نِعَمٌ كثيرة تسبح في فلكنا وتحيط حياتنا بالفضائل ولا ننتبه، تفاصيل كثيرة لا ندركها الاّ متى فقدناها، مسبّبات راحة لا نقدّر قيمتها ولا نعيرها إهتمامنا الاّ حين نرى تطلّع فاقديها اليها... حديث جانبي مع أحد الزملاء حول صديقة مشتركة قادنا للتفكير في بعض ما لا ننتبه له ولا نقدّر قيمته: النشأة المتوازنة في عائلة متماسكة كجلّ ابناء هذه الارض فلم نفكر قطّ في الحالات المختلفة عنّا، تلك التي تقودنا للإنتباه لعذابات الاخرين الذين فقدوا قسرا ظروف نشأة عادية، انهم أبناء الآباء المطلّقين الذين يكبرون موزّعين بين أمّ وحيدة وأب غائب، يكبرون بسير أعرج وتفاصيل فرح منقوص وحزن بلا مواساة كاملة، يعيشون طفولة يغيبُ عنها التوازن ومراهقة مشحونة باسئلة «اللماذا» وشباب مأخوذ بهاجس ولوج الكهولة وتأسيس أسير لا يُعيدون خلالها إنتاج مآسيهم ولكنهم غالبا ما لا ينجحون... عندما ينجح أحدهم في امتحان «السيزيام» تلتوي رقابهم في انتظار الوليّ الغائب (أمّا أو أبا) وان لم يشهد فرحتهم الصغيرة بتعلات كثيرة يُداوي الغياب بهدية كهدايا الغرباء لن تعوّض ابدا عدم الحضور... تستمرّ افراحهم او انكساراتهم ولا يحلمون بأكثر من مكالمة هاتفية مستعجلة تختلس بعض ومضات الهاتف المحمول... البكالوريا، التخرّج، الخطوبة... : أين أب العروس لأطلبها منه؟ يسأل والد عريس افتراضي، ولكنه (الاب) في ذهن تلك الفتاة التي ربيت وسط عائلة منفصلة لا يمكن ان يكون موجودا في مثل هذ اليوم كما لم يكن موجودا في ايّ يوم، تخترقها الظنون عمّا يمكن ان يكون البديل، الخال الأكبر ربّما او الجدّ ان ظلّ على قيد الحياة او لعلّه هذا الاخ اليافع الذي يجب ان يكبر بسرعة ليكون سندها في خطوبة قريبة من اجل ان لا يُحرج والد عريسها ويحرج الحاضرين. هل انتبهنا لمثل هذه السيناريوهات التي قد تخترق ذهن مراهقة عاشقة تعيش وحيدة مع أمّها، أو ربّما تزوجت هذه الام وتركتها لتؤنس فراغ جدّة عجوز لم تستطع ان تلتقي معها في شيء بإستثناء الحبّ الفطري، فلا زمن الجدّة زمنها ولا لغة الجدّة لغتها ولا مكوّنات حياتهما مشتركة: واحدة توقف وعيها بالمنجزات عند التلفزيون الوطني والروايات في الاذاعة الوطنية، واخرى تعيش زمن ال DVD (الدي في دي) والانترنيت على المحمول، هل انتبهنا لتهيّبها واحساسها بالنقص وهي الطفلة والمراهقة، امام زملائها، او إخفاءها لاعجاب حادّ بزميلها في الفصل الذي تخشى ان يرفضها لانها ابنة عائلة منفصلة الاطراف... هل فكرنا في وقع مطالبة احد الاساتذة لها بإحضار الوليّ، وحيرتها عن كيفية إعلامه ان والدها لا يمكن ان يحضر.. ماذا تراها تقول امام مرآتها وهي تنسج حكاية لقاء مع والدها الذي تراه مرّة كل سنتين في إحدى الحدائق العمومية اليوم وفي مدينة الملاهي منذ خمس سنوات كيف ستختزل له كل حكاياها وتفاصيلها وطلاباتها واحلامها، كيف ستقول له انها تحبّه رغم الغياب، كيف ستشرح له عزمها الشديد وقرارها الحاسم بعدم قبول الطلاق او التفكير به اذا حدث وتزوجت يوما حتى وان كان شريكها إبليسا، كيف ستقول له كل هذا، هذا الاب الذي تعدّ كل اسبوع سيناريو اللقاء معه؟ ثم تجمع السيناريوهات الاسبوعية في سيناريو شهري مركّز وتجمع تلك السيناريوهات الشهرية في واحد سنوي وذاك السنوي تجمعه الى سنة أخرى تنتظر خلالها ابا ربّما يحلّ ركبه في العام القادم فيسأل عن هذه الفتاة الكبيرة التي تحبّه وتحمل إسمه. انهم ابناؤنا واصدقاؤنا وزملاؤنا الذين نشأوا في عائلات ممزقة الاطراف لم ننتبه جيدا لاحاديثهم الداخلية والامهم ومعاناتهم وكنا دائما نقول انهم اشباهنا الذين لا نختلف عنهم ولكنهم في الحقيقة يختلفون عنا بوعيهم بالاختلاف، يختلفون بحساسيتهم العالية التي قد تدفع البعض منهم الى الانحراف، يختلفون بسعيهم الباطن للانخراط في الحياة بلا موت معلن في ذواتهم الغنية...! فهلا انتبهنا وهلاّ انتبه الاباء لضرورة حلّ مشاكلهم بالحوار الهادئ والمسؤول والنظر مليّا الى ابنائهم فلذات الاكباد قبل التصرّف بأنانية أو عنجهية وكبرياء واختيار الطلاق حلاّ.