وأخيرا صدرت الأقاصيص التي أحدثت في الساحة الأدبية فعل حصاة في بركة ماء كثيرون هم الذين افتتنوا بأقصوصة «خالتي زعرة» للقاص رضا البركاتي والتي صدرت على أعمدة جريدة الشعب في الملحق الثقافي لعدد 15 أكتوبر 2006 فأصبحت عبارة «خالتي زعرة»، منذ ذلك التاريخ، متداولة في الأوساط الثقافية عموما والأدبية بصفة خاصة: يفخر هذا بكونه من أبناء «خالتي زعرة» وتعلن تلك أنّها من بناتها ويتهم ذاك بكونه «يهسلي» كما «تهسلي» كلبتها... وكان المتابعون ينتظرون صدور المجموعة القصصية تحت هذا العنوان بعد أن تمّ الإعلان عن فوزها بالجائزة الأولى في الدورة الأخيرة لمسابقة نادي القصّة في نوفمبر 2008 وصدرت المجموعة تحت عنوان: «غربال الضوء» وهو عنوان إحدى الأقاصيص السبع التي تشكل هذه المجموعة. يبدو أنّ هذه الأقاصيص قد طبخت على نار هادئة ف»نوّار القمح» نشرت في ربيع 1988 بمجلة «الإتحاف»، وصاحب المجموعة «قاصّ قادم على مهل» على حدّ تعبير القاص والناقد الدكتور جلول عزونة الذي قدّم للمجموعة بنصّ لا يخفي فيه إعجابه بهذا العمل الإبداعي. وبين «خالي زعرة» التي تفتتح المجموعة وتتصدرها و»نوّار القمح» التي تختتمها و»غربال الضوء» التي وسمت المجموعة باسمها ثمّة أربع أقصوصات هي: «سرّ دار إبراهيم» و»الحاج» و»الراعي والوزير» و»حلم ليلة باريزية» وهي التي شدّت الأستاذ فتحي أورير. هو حلم اللقاء مع الغرب والمصالحة مع العصر ما يزال هاجس المثقف العربي الباحث عن صورته في عيون الآخر. ما يزال يرى رحلة الشمال ضرورية ويعيشها كأسلافه بكل آمالها وخيباتها، والمغامرة الفكرية العاطفية التي يخوضها مثلهم من أجل الحصول على الاعتراف لا يجني منها سوى الإحباط. لكن السارد يبدو كمن تجاوز الطرح التقليدي لأدبيات هذه الإشكالية ليقدم الإضافة التي يريدها..تونسية الملامح بلا عقد أو مركبات. هي كالعادة الأولى وصاحبة الدار.. والقرار. هو الضيف اللاحق. لكنه تونسي تقدمي، وخير من يقدّر المرأة حقّ قدرها. تبنّى أفضل ما في الحضارة العربية الإسلامية دون تعصب وأنبل ما في الحضارة الأوروبية دون انبهار. صراعه مع الآخر هادئ لا حدّة فيه ولا حقد ولا عنف لأنه رأى فيه الجوانب الإنسانية الجديرة بالتقدير والإعجاب وسيحمل الآخر بدوره على مثل ذلك الموقف الإنساني المتطور. تونسي هو ينتمي إلى جدّه أحمد ابن أبي الضياف. رصانته وحكمته لا سلفيته. مثقف ملتزم يحلم بلقاء النخب الطلائعية هنا وهناك. حلم جميل رفرف ذات يوم في عالمنا. وما زال. لكن التركة ثقيلة رغم أريحية النص وتظاهره بتجاوز عقد الماضي وتناقضاته، وشبح مصطفى سعيد ما زال يثير الخوف. والنص إذ ينفيه في ظاهر الكلام فهو بالتقديم والتأخير والحذف يزيده حضورا كمن يرمي حجرا في بركة آسنة. أو ليست أشباح من مصطفى سعيد ما تزال تجوس في عالمنا؟ حتى اللغة «تخون» بتلاعبها وتأرجحها «العفوي» بين الحقيقة والمجاز. استراحة المحارب تحت أمرك الصيادة والمخالب. تعد الأقصوصة بتجاوز العقد ولكن من منا بلا عقد؟ ورجل مسرح بطل الأقصوصة فهل نفرح أم نحزن؟ أهو الوعي القادم أم جولة جديدة من الانفصام والتهريج والكذب (1) يذكرنا السارد بما تسعف به القريحة وتداعيات النص : خمرة أبي نواس وعطر الغزل وفنّ النهضة وموسم الهجرة ومسرح الطليعة وزعماء الإصلاح ونذكر بدورنا عطيلا وهاملت ... مسكين مثقف «ذاك» الجيل يحمل على كتفيه هموم العالم ويسعى نحو الكمال- وجوهه عديدة ونصه نصوص وروحه شتات. إنه الكاتب والشخصية في آن.(2) يقول: «أتيت بلا عقد.» فلماذا أتى إذن؟ ويقول إنه مستعد للإجابة على كل الأسئلة. فهل يفي بوعده؟ أتكون القصة رثاء لعهد قريب مضى وترك في الروح جرحا غائرا لا يندمل؟ هادئة في ظاهرها مضطربة في الباطن. حنَت لحظات إلى نظرية العود الأسطورية(3) و حلُمت «بالركوب» وانفتاح ليلة القدر لكنها لم تنغلق في سجن هذه النظرة التبسيطية للصراع بل اعتبرتها من «أحلام المراهقة». فهل آن أن يخرج العربي من مراهقته الفكرية برومنسيتها وطوباويتها وبطولاتها الزائفة وأن يجابه الواقع بنضج ومرونة وبرودة أعصاب؟ إن إجهاض الحوار أو تحوله إلى مونولوغ يوحي بالخيبة، فهذه الصحفية التقدمية المعجبة بالسارد لا تميزه كتونسي وإنما شرقيا تراه كأسلافه. إلاها بابليا حينا وخصيّا مخصيا حينا آخر. شاعرا رقيقا تارة وإرهابيا بالقوّة تارة أخرى. لكنها إذ ترفضه لا تثير حقده بل إنّ سلوكه الحضاري ينال الإعجاب. فهو بتجاوزه يوتوبيا السيطرة على المرأة الأوروبية بالفكر أو بالجنس كأنما يقتل في نفسه مصطفى سعيد إلى غير رجعة. فهل تنتصر العقلانية أخيرا؟ وهل يكون الشفاء قريبا؟ لكن ما بال السرد يصور النصر هزيمة؟ «تقيأه المصعد الكهربائي كتلة سوداء على الرصيف الخالي». «خرج من فسحة ضوء الجسر وابتلعته الشوارع...» ومن عساه يكون هذا «الآس دي آف» الذي يرابط عند الجسر ويعربد؟ وهل ترى السارد لما فقد لسانه وسحر بيانه هو الذي أنطقه مكانه بأقذع الهجاء لفاجرة المدائن باريس؟ لكنه ليس بطالب ثأر كمصطفى سعيد. أيكون وجها آخر من وجوه السارد، هو «نصفه الباقي» هناك كما أنذرت الأغنية «المحطمة» قبيل اللقاء الذي وعد وأخلف. أم تراه مصيرا محتملا للسارد إن هو لم يتجاوز محنته وظلّ أسير فشله؟ فما أشبه الإنسان بالإنسان والصعلوك بالصعلوك! لقد تقاطعت الأدوار، وتعدد الأجداد، وتولد من القصة أقاصيص، وتحول الهجاء رثاء، يرثون مدينتهم كما نرثي مدينتنا. كلّنا في الهمّ شرق. فهل نتعزّى؟ «استأسد ميكي موس» قال المعربد و»ها هو يعسكر في الضاحية». من أفواه المجانين تؤخذ الحكمة: غول العولمة المفترس يلتهم الشرق والغرب معا ويفسد قواعد اللعبة. أم تلك قصّة أخرى؟ نعود إذن. أخفقت رحلت ابن أبي الضياف جدّا وحفيدا. تبخّر الحلم. انتهى عصر وبدأ عصر جديد. خاتمة الأقصوصة قاسية لأنها واقعية. تونسية الملامح. لا جدوى من التعلّق بالأوهام. لا مسرح ولا طليعة و لا حلم بعد اليوم. وكأس الهزيمة سنشربه حتى الثمالة.. في عقر دارنا.. كل ليلة.. أمام جهاز التلفزيون.. نرى حقيقتنا عارية.. لسنا من المرغوب فيهم. لقد حسم الغرب أمره واختار حليفه ولا إضافة بوسعنا تقديمها كما فعلنا في الماضي. قد نلقى من نخبه المتنورة بعض العطف والشفقة وقليلا من الصداقة وحتى التقدير والاعتراف بالجميل أحيانا ولكن ليس أكثر. سبقنا أبناء عمنا و»ركبوا» والتحموا فهل نيأس وننهار أم نبتسم كبطل الأقصوصة ونعترف أن حلمنا كان ضربا من الطمع؟ نهاية القصّة تصبّ في راهن الأحداث: لما نجح اليهود في التواصل مع الغرب في حين أخفق العرب؟ وهل يكفي إلقاء المسؤولية دوما على عاتق الاستعمار والامبريالية والانتهازية؟ أي على الآخرين؟ وما الحل يا أحمد ابن أبي الضياف؟ أم مثلك نقول: نسأل الله حسن العاقبة. تعد بالدواء والشفاء هذه الأقصوصة لكن خاتمة الخاتمة تغرقنا مرة أخرى في الحلم.. والألم. حلم الثوار والأحرار منذ أقدم العصور وإلى آخر العصور هنا وهناك في كل مكان يموت أو لا يموت؟ جميلة هذه الأقصوصة التي تلاقت فيها جماليات الشرق والغرب، وتلاحمت فنون القصّة والشعر والمسرح، واختلجت (فيها) قضايا الواقع والفكر والسياسة في تناول سلس، بليغ، ناضج. ممتعة ومفيدة كما أرادها صاحبها وتستحق أكثر من هذه الانطباعات. _____________________ (1) عن الاستثمار الفني للكذب في روايات الرحلة إلى الغرب. منصور قيسومة: «الحي اللاتيني» من الوعي الوجودي إلى الوعي السياسي. مجلة رحاب المعرفة السنة 6 2003- العدد: 36 صص: 9 و .10 (2) عن توحد الشخصية البطلة في أدب الرحلة إلى الغرب مع الكاتب منصور قيسومة: الرحلة إلى الغرب في الرواية العربية.مجلة رحاب المعرفة. السنة: 7 2004 العدد: 41.ص:7 . (3) عن نظرية العود الأبدي في رواية الرحلة إلى الغرب. شجاع مسلم العاني:( الرواية العربية و الحضارة الأوروبية) ص: 103 طبعة: 1979 سلسلة الموسوعة الصغيرة.