إنّه شاعرٌ تافه! سألتك عن شعره وليس عن شخصه! كلاهُما نقطة داخل صفر حقيقي! وما رأيك في شعرك أنت؟ بكلّ تواضع لم يُعد يفصلني عن ستوكهولم سوى مطار واحد.. وأرجو ان تكون الاحوال الجوية مناسبة لسلامة الإقلاع والهبوط. إنّ مثل هذا الحوار، وغيره من الحوارات الجارية صباحًا وعشيّا في مقاهي وحوانيت الوطن العربي، لم يعدْ مثيرا للعجب لكونه يصدر عن شعراء يتظاهرون بأمراض «متأصّلة عظيمة» لم يردْ ذكْرها حتّى في قواميس علم النّفس التحليلي، عوض أن ينتبهوا الى أن سلاسة الكتابة الشعرية وتعقيدها يتطلّبان قدرا لا بأس به من التواضع الى جانب بعض الكبرياء... بطبيعة الحال. إنّه حوار الأنا المقْعدة التي لاتفارق مرايا المقاهي إلاّ للوقوف أمام مرايا مراحيضها.. مرورا بمرايا السيارات والشاحنات الرابضة على حواشي الشوارع الفارغة من المارّة ومن الشرطة... كذلك. حوارا ليس بمقدور أصحابه استخلاص العبرة من رأي الشاعر البحتري في شعر أبي تمام: «رديئي افضل من رديئه وجيّده أفضلُ من جيّدي» وهو رأي يتجاوز مجرد الاعتراف والانصاف الى الاعجاب والمحبّة بين شاعرين يتقاسمان نفس العصر.
خلال الثّلث الأوّل من هذا الشهر صادف ان زار تونس شاعران عربيان مهمان هما محمود درويش وسعدي يوسف. الاوّل لتسلّم جائزة منحته اياها الدولة التونسية ثم لاقامة امسية شعرية في اطار فعاليات ايام قرطاج المسرحية حيث تمّ تحويل جداريته الى عمل مسرحي من قبل فرقة فلسطينية. والثاني مواصلة لرحلاته واسفاره عبر اصقاع العالم والوطن العربي وقد كان في ضيافة بعض اصدقائه من أدباء تونس الذين لا يزالون قادرين على الاعتراف بالرواد. لم يكن احدهما يفوّت اية فرصة للسؤال عن الاخر: عن صحته وبرامجه وعن احواله عموما. وأكثر من ذلك قد حرص كل منهما على حضور امسية الثاني من اولها الى اخرها غير متأفف من الجلوس وسط الجمهور العريض ومن الاستماع الى أسئلة الشبان والطلبة الذين اذهلوا الشاعرين بإطلاعهم الدقيق على تجربتيهما. كان كل ذلك يدور بتلقائية ومحبّة وتقدير اي بعيدا عن البروتوكول والتكلّف اللذين كادا يحولان معظم الانشطة الشعرية العربية الى جنائز ومآتم!
لم يكن الشاعر ب، س إليوت يخشى من تسمية الشاعر عزرباوند ب الصانع الامهر» ولم يكن ابو العلاء المعري، من قبله، يخشى من تأليف «معجز أحمد» لتبيين قيمه المتبني فما الذي تخشاه هذه الحشود الشعرية العربية عندما تحبّ نصا شعريا متفردا او شاعرا اثبت جدارته بان يكون كذلك؟ لا شيء.. على ما يبدو.. سوى دقّة ذلك المثل العربي الذي هوبيت شعري في نفس الوقت: «إن الطيور على أمثالها تقع»!!