأل المسافرين عن «زاقة» ولا أحد أجابني. كنت أعتزم النزول بمحطة نفزة ثم التحول عبر وسيلة نقل إلى زاقة حين قال لي أحد الركاب أنا أعرف زاقة لا تنزل بنفزة بل انزل بالمحطة الموالية بوشتاتة فهي أقرب الأماكن إلى زاقة. وكان المراقب يراقبنا وهو يكشر من الضحك.. وسمح لي بمواصلة السفرة دون أن يطالبني بمقابل إضافي وكأنه رأف بحالي.