في اطار احياء الذكرى التاسعة والخمسين لأحداث سوق الخميس (بوسالم حاليا)، المتمثلة في شن عمّال الفلاحة أحد أطول الاضرابات العمّالية في تاريخ الشغيلة بالقطر، وفي سياق ابراز الدور النقابي والوطني للمنظمة ومساهمة مختلف الجهات في نحت الهوية العمّالية للمنظمة ودعم توجهها المناضل، وهو توجه غذته باستمرار منذ التأسيس في 1946 نضالات عمّال مختلف الجهات بما في ذلك عمّال جهة جندوبة ولاسيما العمّال الفلاحيين. ويرتبط تشكل طبقة العمال الفلاحين بالجهة بالتسرّب الرأسمالي الأوروبي للجهة والذي اتخذ شكل هيمنة استعمارية على أجود الأراضي بحوض مجردة من قبل البرجوازية الفلاحية الفرنسية على غرار cailloux de magneval وmares collmbat وغيرهم (1). وعموما بلغت مساحة ملكيات الفرنسيين بسوق الاربعاء وهي التسمية القديمة لجندوبة حوالي 27 ألف هكتار فجر الحرب العالمية الأولى موزعة على 240 معمرا، ويتركز أهم المعمرين من حيث النفوذ المادي والسياسي بسوق الخميس لكونها من أنشط مراكز الاستعمار الزراعي بالبلاد. وأدّت هذه التحولات التي شملت قوى الانتاج إلى تدمير الهياكل الاجتماعية التقليدية على نطاق واسع بما في ذلك المناطق الجبلية المحيطة بحوض مجردة مثل خمير وعمدون حيث سيغادر قسم مهم من سكان هذه المناطق ليتحولوا إلى عمّال فلاحيين لدى البرجوازية الزراعية. وهكذا تشكلت طبقة الفلاحين بالجهة وبكل المناطق الخصبة بالبلاد كالوطن القبلي وبأقل درجة بجهة الساحل. وكانت طبقة عمّال الفلاحة عرضة لمختلف أشكال الاستغلال من قبل رأس المال الفرنسي والاقطاع المحلي، فإلى جانب ضعف الأجور وطول ساعات العمل كان العمال يتعرضون لممارسات ذات صبغة عنصرية ففي سنة 1922 اندلعت قضية »مانيفال« المعمر الفرنسي المالك لهنشير الروماني ببوسالم والذي قام في أوت 1922 بتعليق عاملين فلاحيين هما علي الدريدي وخميس العمدوني وإلحاق اضرار بدنية بالغة بزميله. وقد تبنّى في ذلك التاريخ الحزب الحر الدستوري التونسي قضية العاملين وقام بمتابعتها قضائيا، كما تولّت الأوساط الشيوعية والاشتراكية متابعة الحادثة والتنديد بتعسف المعمرين وخاصة صحيفة »المستقبل الاجتماعي« الناطقة باسم الحزب الشيوعي (1) بالمقابل تجاهلت النقابات الفرنسية الحادثة لأنّ هذه النقابات المنضوية في »اتحاد النقابات« التابع ل C.G.T كانت في الواقع مكونا من مكونات الجسم الاستعماري. ولا يستبعد ان تكون الأطراف التي ساهمت في تأسيس أول مركزية عمّالية مستقلة وهي جامعة عموم العملة الأولى قد اطلعت على قضية مانيفال خاصة أنّ العاملين اللذين تعرضا للتعذيب نشرا قضيتهما في العاصمة بدعم من الحزب الدستوري. ولا يمكن القول أنّ معاناة عمال الفلاحة بالجهة ساهمت في تعزيز وترسيخ القناعة لدى العمال التونسيين بضرورة تأسيس مركزية نقابية مستقلة وقد جسّد محمد علي الحامي هذه القناعة سنة 1924. وتواصل دور العمال الفلاحيين في الجهة في النضال النقابي والوطني في الثلاثينيات فانخرطوا بكثافة في الحزب الحر الدستوري الجديد الذي كان يقود في تلك الفترة حركة التحرر الوطني (3) وساهمت الطبقة العاملة إلى جانب المفقرين والعاطلين في تجذير العمل الوطني بالجهة حتى آنّ الحزب الدستوري الجديد كان لا يرسل للجهة الاّ ممثلي جناحه الراديكالي مثل سليمان بن سليمان. وشهدت الثلاثينيات احياء جامعة عموم العملة وبرزت قيادة نقابية جديدة على رأسها بلقاسم القناوي، ولم تتمكّن الجامعة الثانية من هيكلة عمّال الفلاحة بالجهة. ومنذ تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل في 20 جانفي 1946 انخرط عمّال الفلاحة وسائر عمّال الجهة بكثافة في الاتحاد الذي حرص على هيكلة عمال مختلف الضيعات الفلاحية، وهو ما برز خلال اضرابات 1949 التي تعتبر واحدة من المحطّات الدالة على الانطلاقة الفعلية لانخراط الاتحاد في معركة التحرّر الوطني. ولاضراب عمّال الفلاحة بسوق الخميس الذي انطلق يوم 10 نوفمبر 1949 أبعاد نقابية وأخرى وطنية، تعطيه أهميته الاستنائية