من أنتم؟ في أي عصر عشتم في عصر أي ملهم في عصر أي ساحر نجيبهم: في عصر عبد الناصر اللّّه... ما أروعها شهادة أن يوجد الانسان في زمان عبد الناصر نزار قباني «لا أعلم ملابسات الموضوع بالتحديد لأنّي مشغول بالانتهاء من المشاهد الأخيرة، ولكن المسلسل سيصل للناس بالتأكيد، لأنّ الذي يحب أحدا سيبحث عنه، وشخصية ناصر لها شعبية كبيرة»، بهذه الكلمات القليلة يعلق الفنان مجدي كامل الذي تقمّص بكل اتقان ونجاح في مسلسل «ناصر» شخصية جمال عبد الناصر على قرار الحكومة المصرية منع عرض المسلسل بالتلفزيون المصري الذي أسسه جمال عبد الناصر أثناء شهر رمضان المنقضي، وبالفعل فقد صدق مجدي كامل، إذ لم يشذ شعبنا في تونس عن القاعدة العامة فانبرى يبحث عن السبل الكفيلة لمشاهدة المسلسل بالرغم من قرار الحجب وامتناع العديد من القنوات عن عرضه وخاصة القنوات «البترولية»، لأنه يحب عبد الناصر الذي لا ينكر شعبيته الكبيرة الاّ جاهلا أو جاحدا حقودا، وراجت بين الهواتف الجوالة الارساليات القصيرة في بداية شهر رمضان حاملة أسماء القنوات الفضائية التي تبثّ المسلسل وكيفية التقاطها، وهي التي لا تتعدى خمس قنوات فقط! في خضم هذا الطوفان الهائل من مئات القنوات الفضائية العربية، ولم يكن هذا الشغف والحرص على مشاهدة المسلسل مقتصرا فقط على الناصريين بتونس أو المسيّسين عموما من جميع الاتجاهات بل شمل مختلف فئات شعبنا بالقطر والناس العاديين ومن شباب ولد بعد وفاة جمال عبد الناصر ولم يعايش الحقبة الناصرية بانتصاراتها العظيمة وسلبياتها القليلة وهو ما يعكس حقيقة عمق وأصالة علاقة شعب تونس بجمال عبد الناصر الانسان وجمال عبد الناصر المشروع، فترفع صوره الآن هنا وليس في خمسينيات القاهرة في جميع التحركات الجماهيرية بتونس المساندة لشعبنا بفلسطين والعراق ولبنان وغيرها وتعلق في المنازل والمكاتب بالرغم من الدعاية الاقليمية المعادية الفرنكوفونية المضادة لكل ما يمت بصلة لعبد الناصر وتراث عبد الناصر، وبالرغم من ضخامة أبواق الدعاية المضادة وأقلام غربان الردة التي تقطر بترولا وحقدا واسفافا بتحريض مباشر من الامبريالية والصهيونية والأنظمة الرجعية العربية، وانخرطت بعض التيارات السياسية للأسف في هذه الجوقة المحمومة عن قصد ودون قصد لدرجة أنّ أحدها بتونس كان في ثمانينيات القرن الماضي يعتبر الكتابات الصفراء المهاجمة لعبد الناصر ولعصره من ضمن أدبياته السياسية ليستقطب بها شباب المعاهد والكليات!! تمتد علاقة شعبنا بتونس مع عبد الناصر بداية خمسينيات القرن الماضي الى اليوم متخذة تمظهرات وتشكيلات متعددة ومختلفة، انطلاقا مع «اليوسفيين» ثم «التيار القومي التقدمي» و»التجمع القومي العربي» و»الطلبة العرب التقدميين الوحدويين» و»الطلبة القوميون» متصدية لمختلف أشكال القمع والاحتواء لتنصهر كلّها اليوم في «الوحدويين الناصريين بتونس»، فلم ينس شعبنا بتونس دور عبد الناصر في دعم الحركة الوطنية التونسية ومساندته الكفاح المسلح لدحر الاستعمار الفرنسي البغيض بكامل أقطار المغرب العربي، كما أنّ زيارة