من مسبح المرسى الى سماء العالمية ..أحمد الجوادي قاهر المستحيل    تاريخ الخيانات السياسية (36) ..المعتزّ يقتل المستعين بعد الأمان    دراسة.. مواد غذائية بسيطة تقلل خطر السرطان بنسبة تقارب 60%    المدير الجهوي للتجارة بنابل ل«الشرق» استقرار في التزويد.. وجهود لضبط الأسعار    تونس: تجميع أكثر من 11,7 مليون قنطار من الحبوب إلى غاية نهاية جويلية 2025    سفنه تنطلق من تونس يوم 4 سبتمبر .. 6 آلاف مشارك في أسطول الصمود إلى غزّة    عاجل/ واشنطن تعتزم فرض شرط جديد للحصول على تأشيرة عمل أو سياحة..    شبهات التلاعب بالتوجيه الجامعي ..فرقة الجرائم المعلوماتية تلاحق الجناة    بلاغ رسمي للملعب التونسي    أخبار النادي الصفاقسي .. حصيلة ايجابية في الوديات.. وتحذير من الغرور    بنزرت الجنوبية: وفاة 4 أشخاص غرقا في يوم واحد    أخبار الحكومة    بعد إلغاء الحكومة لجلسات تفاوض حول النقل .. اتحاد الشغل يهدّد    مع الشروق : كيان مختل ومنبوذ    النجم الساحلي يتعاقد مع الظهير الايسر ناجح الفرجاني    النادي الصفاقسي يعلن رسميا تعاقده مع علي معلول الى غاية 2028    الدكاترة المعطلون عن العمل: ضرورة توفير خطط انتداب ب5 آلاف خطة    ليلة الاثنين: بحر مضطرب بالسواحل الشرقية والشمالية    القصرين: العثور على جثة كهل تحمل آثار عنف    المنستير: تظاهرة "فنون العرائس على شاطئ روسبينا" في دورتها الثانية بداية من 15 أوت 2025    مهرجان العروسة: جمهور غاضب وهشام سلام يوضح    وزير السياحة: سنة 2026 ستكون سنة قرقنة    التعاون بين تونس وإيطاليا : طاقة التفاوض وفوائض الطاقة    بطولة افريقيا للشبان لكرة الطاولة بنيجيريا: المنتخب التونسي يختتم مشاركته بحصد 8 ميداليات منها واحدة ذهبية    القصرين: سواق التاكسي الفردي يتوجهون نحو العاصمة سيرًا على الأقدام تعبيرا عن رفضهم للقائمة الأولية للمتحصلين على رخصة "تاكسي فردي"    مهرجان نابل الدولي 2025... تكرار بلا روح والتجديد غائب.    رونالدو يتحوّل إلى صانع القرار في النصر... ويُطالب بصفقة مفاجئة    عاجل - يهم التونسيين : ارتفاع في تكلفة العمرة خلال موسم 2025-2026    التوجيه تحوّل لكابوس: شكون تلاعب بملفات التلامذة؟    أمطار وبَرَدْ دمّرت الموسم: الزيتون والفزدق والتفاح شنيا صار؟!    عاجل: ''تيك توك'' تحذف أكثر من 16.5 مليون فيديو ودول عربية في الصدارة    ماء في الكميونة يعني تسمم وأمراض خطيرة؟ رّد بالك تشرب منو!    التوانسة حايرين والتجار زادا مترددين على الصولد السنة!    488 تدخل للحماية المدنية في 24 ساعة.. والحرائق ما وقفتش!    الدلاع راهو مظلوم: شنوة الحقيقة اللي ما تعرفهاش على علاقة الدلاع بالصغار؟    في بالك ...الكمون دواء لبرشا أمرض ؟    والد ضحية حفل محمد رمضان يكشف حقيقة "التعويض المالي"..    نواب ديمقراطيون يحثون ترامب على الاعتراف بدولة فلسطين..#خبر_عاجل    سليانة: رفع إجمالي 275 مخالفة اقتصادية خلال شهر جويلية    وزارة الأسرة تؤمن مواكبة 1200 طفل من فاقدي السند ومكفولي الوزارة عرض La Sur la route enchantée ضمن الدورة 59 لمهرجان قرطاج الدولي    استشهاد 56 فلسطينيا برصاص الاحتلال خلال بحثهم عن الغذاء    بنزرت: وفاة 4 أشخاص غرقا في يوم واحد    القبض على "ليلى الشبح" في مصر: سيدة الذهب والدولارات في قلب العاصفة    "روبين بينيت" على ركح مهرجان الحمامات الدولي: موسيقى تتجاوز حدود الجغرافيا وتعانق الحرية    إصابة عضلية تبعد ميسي عن الملاعب ومدة غيابه غير محددة    جريمة مروعة تهز دمشق: مقتل فنانة مشهورة داخل منزلها الراقي    عاجل/ خلال 24 ساعة: استشهاد 5 فلسطينين جراء الجوع وسوء التغذية..    