إذا كان المشهد الفلسطيني مشحونا بتوترات عنيفة ودمويّة وأنّ اصحاب المواقف الوطنية الفلسطينية يتعرّضون في كلّ يوم لعمليات التصفية التي لم تستثن شيئا له صفة فلسطينية حتّى أنّ التنازلات المجانية التي قدّمتها السلطة الفلسطينية للكيان الصهيوني لم تشفع ولن تشفع في الحدّ من تلك الممارسات. وإذا كان المشهد العراقي أكثر تعقيدا من المشهد الفلسطيني وأعنف منه، فانّ المشهد اللبناني يبدو في الظاهر أكثر هدوءا على الرغم من الاحتقان السياسي الذي يكاد في اكثر من مرّة ان يعصف ب «لبنان» وأن يدخله في دوامة الحرب الاهلية. لا شك ان لبنان حاليا كما في السابق مشبع بالجواسيس والعملاء وانه بدأ «يفقد» سياسيا هويته الوطنية تحت الضغط والزّحف التدريجي للتدويل لصالح هوية اقليمية فاقدة «للهويّة» لن تكون خاضعة لمقاييس مفهوم الهويّة: هوية اقليمية تتعارض مع مصالح دول وشعوب المنطقة وتهدّد مستقبلها واستقرارها المفقود على الدّوام. فمن لبنان الاستراتيجي يبدأ الحديث عن كل شيء وفي كل شيء وفيه تطرح اهم الاسئلة وتقدّم اهمّ الاجوبة التي تتعلق بمصير المشروعين المتصارعين فيه صراعا مفتوحا (مشروع الشرق الاوسط الكبير والجديد ومشروع الامة في الدفاع عن نفسها وتحقيق ذاتها). فالاستحقاق الرئاسي في لبنان شرعية او عدم شرعية الحكومة اللبنانية وفكرة تعدي الدستور والتمثيل النيابي ومشكل الاغلبية والاقلية والتوافق والانتفاع وعدمه وقضية اغتيال الحريري مع المحكمة الدولية، لم تكن وطنية لبنانية بل كانت «دولية» بكلّ النّسب المئوية وسوف لن تكون الا دولية حتى سلاح المقاومة بل هو المطلوب على رأس القائمة ودخل تحت طائلة التدويل بالقرارين الاممين 1559 و1701 وغيرها من القرارات غير المباشرة. «والتدويل» مثله مثل «الارهاب» لم يستقرّ على تعريف واضح ومتميّز بحكم الصرّاع المفتوح في المنطقة فإذا كان لبنان بهذه الاهمية الاستراتيجية على الرغم من مساحته الجغرافية الضيقة جدا مقارنة بغيره فيبدو من المعقول جدا ان تنقلب معه المفاهيم والتسميات والمواقع والقضايا وتنخرط في سياق عام لاستراتيجية نظرية ذهنية فكرية تنسجم مع اهمية الاستراتيجية سياسيا وعسكريا في الممارسة اليوميّة، وهنا ينقسم لبنان على نفسه شطرين: 1) شطر موال و2) شطر مقاوم. فالأوّل يستنجد بالخارج ويستقوى به وينادي بالتدويل على حساب الهويّة الوطنية اللبنانية واستقلال لبنان باسم استقلال لبنان وهويته الوطنية والقوميّة. أمّا الشطر الثاني: فيرفض التدويل ويحذّر من مخاطر الاستقواء بالخارج ويعطي الاولوية لوطنية لبنان وعروبته. واذا كنا مازلنا ضمن لبنان الاستراتيجي نتحدّث عن القضية الفلسطينية ك «قضية مركزية» للأمّة العربية وللشعب العربي: فإنّ القضية لم تبق هي نفسها قضية بل أصبحت مصيرا وبالتالي فانّ فلسطين ك «مصير» لم تعد هي وحدها فلسطين بل هي في لبنان أو قل ان لبنان هو نفسه فلسطين: لا من الدرجة الثانية او الثالثة بل من الدّرجة الاولى، لأنّ المصير هو نفسه واحد كروح منبت في كينونة الامّة وفي كينونة الشعب العربي و»بالمصير كروح» تصبح الامة هي نفسها الشعب وما نقوله عن لبنان فلسطينيا نقوله عن كل قطر عربي آخر وهنا تكمن وحدة الامة العربية. كذلك بالنسبة ل «مفهوم الوجود» الذي مازال يشرّع صراعنا مع العدو الصهيوني قد تحوّل الى «مصير» لانّ مفهوم «المصير» أعمق وأشمل وأكثر استجابة لمتطلبات المرحلة من الوجود. قد يكون المصير مجهولا، ولكن الوجود ايضا قد يكون معدوما فيبقى المجهول افضل من المعدوم واذا كان صراعنا مع العدو وعبر التاريخ صراع وجود فإنّ للعدو الحق في الوجود ايضا ولكن ليس على حسابنا الخاص ليس على حساب ارضنا ليس على حساب فلسطين ومصير فلسطين أو غيرها، العدو له الحق في ان يعود ويعيش في البلد الذي جاء منه. فصراعنا مع العدو لم يعد صراع وجود بل هو صراع مصير. ولا شكّ انّ أيّ حديث عن لبنان لابدّ أن يستحضر معه انجازات المقاومة وما حققته من انتصارات على العدو الصهيوني خاصة في حرب تموز 2006 التي استطاعت ان تمحي من عقل ووجدان وشعور الانسان العربي طعم الاهانة والمذلّة وان تستأصل منه عقيدة الهزيمة وأعادت له مصالحته مع ذاته وتاريخه وارادته. فالمشهد اللبناني الان الذي اطاحت فيه المقاومة بكلّ مفاهيم الهزيمة وفيه تحقّق التوازن الاستراتيجي للصّراع العربي الصهيوني بمعنى انّ المقاومة استطاعت ان تحقق مع العدو الصهيوني توازنا استراتيجيا نموذجيا فالعين بالعين والسنّ بالسنّ والرعب بالرّعب. اما بقية المساحة في المشهد اللبناني، فضلّت هامشا معزولا تتحرّك فيه قوى لا وطنية مشبعة بالعمالة ومدعومة بالجواسيس والقوّادين. يقول قائل ألم نكن بالامس نراهن على قدرة العراق العسكرية في التصدي لاي هجوم يستهدف سيادة العراق؟ فأين هي تلك القدرة وأين هي الان القوة العسكرية العراقية؟ ألا يبدو الحديث عن المقاومة اللبنانية (حزب اللّه) حديثا مبالغا فيه يحمّل المقاومة مالا طاقة لها به؟ وبالتالي فاننا سنقع مرة اخرى في فخّ الرّهان الخاسر ثم أليس «حزب الله» طائفيا شيعيا يحمل مشروعا ايرانيا اهدافه باتت مكشوفة ومعروفة وأن ايران لا تقلّ خطورة تهديداتها للامة من الكيان الصهيوني؟ إضافة الى ان «حزب الله» هو بالاساس اداة سورية في لبنان لزعزعة أمنه واستقراره؟ الى آخر هذه التساؤلات وهذه الملاحظات... (يتبع).