بعث لنا الأخ الدكتور عبد اللّه بنسعد بهذه الدراسة التي اضطررنا لتقسيمها الى 4 حلقات وذلك نظرا لطولها. يجب التأكيد أولا على ان الحرب التي تقودها امريكا ضد العراق حاليا تهدف أساسا الى تكريس ما يسمّى بالنظام العالمي الجديد ذي القطب الواحد الذي أتى ليعوّض الحرب الباردة التي دامت حوالي 40 سنة (من 1947 الى 1989) وجوهر هذا النظام العالمي الجديد هو ما يعرف بالعولمة التي ترتكز على ثلاثة مرتكزات: الفكر الواحد، الفكر الليبرالي والاقتصاد الواحد، اقتصاد السوق والثقافة الواحدة، ثقافة الاستهلاك. ولو نعود قليلا لقراءة التاريخ نجد أن الاستراتيجيين الامريكيين وضعوا سنة 1947 (بعد نهاية الحرب العالمية الثانية) ما سمّي بسياسة الاعتراض (politique d'endiguement) لمحاولة التصدّي للزحف الشيوعي في العالم لكن بعد انتصار الثورة المضادة في الاتحاد السوفياتي وتفكّكه الى دويلات عديدة في أواخر الثمانينيات، كلّف بيل كلينتون (الذي صعد الى دفّة الحكم سنة 1993) مستشارة للأمن القومي المدعو «أنطوني لايك» للبحث عن سياسة جديدة تأخذ بعين الاعتبار التحوّلات الحاصلة، فتفتّحت قريحته عن سياسة جديدة سميت بسياسة التوسّع (politique d'elargissement) اي توسيع نفوذ اقتصاد السوق. أما الاسس التي ترتكز عليها هذه السياسة فهي الآتية: ضرورة سيطرة الولاياتالمتحدة على العالم سياسيا واقتصاديا وذلك لفتح أقصى ما يمكن من الأسواق للشركات والاحتكارات الأمريكية لبيع منتوجاتها وتحقيق أقصى ما يمكن من الأرباح. ضرورة اعتماد الولاياتالمتحدة على المؤسسات المالية العالمية: البنك العالمي وصندوق النقد الدولي (اللذين كلفا بفرض ما يسمى ببرامج الإصلاح الهيكلي للاقتصاد) إضافة الى المنظمة العالمية للتجارة التي وقع بعثها سنة 1995. ضرورة استعمال الولاياتالمتحدة للحل العسكري كلما لزم الأمر ولو دون موافقة مجلس الامن. ضرورة التشهير والتصدي لدول الشرّ (Les Etats voyous) التي ترفض هذا النظام العالمي الجديد. نلاحظ اذا أن ما يقوم به الرئيس الامريكي بوش حاليا ليس سوى تطبيق حرفي لهذه الأسس التي وضعها أنطوني لايك، اذا يتضح جليا انه لا يمكن فهم ما يحدث الان دون الوقوف عند التحوّل الاستراتيجي الذي حصل منذ سنة 1989 بإنتصار الثورة المضادة في الاتحاد السوفياتي وبقية بلدان أوروبا الشرقية وهو ما أدّى الى انفلات الرأسمالية من تحت عقالها حيث فسح لها المجال لمزيد نهب واضطهاد الشعوب والامم وقد نظّر لذلك فرانسيس فوكوياما في كتابه: نهاية التاريخ والانسان الاخير (La fin de l'histoire et le dernier homme)، حيث أكد على الانتصار النهائي للفكر الليبرالي بقيادة الولاياتالمتحدةالامريكية وبالتالي التأسيس لعالم ذي قطب واحد وهو ما ذهب إليه أيضا هنري كسنجر في كتاب له حول السياسة الخارجية الأمريكية صدر له سنة 1995 حيث قال: «في بداية هذا القرن الجديد تتمتّع الولاياتالمتحدةالامريكية بتفوّق لم يسبق لأي إمبراطورية في التاريخ أن بلغته، من التسليح إلى المقاولات ومن العلوم الى التكنولوجيا ومن التعليم الى الثقافة، أمريكا تتفوّق على كل العالم». هذا هو إذا الإطار العام لهذه الحرب الإمبريالية الصهيونية الرجعية التي تخاض ضد العراق. 