الفوضى الخلاقة، اختصار للسياسة الأمريكية التي تقودها ادارة بوش لإعادة صياغة المنطقة العربية والاسلامية حتى تضمن تفوّقا نهائيا لإسرائيل وقيادة لمحيطها وتفتيتا لكل القوى المعارضة أو المهددة للمصالح الأمريكية. وهي فوضى تهيأ الفرص لتقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ وتفجير أي وحدة قائمة في المنطقة لتصبح شظايا يشقها العداء المستحكم والخوف المتبادل الذي يُثبت احتياج الجميع الى ضمانة خارجية للحماية والأمن. وتباشر هذه السياسة فعلها في العراق رغم المقاومة الشديدة التي يواجهها الاحتلال الذي بلغ قتلاه في أكتوبر عددا استثنائيا لكنهم جرّوا معهم عددا استثنائيا من القتلى العراقيين () المدنيين في حرب طائفية يوسّع من مداها التوتر السياسي الداخلي بين القوى العراقية ممّا يفتح الباب أمام جميع الإحتمالات التي يتفنّن الاحتلال في مسايرة بعضها وتوظيف البعض الآخر. ومن العراق الى لبنان الذي شهد الإنتكاسة الأكبر للسياسة الأمريكية. كان الصيف خانقا ووجدت ادارة بوش نفسها تستجدي اسرائيل للإستمرار في الحرب حتى تصفية المقاومة اللبنانية. الفشل الأمريكي في العراق ولبنان لا يمكن ان يدفع الى الإنسحاب بل الى مزيد مدّ التخريب ومزيد صنع الفوضى لتحرم المقاومة من ثمار تضحياتها في البلدين. إنّ الإنقسام السياسي اللبناني واضح المعالم لدى جميع المتابعين: فريق الأكثرية الذي يحظى بالدعم الدولي والأمريكي خاصة. فريق المعارضة الذي يحظى بدعم اقليمي سوري وايراني. تصرّ الولاياتالمتحدة دوما على التحذير من محاولات سورية وايرانية لزعزعة الاستقرار اللبناني متغافلة عن حرب الصيف القريبة التي دمّرت البلد وعصفت بجهود دامت عقدا كاملا. وتثير الخوف لدى جميع حلفاءها من امكانية تعزيز مكاسب المقاومة من خلال توسيع الحكومة. قُرئت المطالبة بحكومة الوحدة الوطنية التي تلغي استئثار فريق فيفري بالسلطة، على أنّها عمل لتحقيق انتصار سياسي بعد الانتصار العسكري لتصبح المقاومة ماسكة برئاسة البرلمان ورئاسة الجمهورية والثلث المعطّل في الحكومة. ورغم التأكيد المتواصل من تحالف المقاومة على أنّ الهدف هو المشاركة فقد صُدّت الأبواب وامتدّ الخوف بدل الثقة وضاق الخيال رغم اتساع المكان. فبدأ العد التنازلي والإعداد العملي للدخول في احتجاجات سلمية تضغط على الحكومة لتجبرها على حلّ ذاتها بعد استقالة ستة من وزرائها. عند الأمتار الأخيرة تفاجئ المعارضة بإغتيال رمز من الأكثرية الحاكمة، الوزير بيار أمين الجميل، النائب الشاب والناشط البارز في قوى فيفري. بدت المرارة شديدة لدى المعارضة. وبدا الاستثمار شديدا لدى الأكثرية الحاكمة رغم الدعوة الملحّة من أمين الجميل والد الشهيد لتجنب ذلك والانشغال بالدعاء له. لبنان مسرح اغتيالات كثيرة جدّا طالت الرؤساء (بشير الجميل: عم بيار الجميل روني معوّض) والنواب والزعماء.. ولكن خطورة الاغتيال الأخير تكمن في ما أحاط به من غيوم تخفي أشباحا ووجوها متنكرة تحت ملايين الأقنعة التي بعثت بأدواتها دون أقنعة هذه المرّة لتوجيه كواتم الصوت نحو الوزير المسيحي لترتفع الأصوات إدانة للزعيم المسيحي المعارض والقريب