لو لم نلمّح إلى كلمة السّاحل أعلاه لذهب في ظن القارئ أنّ الموضوع يتعلّق بالفلوجة أو قندهار أو موقاديشو أو وزيرستان وهي مناطق معروفة بسوق الجملة للموت!! للأسف هذا الموت الذي سنحكي عنه حصل فوق أرضنا بل على ما تسمّى اصطلاحا «طرقات». موت خلف كمًّا من الحزن والوجع والكمد في نفوس الناس من الساحل إلى الشمال إلى الصرين.. كلّ ذلك نتيجة انفلات أخلاقي وتدهور قيمي، وتخلّف حضاري.. وقد يكون ذلك أهم انطباع خرجنا به من بلدة صيادة من ولاية المنستير والتي ودعت ضحاياها في موكب مهيب حضره الجميع الاّ ممثل وزارة التجهيز (الطرقات) وممثل عائلة مرتكب هذه المجزرة!! إذن ذهبنا إلى صيادة، وبيسر شديد وصلنا الى أهل الضحايا ومنهم سمعنا وتسمعون أطوار نكبتهم.. وكان اللّقاء المؤثر والمؤلم والمثير مع عم سالم عبد اللطيف والخالة زهرة العجيلي والديّ المرحوم محمد الناصر حيث صرّحا لنا بما يلي: قُبيل العيد أتمّ المرحوم بناء منزله بعد سنوات من الصبر والجهاد ولم يبق الاّ بعض التجهيزات البسيطة المتوفرة «بالسوق الحرّة»!! في مدينة الجم.. يومها، يقول عم سالم، توجّه الناصر صحبة زوجته فاطمة وابنه إيبَاءْ وابن عمّه جمال إلى مدينة الجم على متن سيارته الصغيرة (رينو 4) سالكين الطريق الرابطة بين المكنين والجم عبر منزل فارسي هناك وقعت المصيبة حيث داهمتهم (حسب الشهود والتحريات) سيارة أحد المهاجرين من الاتجاه المعاكس في عملية مجاوزة ممنوعة ليحدث الاصطدام المريع والذي أدّى إلى هلاك الناصر وابنه إيباء وابن عمّه جمال على عين المكان، في حين قضت الزوجة فاطمة بعد ثلاث ساعات» ولعلّ ما أكثر ما شدّ انتباهنا في حديث هذا الشيخ المكلوم هو نقله لأقوال حفيدته بقوله «هذه الجملة ردّدتها حفيدتي ديْسق (ابنة المرحومين) وذوبت قلبي: «ياربّي ما قْعدلي حتى واحد منهم» قاصدة أبويها...» وهي نفس اللوعة التي تقرأها على مُحيّى وفي دموع السيدة زهرة العجيلي التي أخرسها الخطْبُ الجلل الاّ عن قول جملة وحيدة «عباد اللّه اتقوا اللّه في خلق اللّه... تعالوا شُوفو اليتم والدمع والأحزان». ولئن كانت مواقف الجد والجدّة مؤثرة للغاية فإنّ بقيّة المواقف لم تختلف كثيرا على غرار ابنة الهالكين وابنهما أحمد ضياء الذي نجا من الحادث واللذان عبّرا لنا عن حالتهما بدموع الطفولة المجروحة... كما سجلنا تضامنا مؤثرا من أهالي البلدة الذي رفض العديد منهم ذبح الأضاحي والاحتفال بالعيد في صيادة كما في الصرين (المرحومة فاطمة أصيلة الصرين) وهو ما أفادنا به السيد البحري القطاري الذي شدّد على تحية أهالي الصرين الذين هبّوا هبة واحدة لدعم ومؤازرة العائلة المنكوبة. كما أشاد السيد سالم عبد اللطيف بتعاطف السيد الهادي مهني الأمين العام للتجمع الذي واسى العائلة ورمّم معنوياتهم. .. وماتت اليتيمة وغير بعيد عن صيادة وتحديدا في منزل كامل وبالتزامن مع الحادث الأول دهست شاحنة «ضائعة في الطريق» سيارة لوّاج لتقتل ثلاثة مسافرين من بينهم طالبة من إحدى مدن الشمال وتدرس في المهدية والدها مهاجر يتيمة الأم.. هذا الموقف أدمع عيون عون الحرس الباحث في الموضوع وكان الموقف مؤثر ومؤثر ومؤثر... الانفلات... الأخلاقي للمرّة المائة ألف!! يكون أحد مواطني الخارج طرفا في فاجعة طريق .. هذه الفئة احترمناها وقدرناها ودللناها كثيرا وهو ما خلّف «هبالا» حيث يعود البعض منهم إلى بلادنا لينفث فساده على الطرقات، وفي الأحياء.. وفي الأعراس، وحتى في الغابات!! هذا الرّهط مطلوب التصدّي له وضربه على قفاه ليعود من حيث جاءنا بسياراته الملعونة وسلاسله التي كالأغلال في رقبته ويديه و»بلاليطة» اللّماعة في أذنيه وهي مظاهر انفلات أخلاقي وانحراف سلوكي يتعين التصدّي له كدفع لمكروه يتعاظم ويحدق بالناس. وإن ننسى فلا ننسى ونحن بصدد الحديث عن كوارث المرور حالة بعض الطرقات التي تدعو إلى الغثيان على غرار شبكة المكنين وبقيّة المسالك المدعوة باطلا طرقات على غرار حزامية جمال وطريق بني حسان وطريق السواسي والطريق الرابطة بين جمّال والطريق رقم 1 والتي قطعها بعض المواطنون بالكامل بمياههم المستعملة رغم تكلفتها بالمليارات على المجموعة الوطنية.. كلّ هذا في مساحة صغيرة من الوطن فما بالك بالبقيّة... اما آن الأوان للنظر في مسالك الموت هذه وتعهدها وصيانتها وردم حفرها بدل الإكثار من ظهور الحمير التي قسمت ظهورنا؟