كثيرا ما أخذتني الخطى إلى نهج «مرسيليا» وسط العاصمة «تونس» من أجل غايات متعددة: لأن به مرآب السيارة وبه مطاعم متعددة والكثير من المرافق الحياتية... وفي نهج مرسيليا هذا، توجد مدرسة ابتدائية ومعهد ثانوي لذلك كان كثيرا ما يغصّ بطوابير الاطفال بسحناتهم الوردية ومناديلهم المدرسيّة وضجيجهم الجميل كما كان يغصّ أيضا بفتيات حالمات وفتيان يافعين، يتجاوبن في حلقات شبابية صاخبة قد تقطع الطريق امام السيارات وتعيق حركة المترجلين.. ولكنها حلقات توحي بالأمان، والدهشة لهذه الألفة بين الذكور والإناث، بين الشباب والصبايا، بين النساء والرجال في بلدنا الرائع، وكما مازالت الدهشة تسكنني الى اليوم فأرقب كل غروب سمفونيات العصافير فوق شارع الحبيب بورقيبة مازالت أسراب هذا الشباب المتحفز تشد انتباهي فأرقبها من بعيد كلما إعترضتني من أجل معاينة طبيعة شبابنا المدرسي، وبالقدر الذي تكشفت لي اشياء جميلة تفتحت بداخلي ايضا كوّة من الرعب والخوف الشديدين نتيجة ما لاحظته من حجم العنف اللّفظي والمادّي لدى هذه العيّنات من الأطفال والمراهقين.. كلّما إلتقطت حديثا من إحدى المجموعات المحتلة لنهج مرسيليا من المراهقين تكشفت على هوّة سحيقة من التردي اللفظي الذي يتكرر على أفواه التلاميذ، إناثا وذكورا فلا خجل من إستعمال مصطلحات وتشبيهات مقذعة في أوساط الشباب ولا تورّع من استعمالها في الحديث مع الفتيات، ولا تهيّب من التفوه بها بصوت عال يسمعه كل المارة ومن كل الفئات.. كلمات تخلخل طبلة الأذن وفذلكات مشحونة بطاقة ضخمة من البذاءة والسوقية، فإن غابت البذاءة المباشرة يحظر مكانها العنف اللفظي الشديد الذي يشي بحجم سطوة العنف على الجيل الصاعد... خلال الأسبوع الفارط كٌنت بصدد إنتظار دوري لدخول أحد المطاعم في نهج مرسيليا عند الساعة الثانية ظهرا فإذا بي أشاهد جحافل من التلاميذ الذكور تنتقل مجتمعة وتتوقف احيانا ليعلو صراخها حتّى اقتربت من مكاني فتبين أن هناك عراك جسدي بين مراهقين ولكل منهما فريق من المشجعين الذين يصبّون الزيت على النار من نوع «إضربه ونحن معك» «لا تخف فهو ليس أرجل منك» «إجعل من رأسه كورة في ملعبك» (هات خلّي نكورولو براسو)... هذا فضلا عن أكياس من الألفاظ النابية الأخرى.. امّا العراك الجسدي فقد جعل الصبيان يخلعان ملابسهما ويجرّدان أحزمتهما ويضربان بها بعضهما البعض مما جعل الدم يسيل من فم أحدهما، والغريب أن بقية الصبية كانوا يتحلّقون حولهما كما يتحلق المشجعون حول جلسة لصراع الديكة وذلك ليمنعوا كل محاولات التدخل من قبل المارة لفك الاشتباك الجسدي (وهي على كل حال محاولات قليلة فقد صار التونسي يتعامل بسلبية واضحة تجاه كل ما يعرض له من حوادث في الشارع فيستنكفُ او يخاف ان يدخل في أي شيء... فقد لاحظت مرّة أن إمرأة تتعرض الى التعنيف الشديد في ساحة برشلونة وتطلب النجدة من الواقفين في المحطة ولم ينجدها أحد... فما سببُ هذه القسوة يا تُرى التي باتت واضحة في سلوك شبابنا هل هي مشاهد الدم والموت التي تغزو شاشاتنا حتى جعلتنا نتآلف مع المشاهد المرعبة؟ هل هي القيم النبيلة التي بدأت تنهار أمام القيم الوافدة؟ هل أن الأسُرُ لم تعد تقوم بدورها التوجيهي الصحيح مع أبناءها؟ أم هي المدرسة التي لم تعد تُعير الاهتمام الكافي للجانب التربوي أمام التعليمي البحت... أسئلة موجعة تنتابني كل يوم لأني أشاهد كل يوم أيضا مثل الذي ذكرت عن مشاهد العنف وتعبيراته لدى مراهقينا، وما الشارع الذي ذكرته الاّ نموذجا لشوارع كثيرة تعتبر مواقع للعنف اللفظي والمادي.