محمد عادل الهنتاتي: مصب برج شاكير كارثة بيئية... والحل في تثمين النفايات وتطوير المعالجة الثلاثية    البحر ما يرحمش: أغلب الغرقى الصيف هذا ماتوا في شواطئ خطيرة وغير محروسة    جريمة مروعة: امرأة تنهي حياة زوجها طعنا بالسكين..!!    تحذير طبي هام: 3 عناصر سامة في بيت نومك تهدد صحتك!    عرض "خمسون عاما من الحب" للفنانة الفرنسية "شانتال غويا" في مهرجان قرطاج الدولي    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    من بينها السبانخ.. 5 أطعمة قد تغنيك عن الفيتامينات..تعرف عليها..    تاريخ الخيانات السياسية (35): المنتصر يقتل والده المتوكّل    اعلام من باجة...سيدي بوسعيد الباجي    ما ثماش كسوف اليوم : تفاصيل تكشفها الناسا متفوتهاش !    شائعات ''الكسوف الكلي'' اليوم.. الحقيقة اللي لازم تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النقابات والقطيعة مع عالم الشغل
على هامش المؤتمر التأسيسي الكنفدرالية النقابية الدولية:
نشر في الشعب يوم 11 - 11 - 2006

ننشر فيما يلي الحلقة الثانية من الدراسة التي كان أعدّها قسم الدراسات والتوثيق بإدارة الاخ محمد السحيمي الامين العام المساعد للاتحاد حول مستقبل الحركة النقابية .
ان الحركة النقابية العالمية بكل مكوناتها والتي عاشت على مدى نصف قرن على وتيرة الحرب الباردة وجدت نفسها فجأة أمام عالم لا تعرفه... وجدت نفسها أمام تحولات لم تواكبها عن قرب ولم تكترث بها كما يجب... وجدت الحركة النقابية نفسها في قطيعة مع عالم الشغل الحقيقي الذي لم يكن جزءا من الحرب الباردة ومن الصراع الايديولوجي الذي جثم على ظهر الحركة النقابية العالمية ومن ورائها منظماتها القطرية الأعضاء... هذا الفاصل الزمني الذي استغرقته الحرب الباردة فصل الحركة النقابية عن هويتها وقيمها المؤسسة وفصل القيادات النقابية عن قواعدها في المؤسسات الجديدة التي رأت النور نتيجة للتحولات التكنولوجية الهائلة التي عرفها العالم على مدى نصف القرن المنقضي... لقد ظلت المنظمات النقابية وعلى مدى أكثر من قرن تعيش بهدي تراثها الموروث من بدايات الثورة الصناعية وبروز النقابات إلى الوجود، لم تتفطن إلى حجم التغيرات التي يشهدها العالم وخصوصا عالم الشغل. فتنظيميا ظلت النقابات كما في القرون الوسطى تنظم العمال حسب الحرف. وفكريا واعتبارا لتبني الحركة النقابية لمفهوم الطبقة العاملة فإنها لم تتفطن للكم الهائل من التغييرات التي طرأت صلب هذه الطبقة ولعل أبرزها تراجع مكانة العمال أمام أصحاب الياقات البيضاء وتراجع التجمعات الصناعية الكبرى أمام قطاع الخدمات وإقتحام النساء العاملات بأعداد غفيرة لعالم الشغل خصوصا القطاعات الجديدة... هذه النتائج، وهي قليل من كثير، تمثل المأزق التاريخي الذي واجه الحركة النقابية العالمية الخارجة لتوها من أتون حرب استنزفتها طيلة نصف قرن وشيدت بينها وبين عالم الشغل الحقيقي جدارا سميكا من الصعب اختراقه.

