منذ بدايتها، في منتصف الستينيات، توسّلت الحركة الوطنية أسلوب الكفاح المسلح، أو حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد، سبيلاً لتحرير فلسطين. لكن حركة فتح التي بادرت إلى هذا الأسلوب، كانت تتوخّى منه، أولا، إبراز البعد الفلسطيني، واستعادة القضية من وصاية الأنظمة. وثانيا، تحريك الجبهات العربية، وفق فكرة «التوريط» الواعي، التي تفترض استدراج ردّة فعل إسرائيلية ضد الدول العربية، التي تقوم بدورها بالرد على الجيش الإسرائيلي. والحقيقة فإن قيادة «فتح» لم تكن تعوّل على الكفاح المسلح، بحد ذاته، لتحقيق غاية التحرير، فهي كانت تعتقد أن الشعب الفلسطيني هو طليعة معركة التحرير، وأن الجيوش العربية، فيما بعد هي التي ستحسم أمر المعركة. لكن التجربة أكدت أن مراهنات فتح هذه كانت خاسرة وواهمة، وأنها تنطلق من منطلقات إرادوية وذاتية، لا تنبني على تحليل موضوعي وناضج للواقع العربي، وموازين القوى، والمعطيات العربية والدولية. فالنظم القائمة لم تكن تعد للتحرير، وعمليات فتح لم تحرك الجيوش العربية، لردع إسرائيل، وهذه الجيوش لم تكن على درجة مناسبة من الجهوزية، على مختلف المستويات لمواجهة جيشها. ودليل ذلك أن إسرائيل شنّت حربا (1967) احتلت فيها أراض واسعة من مصر (شبه جزيرة سيناء) وسورية (مرتفعات الجولان) والأردن (الضفة الغربية)، في أيام معدودات. بالمحصلة فإن فتح وبدلا من أن تورّط الأنظمة العربية، مع إسرائيل، تورّطت هي، والفصائل، بصراع مع النظام الأردني (1970)، أدى إلى خروج المنظمات من بلد يمتلك أطول حدود مع إسرائيل، وأكثر عددا من اللاجئين الفلسطينيين. أيضا، لم تنجح سياسة «التوريط الواعي» في لبنان، حيث أن طبيعة الدولة والجيش فيه لا تسمحان بذلك، ما أدى إلى تصريف معظم طاقة فتح والفصائل الفلسطينية في صراعات جانبية مضرة، خارج الصراع مع العدو الإسرائيلي، منها: 1) التحول إلى نوع من القوة النظامية في مواجهة إسرائيل، حيث حولت قوات الفدائيين إلى نوع من جيش، من حيث الهيكلية والعتاد. 2) التحول إلى سلطة في المخيمات وبعض المناطق اللبنانية، مع مايترتب على ذلك من ميليشيات وأجهزة أمنية وخدمية واحتكاك سلبي بالمواطنين. 3) التورط بتوتير الأوضاع في لبنان، وتاليا في الحرب الأهلية فيه. 4) التورط باحتكاكات مع النفوذ السوري في لبنان. 5) تكبيد الفلسطينيين واللبنانيين خسائر فادحة، بشرية ومادية، نتيجة الحروب التي شنتها إسرائيل على لبنان منذ السبعينيات وحتى حصار بيروت (1982). المعنى أن الدول العربية كانت في واد، وقيادة فتح في واد آخر، ما يفيد بخطأ اعتماد أي فصيل أو قوة على رصيد طرف أخر، خاصة إذا كان ثمة اختلاف في طبيعة هذا الطرف وحساباته، كما يفيد ذلك بخطأ تحويل حركة التحرر الوطني إلى سلطة، وخطأ انتقال هذه الحركة من معادلة المقاومة الشعبية (وضمنها المسلحة) إلى معادلة الحرب النظامية (جيش مقابل جيش او صواريخ مقابل صواريخ). الآن إذا أخذنا تجربة المواجهات الفلسطينية الإسرائيلية، الدائرة منذ أواخر العام 2000، مثلا، فسنجد أن ليس لها علاقة البتة بمعادلات حرب الشعب طويلة الأمد، التي تبتغي استنزاف العدو وإنهاكه ورفع كلفة احتلاله، ولا بالانتفاضة الشعبية، التي اندلعت في أعوام 19871993، والتي استطاعت تقديم النموذج الأنسب لكفاح الشعب الفلسطيني، مثلما استطاعت إثارة التناقضات الإسرائيلية، وفضح إسرائيل على حقيقتها كدولة استعمارية عنصرية غاشمة، وفرض وجود الشعب الفلسطيني في الأجندة الإسرائيلية والدولية؛ وحينها حيدت انتفاضة الحجارة القوة العاتية للجيش الإسرائيلي إلى حد كبير، وقللت خسائر الفلسطينيين البشرية. معلوم أن طابع المقاومة المسلحة، وفق نمط العمليات التفجيرية، في المدن الإسرائيلية، وعمليات القصف الصاروخي من قطاع غزة إلى البلدات الإسرائيلية المحاذية للقطاع، طغى على تلك المواجهات، ما أسهم بحشد المجتمع الإسرائيلي خلف قيادته (بدل أن يعمق تناقضاته)، وشوّش على الرأي العام الدولي، وعلى موقف الدول المؤيدة لحقوق الفلسطينيين، المتعلقة بإقامة دولتهم بأرضهم المحتلة، وقدم