إلى جانب كونه يعدّ من أطول الاضرابات العمّالية قطريا وعالميا. تتمثّل الابعاد المطلبية في كون عمّال الفلاحة بسوق الخميس كسائر الطبقات الشعبية، تعاني بعد الحرب العالمية الثانية من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية حيث انتشرت البطالة وشهدت أسعار المواد الأساسية ارتفاعا كبيرا، وتدنت الطاقة الشرائية بنسبة 35٪ سنة 1948 (4) وقد شخصت لوائح المؤتمر الثالث للاتحاد العام التونسي للشغل المنعقد في أفريل 1949 هذه الوضعية وتضمنت عديد المطالب المادية تطبيقا لقاعدة ربط الأجور بمؤشر الأسعار. وقد دعم الاتحاد اضرابات عمّال الفلاحة في عديد المناسبات مثل سيدي ثابت، النفيضة، برج السدرية وسوق الخميس. انطلق اضراب عمّال الفلاحة بسوق الخميس بضيعة »المرجى« وهي أهم الضيعات بالجهة وقد كانت ادارة الفلاحة اقتنتها منذ سنة 1903 من ورثة خيرالدين باشا ثم قسمتها وباعتها بأسعار رمزية لمعمرين فرنسيين (5) وكانت مطالب عمّال الفلاحة تتمثّل في: تحديد ساعات العمل. الزيادة في الأجور. المنح العائلية. العطل السنوية الخالصة الأجر. وقد شمل الاضراب كل الضيعات الفلاحية التابعة للمعمرين الفرنسيين في حين استثنى الاضراب ضيعات بعض الأعيان المحليين. وقد وجد الاضراب مساندة من قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل حيث زار فرحات حشاد سوق الخميس في 16 نوفمبر 1949 واجتمع بالعمّال المضربين وحثّهم على الصمود، ومن ناحية ثانية راسل الاتحاد الدوائر المسؤولة وخاصة الاقامة العامة طالبا منع تدخل قوات الأمن مع ضرورة الزام المعمرين بالإذعان الى التفاوض مع ممثلي العمّال. كما بعث فرحات حشاد رسالة ثانية في الغرض إلى الكاتب العام للحكومة التونسية وهي رسالة احتجاجية على ممارسات السلط المحلية بسوق الاربعاء المتمثلة في منع المسؤولين النقابيين من دخول مدينة سوق الاربعاء للالتحاق بجلسة مصالحة تحت اشراف ممثلي التفقدية العامة للشغل. وقدّم عمّال الفلاحة بسوق الخميس تضحيات جسيمة حيث حُوكم عديد العناصر النقابية وسجنت بتهمة المس من حرية العمل، واعتقل عشرات العمّال الذين تعرّضوا للتعذيب حتى الموت (5) ولم تكن المكاسب المحققة في مستوى التضحيات حيث سيحصل العمّال على زيادة ب 20 فرنكا يوميا وسيدعو الاتحاد إلى ايقاف الاضراب في مارس 1950 وكإجراء انتقامي قام المعمرون بطرد 562 عاملا وهو ما يمثّل أكثر من ثلث العاملين في ضيعات المعمرين الفرنسيين. ولإضراب سنة 1949 بسوق الخميس ابعاد وطنية حقيقية، فقد تبنّى الاتحاد العام التونسي للشغل هذا الاضراب في ظرف برز فيه تحوّل مهم في توجهات المنظمة نحو الانخراط بصفة متزايدة في النضال الوطني ومنحه الأولوية على النضال المطلبي (6) ولهذا وصف حشاد في جريدة الحرية الصادرة بتاريخ 20 نوفمبر 1949 اضراب سوق الخميس بأنّه »ضربة في صميم الاستعمار« وفي نفس هذا العدد دعي حشاد للاتحادات الجهوية بالكاف وتونس وصفاقس وسوسة وغيرها لدعم وتعزيز ما أسماه »كفاح اخواننا في جهة باجة وسوق الخميس حتى يتبيّن للخصم ان لكل شيء نهاية« (7). واضربت عديد الجهات مثل عمّال المناجم بالكاف وعمّال الفلاحة بالنفيضة.. وكانت هذه الاضراب موجهة أساسا للهيمنة الاستعمارية واندرجت ضمن الدور المتقدم للطبقة العاملة في عملية تحرير البلاد من الاستعمار الامبريالي تجسيما لتوجهات الاتحاد العام التونسي للشغل. ❊ توفيق الذهبي: عضو النقابة الجهوية للتعليم الثانوي بجندوبة 1 - Poncet (j), la colonisation et 1, agriculture européenne en Tunisie depuis 1881. Paris 1961 2 عبد الحميد الهلالي، »قضية منيافال (1922)« روافد 2002. 3 الهادي التيمومي = انتفاضات الفلاحين 4 - Kraim (m); la classe ouvrière tunisienne et la lutte de libration nationale. 5 رضا العشي = محطّات نيّرة من التاريخ جندوبة في العهد الاستعماري. 6 المحجوبي (علي) الحركة النقابية التونسية الشغلية بين النضال الاجتماعي والنضال الوطني: الكراسات التونسية 163/162