هذا الأمر لا ينطبق فقط على نقابات اوروبا بشرقها وغربها لكنه صالح أيضا لنقابات بلدان العالم الثالث سواء تلك التي اختارت الولاء التام لأنظمة الحكم المنحازة أصلا طورا للشرق وطورا للغرب، أو تلك التي اختارت سبيل النضال فوجدت نفسها لا إراديا موظفة بدورها في الحرب الباردة، أو تلك التي اتخذت طابعا دينيا تجسيما لمبادئ التآخي والتآزر فوجدت نفسها مدفوعة للحرب الباردة.
من المؤكد ان الوضع ان لم يتدهور أكثر في بعض مناطق العالم منذ ذلك الوقت فانه لم يتحسن بصورة ملحوظة نتيجة للحروب التي شهدتها العشرية الأخيرة سواء في الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا وحتى بلدان البلقان. فمن المعروف إن أوضاع النقابات تتدهور في فترات عدم الاستقرار. هذا بالإضافة إلى التضييقات التي ما انفك يسلطها أصحاب العمل على ممارسة حق التنظّم. والأمر لا يهم المؤسّسات الصغرى والمتوسطة فحسب إنما يهمّ أيضا المؤسسات الكبرى. إلى جانب عدم الاستقرار والتضييق على حق التنظّم فان الاستبيانات التي يجريها دوريا المكتب الدولي للشغل ترجع تراجع إشعاع النقابات في أوساط العمال إلى عدم الاستقرار في الشغل وظاهرة الخوف من المؤجرين وتحوّل عديد الأنشطة إلى القطاع غير المنظم الذي لا يتمتع بالتغطية القانونية وظاهرة نقل الأنشطة الاقتصادية من بلد إلى آخر سعيا وراء الضغط على الكلفة.
العزوف إذن يعود إلى جملة من العوامل لكنها عوامل لا تعفي في كل الحالات النقابات من ضرورة تحمل مسؤوليتها المباشرة، ذلك أن الهيكلية الداخلية للنقابات والثقافة النقابية المكتسبة على امتداد فترات تاريخية طويلة، وتحوّل النقابات إلى أجهزة إدارية بيروقراطية منقطعة تماما عن عالم الشغل عوامل ليست بمعزل عن تراجع حظوة النقابات لدى العمال. فقد شرح جلّ مؤلفو تقرير مكتب العمل الدولي المعنون «العمل في العالم» 1997 1998 أن البلدان التي تضمّ أغلبية من العمال المنظمين نقابيا تعد أقلية صغيرة» ومن بين عينة تضمّ 92 بلدا التي نملك بخصوصها نسبة الكثافة النقابية وهي نسبة تحسب اعتمادا على قوة العمل غير الفلاحية فان 14 بلدا فقط تفوق فيها النسبة 50 بالمائة سنة 1995 و 48 بلدا أي أكثر من نصف العينة تنزل فيها النسبة إلى ما دون 20 بالمائة»2.
التقرير يتعرض أيضا إلى جملة من الأسباب الموضوعية التي أدخلت النقابات في دوامة التراجع ويؤكد خصوصا على السياسات الحكومية المنتهجة في بعض البلدان للتضييق على الحقوق النقابية بهدف جلب الاستثمارات، وما الشكاوي المقدمة في هذا الصدد للجنة الحريات لمكتب العمل الدولي بحكومات بلدان أندونيسيا لبنان نيجيريا البحرين الخ... إلا خير دليل على ذلك. كما يتعرض التقرير إلى حرمان بعض النقابات من تقديم خدمات الرعاية الاجتماعية، هذا بالإضافة إلى سياسات الإصلاح الهيكلي في البلدان النامية والتي أضعفت القطاع العام والذي يعدّ المشغل الأول وتراجع نسبة العمال الصناعيين في المجموع العام للعمال.