من المقاومة العماد عون. المفارقات تجتاح الزمن اللبناني. الشهيد من فريق الأكثرية الحاكمة. والآلام تعصف بفريق المد عارضة الذي وجد نفسه مستهدفا من العملية. إنّه المتهم سياسيا وهو الذي تعطّل مشروعه الإحتجاجي السلمي!! الغاية تبرّر الوسيلة، ليست المرّة الأولى التي يُتاجر فيها بالدماء ويحمل فيها قميص عثمان لمحاصرة القوى الوطنية واذا كان الشك يلفّ جريمة اغتيال الحريري فإنّ صنّاع الجريمة الأخيرة تبدو أهدافهم وبرامجهم واضحة. فهي الأداة الوحيدة القادرة على تعطيل حركة المعارضة التي يمثل حزب اللّه قطبها وتحويل الوجهة من الإحتجاج ضد الحكومة الى الإحتجاج ضدّ الإغتيال والدعوة الى الإلتفاف حول الحكومة وخلق أجواء مناسبة جدّا لجعل أي خروج الى الشارع مهدّدا بالإنزلاق الى فتنة قاتلة. إنّ اللغة التي تحدّث بها أقطاب المعارضة تفصح عن المرارة الشديدة بينما لغة الأكثرية تذهب الى الهجوم والاستثمار والعمل لتحقيق المكاسب. وكأنّ عون ونصر اللّّه هما من أطلقا الرصاصات العشرين على الجميل.. وذهب جعجع الى حدّ ابتزاز المعارضة من خلال دعوتها إلى التراجع عن استقالة الوزراء الخمس والمسارعة الى الموافقة على اتفاقية المحكمة الدولية داخل البرلمان ورئاسة الجمهورية لتصبح نافذة. مأزق جديد يدخله لبنان.. فالألم يعتصر الجميع والغضب يشتد بهم... هل يمكن للعقلاء ان ينتصروا في اللحظة التي يفتح الباب واسعا أمام أنصار الغضب والكراهية والطائفية وحفاروا الماضي المليء بذكريات الحرب الأهلية؟! هل يمكن للعقلاء أن يعمّموا رؤيتهم التي ترى وراء الاغتيال استهدافا للبنان بحكومتها ومعارضتها؟ يشهد الإنقسام تحوّلا جذريا يحتاج الى من يراه ويحسن قراءته كما دعا الى ذلك العماد عون. اللبنانيون جميعا ضد صنّاع الاغتيالات التي لا يمكن الاستمرار بتحميل سوريا مسؤوليتها، دون أي دليل، وهي المتضرّر الأكبر منها، وهو اتهام يغذي الحقد داخليا ضدّ حلفاء سوريا ودعاة المصالحة معها بعد خروجها من لبنان لتمتدّ الكراهية الى عون أشدّ المعارضين للوصاية السورية. ان صنّاع الإغتيال الأخير يعملون على صنع فوضى لبنانية لن تفرز منتصرا من الداخل لكنّها تجرّ الجميع الى مستنقع الصراع الأهلي الذي يزيدهم تمزّقا ويحرمهم من استثمار انتصارهم. إنّها العقدة الأمريكية والإسرائيلية من مقاومة كبّدتهم هزائم مريرة طيلة ربع قرن تقريبا منذ عملية التفجير التي استهدفت مقرّ قوات المارينز في منتصف الثمانينات وأدّت الى هروبهم من لبنان، الى هروب الكومندوس الإسرائيلي عند فشله الأخير وعجزه في كل محاولات الإنزال.. يثقل الكون اذا همّ أن يكون، القول الثقيل والمسؤولية الكبيرة التي فرضها الصمود اللبناني ضدّ العدوان الاسرائيلي، هذا ثأرهم البارد الذي يريد ان يكسب من خلال الفتنة ما فشل فيه من خلال الحرب. إذا كانت معركة البندقية سهلة الرؤية، عظيمة التضحية، شديدة التضامن والوحدة، فإنّ معركة الفتنة والعناوين الضبابية الغائمة، خطيرة الرؤية، شاقة الصبر، تضحيتها الكبرى في كظم الغيظ وامتحانها الصعب في سعة الخيال والأفق. قدر المقاومة بين الدمعة والعرس بين الألم والأمل بين العذاب والعذب