وحدها الإعلانات تمنع عني هذه المساحة وتحول دوني والكتابة في هذه الأعمدة التي - رغم وجودها في الآخر- غبطني عليها البعض. فللإعلانات سطوة وسلطان لا يقدر عليهما أحد وخاصة إذا كان مثلي «تكنوقراطا» في جريدة يتشدد عليها أهلوها ويقسون، رغم أنهم في المقابل يجنون من ثمارها الشيء الكثير. لذلك، وحتى تستمر هذه الجريدة، يبقى «لتكنوقراط» مثلي ودون سواهم أن يتنازلوا عن الكثير من حقوقهم مقابل أن يرضى الباقون، حتى ولو كانوا عابرين. مع هذا، فإن هناك حقا عائدا لي مارسته بالوسيلة المخولة لي أدبيا وفنيا، وهو حق خدمة نفسي، وقد فعلت ذلك ولن أتردد مستقبلا في ممارسته حتى ولو اغضب بعضهم. وبعد أن إستوفت الاعلانات حقها و تنازل المعلنون عن هذه المساحة ، ها نحن نعود.
مغادرة زارنا في الأيام القليلة الماضية عدد من الأشقاء العرب للعمل. بعد أداء الواجب، رافقت أحدهم إلى المطار قصد توديعه في طريق عودته إلى بلده . اقتنى الرجل من تونس عديد الهدايا، واجتهدنا نحو ساعة من الزمن لترصيفها في الحقائب وحزمها بالشكل المناسب، والرجل في قمة السعادة بالإقامة الطيبة التي قضاها عندنا وبالشوق الذي هز كيانه وحمله إلى العودة. ما ان وصلنا فضاء التسجيل واندمجنا وسط الجلبة حتى أخذ الرجل بالتراخي والسؤال عن أشياء كانت الإجابات عنها متوفرة لديه، بل إن أغلبها جاهز، ثم في وقت لاحق، طلب آن نشرب قهوة قبل التسجيل، مادام معنا متسع من الوقت، ومن المقهى، استسمح وذهب إلى فضاء التجميل حيث بقى وقتا قدرت أنه طويل بالنسبة لرجل. وهو عائد إليّ، مر على مكتب شركة طيران بلده، حيث دار بينه وبين الموظفة حديث لم أتبينه. أخيرا ولما وصل قربي، وكنت أهم بالوقوف حتى نذهب سويا إلى مكتب التسجيل، تهالك على الكرسي وكأن خطبا حل به. سألته ما الأمر؟ أجاب: والله، يا أبو خلدون، لقد رأيت البارحة حلما مزعجا... فكأنني تعرضت لحادث أو شيء من هذا القبيل. قلت : أضغاث أحلام، تجدك تشوقت كثيرا للعيال و أم العيال، فأخذت تهذي. قال: كيف أهذي، وأنا رأيت ما رأيت في المنام قلت: متى رأيت، متى حلمت، لم تحدثني عن الأمر طول النهار، ما الذي ذكرك بالحلم الآن ؟ أشار بيده إلى لافتة كبيرة كتب عليها «الرحيل» وفيما هو كذلك، دعت مذيعة المطار بعض المسافرين الى الالتحاق بقاعة «الرحيل» رقم كذا فقال هل سمعت ما تقول المذيعة ؟ قلت : ما الغرابة في ذلك؟ قال : رحيل يا أبو خلدون، رحيل قلت : وما المشكلة ؟ قال : ألا تفهم ؟ رحيل يعني موت قلت ( بعد آن ضحكت طويلا ) :صلي على النبي يا رجل وكفاك تطيرا، رحيل يعني مغادرة، سفر، ذهاب.. قال : يا أخي، رحيل يعني موت، ولم أر هذه اللفظة إلا في مطاركم. اكتبوا مغادرة، أكتبوا أي شيء آخر. أما رحيل فلا من فضلكم. قلت : سأكتب عن الموضوع (وها أنني أفعل) وأكيد آن المسؤولين سينظرون في الموضوع، ولو أنني مقتنع آن لا فرق بين الرحيل والمغادرة والذهاب، فالمعنى واحد والاختلاف هو في القصد. وحتى أقطع عليه حديثه في الموضوع، وقفت من مكاني ودفعت أمامي الحقائب باتجاه مكتب التسجيل حيث استقبلنا موظف لبق تبادل المجاملات مع الضيف واستدرجه الى حوار لطيف نسي معه تطيره. ورغم تجاوز الحقائب للوزن القانوني المسموح به، فان الموظف عرف كيف يتجاوز المسألة بما جنب الضيف دفع رسوم أو معاليم إضافية. أتم الموظف عمله وجمع الوثائق في يده، ثم أخذ بتسليمها للضيف واحدة واحدة، فهذا جوازك وهذه أصل تذكرتك، وهذه بطاقة العبور من المطار الثاني الى المطار الثالث، وهذه جذاذات الحقائب. أما هذه، فهي بطاقة قال الضيف : ما هذه ؟ رد الموظف: بطاقة الركوب قي الطائرة وزاد الموظف شرحا للوثيقة فقال: تجلس على الكرسي رقم كذا وكذا، قريبا من الشباك، بعيدا عن جناح الطائرة، لكن يجب ان تمر عبر قاعة الرحيل رقم كذا. نظر إلي الضيف للحظات ثم التفت الى الموظف وطلب أن يقولها له بالفرنسية.