كما يتعرض التقرير إلى عدد من الأسباب التي تهم النقابات ومنها تراجع الموارد المالية مما دفع بالبعض منها إلى اختيار حلّ الاندماج، وهو ما أبعدها عن المنخرطين وجعلها حاليا تضمّ منخرطين لهم مصالح متناقضة. كما أن اعتماد النقابات في جلّ الأحيان على الانخراطات المتأتية من المؤسسات الكبرى لم يشجع عمال الوحدات الصناعية الصغرى والمتوسطة والعاملين لبعض الوقت أو العاملين في المنازل على الانضمام للنقابات. ويضيف التقرير أن سمعة النقابات التي تعاني من الرشوة والزبونية أو العلاقات الوطيدة بالسلط الحاكمة غير الديمقراطية لا تشجع أعدادا غفيرة من الأجراء على الانتماء النقابي.
منظمات تبحث عن أهداف :
إن المتغيرات العالمية التي تعرضنا لها وما صاحبها من تحولات اقتصادية واجتماعية جعل المنظمات النقابية العالمية تعيش حالة من الارتباك التنظيمي والضبابية في الأهداف والقصور عن التأقلم مع الأوضاع الجديدة التي ولدتها العولمة وهو ما دفعها إلى حوارات مضنية لرسم أهداف جديدة وطرائق عمل خلاقة ونحت تصورات لمستقبل الحركة النقابية العالمية والطريف في الأمر أن الحركة النقابية العالمية وأمام عمق الأزمة لم تر بدا من محاكاة «الخصم» المتمثل في قوى رأس المال فقد انقادت بعد عشرية كاملة من تلمس الطريق إلى إعلان نية التوحّد وبناء حركة نقابية عالمية جامعة تقطع مع داء الايدولوجيا الذي نخرها على مدى نصف قرن ووظفها بطريقة مهينة.
ولقد جاء الرد عن المؤتمر الثامن عشر للاتحاد العالمي للنقابات الحرة السيزل المنعقد باليابان في ديسمبر 2004 تحت شعار»عولمة التضامن، بناء حركة نقابية عالمية للمستقبل» وقد اكتسى هذا المؤتمر أهمية خاصة اعتبارا إلى انه تبنى رسميا التزام الاتحاد العالمي للنقابات الحرة والجامعة العالمية للشغل للتمشيّ القاضي بتأسيس جامعة نقابية عالمية جديدة تضم منخرطي المنظمتين وعديد المنظمات النقابية الوطنية غير المنتمية وتتلخص الاستراتيجية المنبثقة عن هذا المؤتمر وكذلك عن اجتماع للجنة التنفيذية للجامعة العالمية للعمل المنعقد بدوره سنة 2004 بالدار البيضاء في ان عولمة التضامن تستوجب عولمة نقابية فعالة خصوصا وان الهدف هو تغيير العولمة الجارية وإعطائها مضامين اجتماعية جديدة تستجيب لتطلعات عمال العالم، ومن اجل تحقيق ذلك فان المطلوب حسبما جاء في أرضية العمل المشترك هو ان تقوم كافة نقابات العالم بوضع برنامج سياسي يوفر الأرضية اللازمة لإحداث تحول اجتماعي عميق ومتدرج لفائدة كافة عمال العالم. وتم التأكيد على ان هذا العمل يستوجب مواصلة الشراكة مع المنظمات غير الحكومية والحركات الجمعياتية بمناسبة المنتديات الاجتماعية العالمية مع المحافظة على الهوية النقابية.
كما أكدت هذه الاستراتيجية والتي باتت تمثل المرجعية الفكرية للحركة النقابية العالمية الناشئة على ضرورة التحالف مع الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع التي تشاطر الحركة النقابية العالمية نفس الرؤية وتقبل بتنفيذ المشروع الأساسي حول العولمة وضرورة تضمينها البعد الاجتماعي اللازم.
هذا العمل الذي انطلق منذ مطلع الألفية الجارية من المتوقع أن يتوّج بعقد مؤتمر التأسيس بداية من غرة نوفمبر 2006 بفيينا (النمسا).