عبد الناصر لتونس سنة 1963 ابّان العدوان الفرنسي على مدينة بنزرت ومعركة الجلاء لم ولن تمنحي من ذاكرة شعبنا، يومها خرج شعبنا على بكرة أبيه لملاقاة عبد الناصر، خرج دون ترغيب وترهيب ودون حشره في الحافلات الصفراء عنوة وهو الذي كان دائما مشدودا لاذاعة صوت العرب، متابعا ومستمعا وفيا لخطب الزعيم يهتدون بهديها ويسترشدون بنصائحه وكلماته، فتخلو شوارع تونس من المارة التي لم تمتلئ بالأمواج البشرية الاّ استقبالا لعبد الناصر سنة 1963 ورفضا لتنحيه عقب خطاب 9 جوان 1967 وتوديعا له لمثواه الأخير غرّة أكتوبر 1970. ولئن أحيا مسلسل «ناصر» ذاكرة شعبنا ونشطها مستحضرا ذلك الزمن الجميل، فإنّ مأخذه الوحيد على المسلسل أنّه لم يشر لهذه العلاقة ولا للقاء عبد الناصر بالزعيم القومي الشهيد صالح بن يوسف الذي اختار قاهرة عبد الناصر قاعدة لمقاومة الاستعمار الفرنسي وتحرير أقطار المغرب العربي كافة، وكيف حذر عبد الناصر صالح بن يوسف من مغبة مغادرته القاهرة خوفا على حياته الى أن استهدفته رصاصات الغدر البورقيبي بألمانيا سنة 1961، ثم تلا ذلك حملة استهداف الناصريين بتونس وملاحقتهم واحدا واحدا، وأصبح كل من يحمل صورة عبد ناصر أو يعلقها ببيته أو مكتبه مدانا ويرمى به في السجن قبل أي تحقيق ومحاكمة!! محطات تاريخية من دور عبد الناصر في تونس تمّ اغفالها، وهذا مقبول لأنّ السيرة الذاتية لعبد الناصر لا يمكن اختزالها دراميا في 30 حلقة فقط على كثرة وحجم محطاتها التاريخية وتعددها من خطب ولقاءات وزيارات ممّا يجعل من انجاز جزء ثانٍ للمسلسل ضروريا جدّا لاضاءة الجوانب المضيئة من دور عبد الناصر في تحرير شعب المغرب العربي من نير الاستعمار وإماطة اللثام عن الجوانب المعتمة التي حاولت وتحاول الأنظمة الاقليمية الفرنكوفونية طمسها عمدا، فهي تسعى جاهدة بالتحالف مع قوى الاستعمار والصهيونية إنهاء عبد الناصر المشروع بعد أن أنهت عبد الناصر الانسان وأزاحت شخصه عن المسرح السياسي، فيأتي نجاح المسلسل في تونس وفي أي مكان ردّا موضوعيا ومنطقيا على مشاريعها المشتبه فيها المستهدفة لشعبنا في كل مكان، نجاح عكسه حجم المشاهدة إذ تمّ اختياره من بين الأعمال الدرامية الشّبعة الأكثر مشاهدة خلال شهر رمضان، وكان البعض يشاهده مرتين في ا ليوم عند الافطار وآخر الليل، وحجم الاقبال المتزايد على شراء الأجهزة اللاقطة «الدّش» كما يسميه اخوتنا بالمشرق العربي وكذلك حجم الجدل والنقاشات والكتابات التي انطلقت منذ الاعلان عن فكرة انجاز المسلسل الى اليوم وحجم الومضات الاشهارية المتقطعة أثناء عرض المسلسل والتي استغرقت ثلث زمن عرضه تقريبا والذي يؤكد ان القنوات التي راهنت على عرض المسلسل وهي في الأغلب قنوات أرضية حديثة ومغمورة كسبت الرهان وربحت تجاريا واعلاميا بأن انضاف ملايين العرب الجدد لقائمة مشاهديها. حقق مسلسل «ناصر» هذا النجاح الباهر على عكس ما تمناه البعض وأسقط عنهم ورقة التوت الأخيرة، بالرغم من قرار المنع والحجب الذي لم يكن حكرا على القطر المصري، فقد امتنعت قناة تونس 7 الفضائية