1 الأهداف الاستراتيجية: الاهداف الاستراتيجية نختزلها في ثلاثة أهداف فقط: هدف اقتصادي: وضع اليد على منابع النفط هدف سياسي: السيطرة على العالم وفرض المخطط الامبريالي الصهيوني على منطقة الشرق الأوسط (الشرق الأوسط الكبير). هدف علمي ثقافي: اغتيال «العقل العربي» وتكريس ثقافة الهزيمة والخنوع. 1 1 الهدف الاقتصادي: وضع اليد على منابع النفط البلدان المنتجة للنفط وكذلك البلدان التي وضعها حظّها في طريق مرور أنابيب النفط تعرّضت أو ستتعرض لدمار الحرب الامبريالية إن هي رفضت مخططات الشركات المتعددة الجنسيات والتي تقف على رأسها الشركات الامريكية، فالصناعة البترولية احتلت دائما موقعا مؤثرا وسلطة قوية داخل الادارات الامريكية المتعاقبة إذ انتمى كل وزراء خارجية أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية إلى هذه الصناعة: جون فوستر 53 59، كريستيان هارتر 59 61، دين روكس 61 69، هنري كيسنجر 73 77، سيروس فانس 77 80، ألكسندر هايق 81 82 جورج شولتز 82 89 وجيمس بيكر 89 94. إثنان فقط لم ينتميا إلى هذا اللوبي أحدهما وزير الخارجية كولين باول. لكن باول عوّضه رئيسه جورج وولكر بوش الذي ينتمي الى عائلة من اهم العائلات المستثمرة في قطاع البترول في امريكا، الشخصية الثانية في الحكومة الامريكية الحالية التي تعتبر من الوزن الثقيل في هذا القطاع هو نائب الرئيس ديك تشيني الذي ترأس لمدة طويلة احدى أهم الشركات البترولية في العالم وهي شركة «هالي بيرتون» المنتصبة في أكثر من 130 دولة والمشغّلة لحوالي 100 ألف موظّف. كما لا يمكن ان ننسى كونوليزا رايس التي كانت عضوة بمجلس ادارة احدى الشركات النفطية الهامة وهي شركة «شوفرون» (Chevron) هكذا اذا وبعد ان وضعت يدها على منابع النفط في الخليج بعد الحرب الاولى حيث اصبحت لها قواعد عسكرية مهمة ودائمة في مختلف بلدان الخليج، كان لابد للصناعة البترولية الامريكية ان تحرّك الالة العسكرية نحو العراق الذي يحتفظ بثاني أكبر إحتياطي نفط في العالم بعد السعودية (10.5 للعراق مقابل 24 للسعودية) من ناحية ولجودة البترول العراقي وخاصة للانخفاض الكبير لكلفة انتاجه مقارنة ببقية الدول من ناحية اخرى فاستخراج برميل نفط عراقي لا يتجاوز ثمنه دولارا واحدا مقابل 6 دولارات لاستخراج برميل نفط سعودي، كما انه على كل 5 آبار في العراق 4 تنتج النفط مقابل 1 فقط على 5 في السعودية. إضافة الي كل ذلك فان حوالي 90 من الاراضي العراقية لم يقع استكشافها بعد اي إن البترول العراقي الحالي لا يهم الا 10 من الاراضي. كل هذه المؤشرات جعلت الامبريالية تسعى بكل الطرق لوضع يدها على النفط العراقي وقد عبّر عن هذه الاطماع أحد أباطرة النفط في امريكا المدعو «مايكل تيلينق الذي قال «ليس من المعقول ان نهدر أموالا طائلة للبحث عن النفط هنا وهناك ونحفر مئات الأمار في البحار والمحيطات بينما نعرف ان هناك مخزونا نفطيا يساوي 40 مليار برميل في العراق وعلى عمق قليل جدا». لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل امريكا في حاجة الى كل هذا النفط والغاز لتشغيل وتسيير منشآتها ومركباتها؟ الإجابة تكون طبعا بلا لأنّ منابع النفط والغاز لا تمثّل سوى سلاح تستعمله الامبريالية الامريكية في صراعها مع بقية الامبرياليات وكما قال «ميشال كولون: «من يريد السيطرة على العالم عليه السيطرة على منابع النفط أينما كانت» فبالنسبة لأوروبا يمثل نفط الشرق الأوسط أهم مصدر لها حاضرا ومستقبلا، إذ من المتوقع أن تبلغ واردات أوروبا سنة 2010، 87 من حاجياتها من النفط و66 من حاجياتها من الغاز، وقد استغلت بعض الدول الاوروبية التي لها علاقات مع العراق لإستغلال حالة الحصارلعقد عديد عقود الاستكشاف في العراق مثل شركات طوطال وفينا وألف. روسيا أيضا استغلت هذه الوضعية حيث عقدت اكبر شركة بترول روسية «لوك أويل» (Lukoil) عقدا مهما مع الحكومة العراقية الشرعية قبل سقوط بغداد لإستغلال حقل بترولي جنوب العراق به إحتياطي يبلغ حوالي 7.8 مليار برميل من النفط. إضافة الى أن ديون العراق لدى روسيا تبلغ 12 مليار دولار وتعلم روسيا أن ديونها لا يمكن إستردادها إلا عن طريق النفط. أما بالنسبة للصين فإن الدراسات الاستراتيجية تؤكّد أنها ستصبح أكبر مستهلك للنفط والغاز في العالم مع حلول سنة 2015 حيث ستستهلك 3 أرباع الانتاج النفطي العربي وذلك نتيجة نموها الاقتصادي الكبير الي يفوق نمو البلدان الصناعية بنسب كبيرة (قدّرت نسبة نمو الاقتصاد الصيني سنة 2003 بحوالي 10 بينما بلغت أعلى نسبة في البلدان الصناعية 1.5 (ألمانيا) ولهذا يمكن ان نفهم سبب معارضة هذه المجموعة من الدول للحرب على العراق في مجلس الامن. ولاستكمال مشروعها المتعلّق بوضع يدها على كل منابع النفط في العالم، يجدر التذكير بالحرب المدمّرة التي استهدفت أفغانستان بدعوى محاربة الارهاب بينما الهدف هو الاقتراب أكثر ما يمكن من بلدان الاتحاد السوفياتي السابقة التي تحتفظ هي أيضا بإحتياطي كبير من النفط والغاز وهي كازاخستان وتركمانستان وطاجاكستان وأوزباكستان وأذربيدجان حيث يقدّر إحتياطي النفط بها ب 28 مليار برميل و7000 متر مكعّب من الغاز. وإذا ألقينا نظرة على الخارطة الجغرافية نلاحظ أن البلدان المذكورة موجودة شمال أفغانستان لكن المشكل الذي يؤرّق الإدارة الأمريكية حاليا هو طرق مرور أنابيب النفط والغاز نحو الغرب فباستثناء روسيا وإيران لا توجد دولة من تلك الدول المذكورة تملك منفذا على البحر وبالتالي فإنه ليس امام امريكا سوى حل واحد وهو بناء أنبوب يربط بين باكو عاصمة أذربيدجان وميناء صيحان التركي مرورا بجورجيا. وهو ما يفسّر الصراع الحالي الدائر بين أمريكا وروسيا على الساحة الجيورجية والذي يبدو أنّه حسم مبدئيّا لصالح الامبرالية الأمريكيّة.