إن المطلع على الأدبيات المنبثقة عن النقاشات الجارية منذ ثلاث سنوات لا بد أن يلمس بأن المسألة بالرغم من حسن النوايا ظلت مقصورة على توحيد جهازين إداريين يتنازعان تسيير جزء من الحركة النقابية العالمية وان الخصوصيات السياسية والايديولوجية لهذه المركزيات الدولية الموروثة عن حقبة الحرب الباردة بصدد التسرب إلى جسم المولود المرتقب وكأنها بذلك تعيد استنساخ تجربتها الفاشلة فالحوار ارتكز بين منظمتين عالميتين أوروبيتين المنشأ أمريكتي التوجهات والسياسات تخضعان في جانب كبير من أنشطتهما إلى الممولين الرئيسين. وهم خصوصا بعض الحكومات والتجمعات الاقليمية مثل الاتحاد الاوروبي.
وهكذا يتم مرة أخرى تجاهل مراكز ثقل مؤثرة في مستقبل الحركة النقابية العالمية فالصين خمس سكان العالم وربما خمس عماله وضعت خارج دائرة هذه العملية لأسباب ايديولوجية، وسياسية والمنطقة العربية بمنظماتها الأعضاء في هذه المنظمة الدولية او تلك تشارك بصورة تكاد تكون شكلية في هذا المسار وظروفها الذاتية والموضوعية لا تمكنها من إدراج اهتماماتها وأولوياتها ضمن مشروع التأسيس بما يكفل تبني قضاياها المركزية، وما ينطبق على المنطقة العربية يصحّ أيضا بالنسبة للقارة الإفريقية التي تكاد تصبح مجرد ديكور لدى العديد من نقابيي أوروبا وأمريكا لإضفاء مسحة من العالمية على مشروعهم النقابي.
إن الملاحظات العديدة التي أوردتها المنظمات النقابية غير المنتمية لإحدى المنظمتين والتي شاركت في حوارات مع السيزل تبرز جملة التحفظات المبدئية على مشروع التأسيس وخصوصا التذرع بخصوصية الهوية النقابية لمحاولة بناء جدار وهمي من طرف البعض بين النضالات العمالية في العالم وتلك المعارك البطولية والنزيهة التي تخوضها حركات مناهضة العولمة وتخوضها منظمات المجتمع المدني من أجل حياة أفضل للشعوب.
فالهويّة النقابية تدفع اليوم بالبعض من المنظمات النقابية في أوروبا وأمريكا إلى إتباع سياسات قاسية تجاه عمال بلدان العالم الثالث بدعوى المحافظة على مناصب الشغل في هذه البلدان وبتبنّي المنظمات النقابية سياسات «حمائية» ذات انعكاسات سلبية على عمال البلدان الفقيرة. ومثال موقف النقابات الأمريكية الشمالية تجاه عمال المكسيك خير تجسيد. هذا التناقض الذي تواجهه الحركة النقابية العالمية لم تتم معالجته بالرغم من تبني السيزل لشعار عولمة التضامن والذي سيشكل حجر الزاوية في سياسة المنظمة الجديدة ذلك إن عولمة التضامن تعني في المقام الأول تبني سياسات خلاقة تجسد ذلك وتدفع به إلى مداه وتتصدى بصورة جدية للتمظهرات المدمرة للعولمة سواء في البلدان المصنعة أو النامية ضمن جبهة عالمية تضمّ القوى الحيّة في المجتمعات.
لقد طوت الحركة النقابية العالمية منذ سقوط جدار برلين عقدا ونصف ولكن، وبالرغم مما يمكن أن ينجز في مؤتمر فيينا، النقائص بادية للعيان منذ الآن فالمنظمة الجديدة للأسف وبالرغم من الآمال التي تراود آلاف بل ملايين النقابيين من العالم ستبقى انعكاسا للثقافة النقابية التي شهدها القرن الماضي ومنظمة جامعة لمنظمات أوروبا وأمريكا بأطيافها المختلفة من اشتراكية ديمقراطية إلى مسيحية ديمقراطية إلى شيوعية متفهمة للواقع الجديد وستظلّ النقابات الإفريقية والمنظمات العربية ونقابات آسيا الوسطى وبعض منظمات أمريكا اللاتينية جزء ضروريا للديكور، وسيبقى النقابيون الصينييون مستبعدون من المسرح النقابي العالمي وخطيئتهم الكبرى أنهم لم يفلحوا بعد في نقل النموذج النقابي الأمريكي - الاوروبي.