رحيل بما أننا بصدد الرحيل والمغادرة، فقد رحل عنا الى الأبد في مطلع الشهر الحالي، الصديق الأستاذ الطاهر الهمامي، بعد مرض ألم به وفتك به في الأخير. ربطت بيني وبين الطاهر الهمامي علاقات قوية بدأت بالتلاقي الفكري في قضايا كثيرة والاختلاف في قضايا أخرى، كنا نتحدث فيما نتفق عليه ونتفادى الخوض فيما قد نختلف حوله. ثم توطدت العلاقات بالمصاهرة رغم انها من رابط بعيد وترسخت من خلال المعاملات التجارية حيث عهد لي بطبع البعض من كتبه، منها «رجل في رأسه عقل» وأخيرا من خلال ماكان يكتبه في جريدة الشعب، لا سيما عن رحلاته الى سوريا واسبانيا . في احدى المرات، حضر الى مكتبي ومعه مقال شيق عن إقامة قصيرة له في مدريد، تغنى فيه بجمال المدينة وتأثير الطابع العربي والاسلامي في معمارها ولغة القوم هناك وبعض من طبائعهم . وقبل ان اشرع في قراءة مقاله، مددت له مقالا كنت كتبته قبل دقائق من قدومه عن مدريد التي زرتها أنا أيضا في نفس الفترة تقريبا، رغبة مني في المراجعة وبعض الإضافات. لما فرغ سي الطاهر من قراءة مقالي، قال كأنك كنت معي، ولو وضعنا اسمي على مقالك والعكس، لما انتبه أحد الى الفرق طالما أن المشاعر واحدة وزاوية النظر واحدة. كتب الطاهر الهمامي (ونشر كثيرا في الشعب) عن رحلاته الى سوريا وتحديدا الى حلب الشهباء وقلاعها المحصنة ودمشق الفيحاء ودورها القديمة وخاصة منها «دار جبري» التي افتتن بها الطاهر وافتتن أصحابها بما كتبه الطاهر عن دارهم فعلّقوا مقالاته في بهوها، وهذه دار دمشقية قديمة تحولت الى فضاء يلتقي فيه الناس، فيأكلون ويشربون لا محالة ولكنهم يهيمون حبا بالمكان حاضرا ويستعيدون ماضيا غابرا، شاهدا على العلم والنور والكرامة والعزة والأنفة . لم يكن يطيل الإقامة في الخارج رغم الإمكانيات المتوفرة له لفعل ذلك، سواء لدي مضيفيه من الجهات العلمية والفكرية التي تقدر شعره وأدبه او لدى بنتيه المتألقتين والمقيمتين في الخارج حيث تشغلان وظائف سامية ومرموقة، بل كان يعجل بالعودة ما ان يصل. حدثني عن إقامته الأخيرة في أحد البلدان العربية وعن الوحشة التي شعر بها وسط العمارات الشاهقة والمباني البلورية، وعن الشوق الجارف الذي هزّه ذات يوم وهو في عاصمة ذلك البلد إلى «صحين تونسي» أو «صحين كفتاجي» أو «فم كسكسي بالعلوش» أو «مرقة خضرة» أو «صحيفة لبلابي» فيما كان يهم بالدخول الى مطعم من فئة 7 نجوم دعاه الى العشاء فيه ضيوفه. من الغد، سارع بالعودة الى تونس، بعد أن تسممت معدته من جراء ما أكله في ذلك المطعم الراقي جدا... إنما المرء حديث من بعده. خلطة اتصالات تونس، أكبر المؤسسات الجامعة للأموال والموزعة للإعلانات والاشهارات، تواصل الامتناع عن تمكين العاملين تحت رايتها من زيادات محترمة في الأجور تغطي حاجياتهم وتجازي مجهوداتهم الكبيرة في تحصيل المكاسب للمؤسسة والرفع من شأنها وتمكينها من وسائل الإغراء الكافية لجلب المستثمرين وغيرهم من الراغبين في الشراء والإثراء والثراء . وما كنت شخصيا لأعرض لهذه المسألة طالما ان الإخوة النقابيين يشتغلون على الموضوع بحماس كبير وحرص شديد على حماية مصالح كل الأطراف، لولا أن المؤسسة تحقق من الارباح مالا عد له ولا حصر وتتوفر لها من المداخيل ما فاض منها الى كثير من المنتفعين. يستثنى من هؤلاء، العاملون في المؤسسة الذين تتعطل المفاوضات الخاصة بالزيادة في أجورهم رغم مضي نصف المدة الزمنية المعنية بالزيادة، كما تستثنى الجريدة الناطقة باسمهم - جريدة الشعب من حقها او قل من نعيبها من الإعلانات والاشهارات التي تغدقها بمئات الملايين، مؤسستنا العمومية التي نحبها جميعا ونقبل على خدماتها بشراهة : اتصالات تونس . على ذكر الإعلانات، هناك خلطات عجيبة لافتة للانتباه، منها واحدة وردت في «على خاطرك، نقدموا» والسؤال من أين جئتم بالألف الذي وضعتموه بعد الواو. ولئن كان استعمال الواو مقبولا للتأكيد على أن الأمر يهم جمع المتكلم، فان إضافة الألف يصبح من باب الخلط العجيب الغريب وغير المستقيم بين الفصحى والعامية وبين الاستثناء والقاعدة ولكن أيضا بين ضميرين في نفس الوقت، وفي نفس الكلمة، ضمير المتكلم عندما نضع حرف «النون» وضمير الغائب «هم» عندما نضيف الألف، فنخالف القاعدة عندما نضيف الواو ونوهم أنفسنا بالعودة إليها عندما نضيف ألف ضمير الغائب في الآخر. سهل وبسيط ان نكتب «على خاطرك، نقدم» وحتى إذا دعت الضرورة فنكتب «نقدمو» دون ألف أحد المحررين سألني ذات مرة: لماذا تضيف واو الى لفظة ديمقراطية كلما رسمتها بدونها ؟