الفرصة لإسرائيل للامعان بالبطش بالفلسطينيين والاستفراد بهم، واستنزافهم؛ الأمر الذي كانت نتيجته أن الشعب الفلسطيني دفع ثمنا باهظا، في الخسائر البشرية والمادية والسياسية؛ وهاهو في أيام معدودات، وبنتيجة الوحشية والعنصرية الإسرائيلية، خسر أكثر من ستمئة شهيد وأكثر من ألفي جريح، هذا أولاً. ثانياً، إن هذه العمليات (التفجيرية والصاروخية) كانت عشوائية في أهدافها، وتوقيتاتها، وزخمها، وبدت وكأنها غاية في حد ذاتها، غير خاضعة لمقياس أو لعقلية قيادية. والحاصل فإن هذه العمليات، كانت خارج الأعراف المتبعة في حروب التحرر الوطني ضد الاستعمار، أو حرب الشعب طويلة الأمد، أو حرب الضعيف ضد القوى، حيث يقتصد الطرف الضعيف بقواه، ولا يبدد طاقته، كونه لا يخوض حربا بالضربة القاضية، لأن هكذا حرب ستكون الكلمة الأخيرة فيها لمن يمتلك القوة العسكرية الأكبر والأقوى والأحدث. ولذلك فإن خبرات حروب حركات التحرر الوطني تفيد بضرورة تحاشي تعريض قواها لضربات قاسية، وتجنب عدوها حين يكون مستنفرا ومستفزا، إدراكا منها أنها تخوض حربا سياسية، طويلة الأمد، ينبغي كسبها بالنقاط وليس بالضربة القاضية، وبالغلبة بالوسائل والمعطيات السياسية وليس بالوسائل العسكرية فقط. هكذا فإن الوتيرة العالية من عمليات المقاومة عام 2002، التي أدت إلى مقتل أكثر من أربعمئة إسرائيلي، جلبت مصرع وجرح واعتقال عشرات الألوف من الفلسطينيين، وتقويض الكيان الفلسطيني، ومعاودة احتلال الضفة الغربية، وبناء الجدار الفاصل، وتحويل قطاع غزة إلى سجن كبير، ثم تراجعت عمليات المقاومة بدرجة كبيرة جدا، إذ شهد العام 2007 مصرع 11 إسرائيليا فقط، وعام 2006 مصرع 24 إسرائيليا، و2005 مصرع 50 إسرائيليا. ثالثا، بعد انسحاب إسرائيل من غزة، وتفكيك مستوطناتها، وبدلا من أن يتحول هذا المكسب لإنجاز وطني يمكن البناء عليه، إذا به يتحول إلى عبء على المشروع الفلسطيني، بسبب المبالغة بالقدرات، وعدم إطلاق نقاش سياسي عقلاني بشأن مكانة القطاع في العملية الوطنية، وبسبب الانقسام. فثمة من اعتبر أن القطاع، وهو بمثابة سجن لمليون ونصف مليون فلسطيني يمكن أن يتحول إلى قاعدة لتحرير فلسطين، أو لدحر الاحتلال من الضفة. ونسي هؤلاء بأن القطاع بسكانه يعتمد على إسرائيل بموارده الحيوية (الكهرباء والطاقة والماء والمواد التموينية والصيدلانية)، التي تتحكم بمعابره، وبالسيطرة على مياهه وأجوائه. المغزى أن الزمن الراهن ليس زمن التحرير في الأجندة العربية والدولية، لذا فثمة مغامرة في تحميل القطاع عبء هذه المهمة، وتحمّل تبعاتها. فقد أكدت التجربة أن الفلسطينيين يتعاملون مع عدو، بجبروته، والدعم الذي يلقاه يفتقد لأي كوابح قانونية أو أخلاقية، كما لأي رادع في المعطيات الدولية والإقليمية. وليس ثمة مايراهن عليه للتورّط بهذا الوضع، لا الحال الرسمي العربي، ولا الشعبي المقيّد. طبعا لا يتعلق النقاش هنا بشرعية المقاومة، وضمنها المسلحة، ضد الاحتلال، بل بكيفية إدارة المقاومة، وأن الشعب، والمقاومة الشعبية، هو الأساس في مقاومة المستعمر. كما لا يتناول النقاش مسألة الغلبة في القوى، فلطالما كانت الشعوب المستعمرة أضعف بإمكانياتها العسكرية من المستعمر. ولكن النقاش هنا يدور عن ضرورة إخضاع كافة أشكال المقاومة، وضمنها المسلحة، لاستراتيجية سياسية واضحة وممكنة، واختيار أشكال النضال الملائمة لكل مرحلة. مع تأكيد أن نجاعة أي شكل نضالي تتحدد بضمان ديمومته، وتحمل تبعاته، وتأمين مقومات الحياة الطبيعية للشعب، كما بشلّ قدرة الطرف الأخر على استخدام أقصى قوته. المؤسف أن هذه التجارب والتحولات، على أهميتها وتداعياتها الخطيرة، لم تنتج وعيا نقديا لها، ولم يجر تفحّص جدواها أو تأثيراتها، كما لم تنتج نظرية استراتيجية عسكرية خاصة بالمقاومة الفلسطينية، بسبب غياب المساءلة، وضعف الاهتمام بهكذا حقول، والحطّ من أهمية العمل التنظيري (أو الفكري)، لصالح الروح العملية، والنزعة الشعاراتية، وأيضا بسبب المشاعر الشعبوية، التي تنظر إلى التضحية والشهادة باعتبارهما قيمة عليا، بغض النظر عن الإنجازات المتحققة