لكن هل تعني هذه النقائص والتي استعرضنا البعض منها أن الحركة النقابية العالمية عاجزة على إعادة بناء نفسها تنظيميا وفكريا؟ أن الإجابة لن تكون قطعية حتما. لكن الأمر ممكن عبر مسار طويل يتمثل في تخليص الحركة النقابية وخصوصا الأمريكية والأوروبية عموما من الإرث الإيديولوجي الثقيل والذي حولها إلى مجرد أجهزة.
هذه الصحوة المطلوبة تبرز بشائرها هنا وهناك والملفت للنظر أن النقابات الامريكية تعيش تجربة تتميز بالطرافة في هذا المجال فقد سجل العمال سنة 2003 انتصارات رمزية تبشر بانبثاق عهد جديد حيث شهدت هذه السنة اندحارا ملموسا للقيادات النقابية المحافظة في العديد من المعاقل والنقابات الكبرى وخصوصا في شيكاغو وسياتل كما استطاعت النقابات المناضلة تنظيم العديد من التجمعات والتظاهرات للدفاع عن حقوق المهاجرين وذلك ضمن «الحملة من أجل الحرية» والتي توجت بتجمع نقابي ضمّ مائة ألف مشارك يوم 9 اكتوبر 2003 بنيويورك وضمن نفس التمشيّ وفي شهر نوفمبر من نفس السنة شهدت مدينة ميامي الامريكية تجمّعا ل 20 ألف عامل للتعبير عن رفضهم لمنطقة التجارة الحرة بأمريكا (الشمال والجنوب) وقد صمدوا أمام القمع البوليسي الذي تعرضوا له خلال المسيرة التي رغبت السلط في إلغائها.
على إثر هذه الأحداث شارك آلاف العمال في العديد من باقي المدن الأمريكية في مسيرات حاشدة من اجل الحق في تنظيم اليوم العالمي للحقوق الإنسانية. كما تجدر الإشارة إلى أنه وعلى امتداد سنة 2003 قامت المنظمة المسماة « نقابيون أمريكيون ضدّ الحرب» بمجازفة كبرى ضمن الحركة النقابية الأمريكية عبر معارضتها للحرب واحتلال البلدان الأخرى وما هو يمثل قطيعة داخل الحركة النقابية الأمريكية خصوصا إذا ما تذكرنا الانحياز الكامل الذي ميز موقف الحركة النقابية الأمريكية خلال فترة الحرب الباردة واصطفافها وراء السياسة الخارجية للدولة.
هذه الأحداث بالرغم من نسبيتها تبرز بجلاء عزم الحركة النقابية الامريكية على تجاوز أزمتها وسعيها إلى الانخراط في مسار جديد قوامه التزام أكثر جدية بالمطالب والمشاغل العمالية وخوض حوار داخلي من أجل تبني استراتيجية تنظيمية تجعل القواعد النقابية هي سيدة الموقف تجاه قيادات محافظة منقطعة عن العمال والتزام بتشجيع الديمقراطية النقابية بما يكفل إعادة بناء الحركة النقابية.
هذا المناخ الجديد يمثل فرصة تاريخية لليسار النقابي الأمريكي الذي عاش طيلة ربع قرن ضحية للهجمات الماكّارتية بدعوى محاربة واستئصال الشيوعية. واليوم فان المشهد النقابي الأمريكي يبدو أكثر تهيأ لتقبل تغيّيرات إصلاحيّة ترتقي به نحو الأفضل ويبدو أكثر تعبئة من أجل بناء حركة نقابية أكثر نضالية والتصاقا بالمشاغل الحقيقية للعمال، ويبدو أكثر قدرة على مواجهة الأزمة بتصليب عود الجانب النضالي لا بإعادة الهيكلة عبر الأساليب البيروقراطية على حساب الديمقراطية النقابية.
ما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم من تحولات ومن تحديث حقيقي للحركة النقابية لن يمرّ مرّ الكرام على مستوى الحركة النقابية العالمية، والسبب في ذلك إن الحركة النقابية الأمريكية بحجمها العددي الكبير وإمكانياتها المالية الهائلة ودورها كقاطرة للعديد من المنظمات من مختلف القارات، قادرة على التأثير على مجريات التطورات النقابية في العالم.