وقناة 21 الفضائية الحكوميتين وقناة حنبعل وحنبعل الشرق الفضائيتين الخاصتين عن بث المسلسل طيلة شهر رمضان المعظم بالرغم من أن قناة 21 تبث مسلسل «نور» التركي الذي أجمع جميع النقاد والفنانين والمخرجين أنّه ضعيف فنيا وقمة في التفاهة والسذاجة والتسطيح لا يترك الاّ أثارا سلبية ومدمرة لدى الشباب العربي ممّا جعل عديد الأئمة يفتون بتحريم عرضه!! وكذلك عرضه لمسلسل «صيد الريم» التونسي الذي لا يقل تفاهة عنه ميزته الوحيدة كثافة العبارات البذيئة والمبتذلة المستعملة في الحوار والإيحاءات الجنسية المباشرة، وان كان التلفزيون المصري اشترى مسلسل «نور» بمبلغ خمسة ملايين جنيه (حوالي مليار دينار تونسي) فبكم اشترته قناة 21 التونسية؟!! فهل أصبح المواطن التونسي يشتري مسلسلا تافها من مال الضرائب التي يدفعها لكي يساهم في انحطاط وتخلّف شبابه وتخريب عقول جيل كامل؟ ولا أعرف بالضبط ما هو تبريرهم لذلك؟! أكيد لن يبرّروا ذلك بأنّ مسلسل «ناصر» لا يتماشى مع شهر رمضان الذي يتطلّب أعمالا درامية خفيفة كمسلسل «نور» كما برّرت الحكومة المصرية قرار المنع وان وجد فهو تبرير تافه كتفاهة أغلب المسلسلات التي عرضوها، مردود على أصحابه لسبيين، أولا أنّه سبق لجميع الفضائيات التونسية خصوصا والعربية عموما بث مسلسلات تاريخية جادة في شهر رمضان المنقضي ورمضان السنة الفارطة على غرار مسلسل «أبو جعفر المنصور» ومسلسل الملك «فاروق» وثانيا أنّه ليس من مهام الفضائيات الحكومية عرض المسلسلات المنحطة وترويج الأعمال التافهة الممتلئة بمشاهد العري وشرب الخمر وتبرير القيام بجميع الموبقات دراميا في شهر رمضان المعظم شهر العبادة والتقوى والتقرب إلى اللّه عزّ وجل حتى وان كان في سبيل الترويح عن النفس واسعاد الناس بعد يوم كامل من الجوع والعطش فالضرورات هنا لا تبيح المحظورات، لأنّه لا يتمّ دفع الضرر بضرر أكبر منه!! الحقيقة الثابتة الوحيدة ان امتناع أغلب الفضائيات العربية الحكومية والخاصة على السواء عن بث مسلسل «ناصر» سببه سياسي بحت، فهؤلاء حكام أنظمة سايكس / بيكو لا يريدون للشعب العربي ان يقيم مقارنة بين شخص جمال عبد الناصر الميت عند اللّه، الحي في قلوب الملايين، وبينهم الأحياء على الأرض الأموات في قلوب الشعب العربي، وقد هالهم كيف يستطيع عبد الناصر حيا وميتا تجميع الملايين حوله وهم لا يستطيعون تجميع عشرها ولو استعملوا أساليب الترغيب والترغيب وجميع أجهزة أنظمتهم القطرية، وكانوا يعتقدون خطأ أنّهم يمنعون الشعب بذلك من استحضار ذلك الزمن الجميل، زمن العزة القومية والكرامة ورفع الرؤوس والصوت عاليا في وجه قوى الاستعباد والاستغلال والتجزئة والظلم لزمنهم الرديء زمن الانبطاح والفساد والاستبداد والتخلّف وبيع الأرض والعرض بالمليم الرمزي والاستسلام للعدو ولقوى الاستغلال العالمية الممتلئة بطونهم بقوت الفقراء وعرق الفلاحين والعمّال ودماء الشهداء. فالفرق واضح بين حاكم عربي من ذلك الماضي الذي لا يمضي رفع صوته عاليا مدويا: «ارفع رأسك يا أخي فلقد ولّى عهد الاستعباد» وبين حكام عرب هذا الزمن الذين لا يتورعون أمام عدسات المصورين على مد أياديهم لشعبهم الفقير لكي يقبلها ويلثمها وهو راكع في مشهد دنيء يقطر عبودية وإذلالا ولا تخجل فضائياتهم من تكرار عرضها يوميا،، وقد لا تجوز المقارنة أصلا بين زمانين مختلفين متضادين بعيدين عن بعضهما البعض بعد السماء عن الأرض وكيف نقارن بين الثرى والثريا؟ فالمقارنة تحصل بين شيئين قابلين للمقارنة أصلا، وبمجرد قبولنا بمبدأ المقارنة مع هولاء نكون قد أجحفنا حق عبد الناصر الانسان والمشروع وحق أمتنا العربية التي قال عنها بدر شاكر السيّاب وجعل قدرها من قدر جمال عبد الناصر: هذا الذي حدثتنا عنه أنفسنا في دهياء نبلوها وننتظر هذا الذي كل سحق لبذرته بالخيل الروم والذابلات التتر يا أمة تصنع الأقدار من دمها لا تيأسي ان عبد الناصر القدر إنّ ما خلفه نجاح مسلسل «ناصر» بتونس وان كان في جانب منه نتيجة طبيعية لشخصية عبد الناصر الآسرة، التي مازالت حاضرة في سواعد عمّال الشرقية ومناجم قفصة.. وفي صمود موقوفي أهالي الحوض المنجمي، وفي عرق فلاحي الريف التونسي من بنردان لبنزرت، وفي محاضرات الطلبة وكتبهم، وفي كتابات الباحثين والمثقفين وفي مرافعات المحامين.. وهذا دليل ساطع على تمسّك شعبنا العربي بالمشروع القومي الناصري لبناء دولة العرب الواحدة ذات الأفق الاشتراكي الديمقراطي وتحرير الأراضي العربية المحتلة، ارتباطا بالقومية العربية التي قال عنها جمال عبد الناصر نفسه أنّها هي التي خلقته، فهي موجودة قبله ومازالت بعده باقية جذوة متقدة، وليس هو الذي اثارها بل هي التي حملته بقوتها الهائلة ليكون أداتها المنفذة ويدها الطولى، ولو لم يكن عبد الناصر موجودا لخلق غيره، فهي كامنة في ملايين الشعب العربي تيارا لا يمكن مقاومته ولا تستطيع أي قوة في العالم تدميرها لتظلّ راياتها خفاقة دوما، وعلى كل مؤمن بهذه الثوابت العظيمة تحويل التيار الواسع العريض الى حركة سياسية ناصرية خالصة شكلا ومضمونا، فنتدارك بذلك بعض أخطاء التجربة ولعلّ أهمها غياب حزب قومي ناصري في عهد عبد الناصر، فهذه هي الناصرية، مشروع وحدوي مؤسساتي، متجدّد زاخر بعناصر الحياة والنمو والتطور، ثائر على ما هو موجود لتحقيق المنشود دون أن يتحوّل إلى كهنوت جامد يسبح في الغيب والوهم، فالذي يتجمّد عند زمن معين لا يتسّع له أي مكان ويجد نفسه خارج التاريخ، فيتجمد بجمود الماضي الذي بمجرد وقوعه ينفلت من امكانية التغيير، والناصرية لا ترتكز على الأشخاص حتى وان كان شخص عبد الناصر نفسه بل على المؤسسات والمبادئ الثورية التي تأخذ في الاعتبار الواقع القطري التونسي والواقع العربي والدولي... والصراع العربي الصهيوني بوصفه صراع وجود لا صراع حدود، وحتى لا يتم اختزال القومية والناصرية في صورة عبد الناصر تعلق على الجدران وترفع في التظاهرات أو في نقاشات نظرية ميتافيزيقية فقط أو في عمل درامي يروي سيرته الذاتية الزاخرة بالانجازات العظيمة على ايجابيات الرجل وعصره الكثيرة وسلبياته القليلة العادية، حتى وان كان هذا العمل ناجحا في حجم نجاح مسلسل «ناصر».