هل أستطيع أن أحدّث التونسيين عن باريس؟ لا أظن. فالكلّ يعلن معرفتها دائرة دائرة وشارعًا شارعًا ومحطة محطة ومغازة مغازة بشكل خاص. أمّا أنا فأعترف أنّني لا أعرف منها الاّ القليل رغم سفري إليها أو مروري عبرها عشرات المرّات. أعترف أيضا أنّها مدينة تأسرني أسرًا شديدا لا فقط لأنّ عندي فيها من الأحبّة عددا كبيرا، بل لأنّ فيها من التاريخ والمعالم والحضارة والانسانية ما لا عين رأت ولا أذن سمعت حسب تعبير عزيز على قلم الصديق كمال (ب). لذلك تجدني في كلّ مرّة أنزل فيها، أكتشف أشياء جديدة، هي في الواقع قديمة ولكن لم أرها، وان فعلت فربّما بعين أخرى. في الأسبوع الماضي، سافرت إليها من أجل هدف محدّد لا محالة في مكان محدّد منها لا محالة أيضا، لكن توفّرت لي الفرصة لأراها من زاوية أخرى مخالفة تماما لما سبق أن رأيت. وذلك من خلال رحلة عبر نهر «السين» الذي يشق المدينة نصفين، أهداها لي أحد الأصدقاء. يا لروعة ما رأيت! أعترف أنني اكتشفت باريس التي لم أعرف من قبل، التاريخ، الحضارة، الانسانية، الحرية، الثورة، التضامن، التضحيات، الديمقراطية، كلّها مجسدة في تلك المباني والحدائق والقصور والساحات التي تطلّ على النهر يمينا وشمالا. هو تاريخ فرنسا وجزء من تاريخ الانسانية لا محالة، ولكن استوقفتني في الرحلة محطتان لهما علاقة بنا. الأولى، معهد العالم العربي الذي بناه الفرنسيون على ضفة نهر «السين» (كان بامكانهم أن يرموه بعيدا) تقديرا منهم دون شك للعرب وحضارتهم واسهاماتهم الكبيرة في إثراء الحضارة الانسانية واعترافا بجميل الآلاف من أبنائهم، الذين لقوا حتفهم في حروب ومعارك لا تهمّهم، دفاعا عن فرنسا وأراضيها وماضيها ومستقبلها. الثانية محطة لمترو الأنفاق هناك والتي تقع مباشرة قرب برج ايفل العظيم والشهير. قد لا يعني هذا الاسم شيئا بالنسبة لنا وقد لا تكون له علاقة إطلاقا بتونس والعرب عموما ولكنّه اسم شدّني ولفت انتباهي الى حدّ لا يصدّق، خاصة أنّ طريقة نطقه من طرف الفرنسيين (عندما يدلونك على أقرب محطة مترو من برج ايفل) توحي لك أنّ الأمر يتعلّق باسم تونسي لمنطقة تونسية (مثل بير حليمة، بير معلّى، بير الملولّي، بير القصعة، بير الباي، بير أحمد، بير الدولة، بير دراسن، بير مروّة، بير علي بن خليفة، بير صالح، بير الحفي، بير عميرة، بير الأحمر، بير ثلاثين، بير الشاوش، بير مشارقة). وبالبحث وجدت أنّ في ولاية المهدية منطقة اسمها «الحكايمة» التي قد تكون لها علاقة ما بالموضوع. طبعا اكتشفت في باريس، وعبر «السين» أشياء أخرى كثيرة.. ولكن الكثير من القرّاء أدرى منّي بها.