ولا يمثل ما يحدث في الولايات المتحدة بادرة الأمل الوحيدة، ففي فرنسا وفي ألمانيا وكندا وايطاليا مخاض صعب لميلاد حركات نقابية قادرة على استيعاب التحولات التي يعيشها المشهد الاقتصادي العالمي. ولعلّ في تجربة الس.ج.ت الفرنسية في السنوات الستّ الأخيرة مثالا للتحديث والقدرة على التأقلم مع التحولات. فهذه المنظمة التي عاشت في ظلّ الحزب الشيوعي الفرنسي ومقاربته للشأن الاجتماعي، أقدمت وبكل شجاعة في مؤتمرها قبل الأخير على مراجعة جذرية لمقاربتها الفكرية وآليات عملها وتعاملها مع الخارطة النقابية الفرنسية. قرّر المؤتمر المذكور وضع حدّ لاحتكار نقابيي القطاع العام والوظيفة العمومية للمسؤوليات القيادية في المنظمة وذلك عبر وجوب انحدار نصف أعضاء الهيئة الإدارية من القطاع الخاص. ولمزيد مواكبة التحولات قرر المؤتمر أن تكون الهيئة الإدارية متناصفة بين الرجال والنساء.
هذه الإصلاحات التحديثية التي شهدتها الس.ج.ت أكدت مكانة هذه الأخيرة كنقابة أولى في فرنسا ومكنتها من استقطاب آلاف النقابيين الجدد وأعطتها دفعا جديدا كطرف اجتماعي يحتفظ بقدرة تعبوية وتفاوضية اكبر.
ومن فرنسا إلى كندا، حيث تبدو بوادر الأمل في إعادة تحديث الحركة النقابية سائرة بخطى حثيثة، ففي مقاطعة الكيباك تعيش الحركة النقابية ثورة داخلية كبرى تهدف إلى إرساء أشكال جديدة من التمثيلية، تقطع مع البيروقراطية التي سادت طيلة العقود الماضية، وتدخل جرعة من الديمقراطية على التسيير الداخلي للنقابات، وتقرّب الهياكل النقابية من منخرطيها ومشاغلهم. إنّ النقابات الكندية تفطنت إلى إمكانية أن تكون الضحية الأولى للتحولات الاقتصادية وللتطورات التي ما انفكت تشهدها العلاقات الشغلية والتي تدفع إلى الفردية والعزوف عن العمل الجماعي ولتدارك الانعكاسات السلبية انكبت هذه النقابات على تدارس سبل التأقلم مع الأوضاع الجديدة، وتوصلت إلى جملة من الإجراءات4 طالت العلاقات مع أرباب العمل والبحث في إرساء سياسات وفاقية قوامها «الولاء» للمؤسسة كشكل من أشكال الوطنية الجديدة.
الإجراء الهام الثاني هو السعي إلى التخلي عن «وهم الوحدة العمالية» لفائدة الانتباه أكثر إلى خصوصيات مكوّنات المجموعة العمالية بما يكفل دمقرطة أكبر داخل الهيكل النقابي والاقتراب أكثر من اهتمامات المجموعة العمالية داخل المؤسسة، الأمر الذي يضمن بدوره تمثيلية اكبر للهيكل النقابي ويعزز بالتالي من دوره داخل المؤسسة.
تكون إذن العديد من الإجراءات والمراجعات التي تطال حتى الجذور في بعض الأحيان، مكنت النقابات الكندية، وخصوصا في مقاطعة الكيباك، من تدارك الفجوة التي تعمقت خلال عشريتي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، لتعطي للنقابات القدرة على تجديد العهد مع استقطاب المنخرطين الجدد.
هذه الصحوة التي تعرضنا إلى البعض من مظاهرها في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وكندا والشجاعة المعنوية التي تحلّت بها نقابات هذه البلدان لمواجهة التحولات المحلية والعالمية طالت أيضا على المستوى الدولي المنظمات المهنية العالمية والتي تشهد منذ أواخر القرن الماضي حراكا كبيرا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.