صدرت مجموعة رضا البركاتي القصصيّة «غربال الضوء» سنة 2009. لكنّ الظروف والمصادفات شاءت لها أن تصلني في الأسبوع الأخير من جانفي 2011. ولعلّ ممّا يُحسب لها دون شكّ أنّي لم أجد في قراءتي لها أيّ تنافر مع «لحظة القراءة»، على الرغم من أنّي مثل شعبي كلّه هذه الأيّام، مُشبَعٌ بنهر السرد والشعر الهادر لهذه الثورة التي يكاد واقعها يتفوّق على كلّ خيال، متيحًا لنا فرصةً نادرًا ما تتوفّر للأحياء، فرصة معايشة التاريخ وهو يولد بإبداع، والمساهمة في إبداعه بأكثر ممّا تقدر عليه أروع الملاحم والسرديّات. تتكوّن هذه المجموعة من سبع قصص تفضي إليها عتبات بتوقيع أسماء عربية وعالمية بعضها جزء من التراث الحيّ وبعضها لم يكفّ عن العطاء بعد. ولعلّ من مبرّرات وجود هذه العتبات أنّها تضع القارئ منذ البداية في مناخ خصب من حوار الحضارات والثقافات، كما أنّها تعلن للنصوص عن شجرة نسب فنّية تقوم أرضيّتها على الإفادة من مختلف فنون الشعر والمسرح والسينما والأغنية والأدب الشعبيّ. منذ البداية نكتشف أنّنا أمام مغامرة فنيّة يقوم فيها التخييل بدور الخيميائيّ البارع في تقطير الواقع عن طريق اللغة والأسلوب حدّ الوصول إلى ما هو أدبيّ فيه. لا أحداث غريبة. لا تعويل على الخوارق والأعاجيب. بل أحداث عاديّة تلتقطها عينٌ غير عاديّة، هي عين السارد، وتقوم بتحويلها عن طريق اللغة والأسلوب، أي عن طريق الكتابة والفنّ. فإذا نحن نرى ما كانت تحجب وننفذ إلى ما هو غير عاديّ فيها. اللغة في هذه المجموعة القصصيّة متوهّجة سلسة مطعّمة بالأمثال والأشعار الشعبيّة والأغاني مضمّخة بعرق الناس مغموسة في نسغ الأرض، لكنها تعرف كيف تمسك بما في الواقع من شاعريّة وكيف تعبر عن دخيلة النفس وعن قرارة المشاعر الدفينة. والشخصيّات أبطال بمعنى مختلف للكلمة. أي أنّهم لا يدّعون البطولة ولا يسعون إليها ولا يستعرضون محنهم مثل من يستعرض شهادة نضال، بل يعيشون حياتهم أحرارًا كرماء على الرغم من كلّ شيء، مواجهين ما في هذه الحياة من عتمة وبؤس بالكثير من الصبر والأمل، مقاومين الفقر والظلم بالكثير من العناء والإصرار. وقد تكون خالتي زعرة إحدى بطلات هذه القصص أفضل مثال على ما سبق. فهي امرأة مجبولة من تراب هذه البلاد، تدرج في بيئة نعرف مسالكها وبنايتها وحيواناتها وظلالها الخلفيّة ومفرداتها اليوميّة العبقة بالدلالة. تعاني ما يعانيه الآلاف وتحلم بما يحلم به الآلاف، نجد في ملامحها ملامح أمهاتنا وجدّاتنا وأخواتنا، لكنّ الكتابة تعرف كيف تلتقط ما هو خارق في ما هو عاديّ. وتعرف كيف ترتقي بممارسة الحياة اليوميّة إلى مستوى البطولة، كدتُ أقول إلى مستوى الأسطورة، مثلما هو الشأن حين يطلّ بنا الراوي على مشهد التقائها بالبرني. وأيّا كان موقع أبطال هذه القصص الاجتماعي أو مستواهم الاقتصاديّ والثقافيّ، فنحن دائمًا شهود على سيرٍ فرديّة غير بعيدة عمّا ذهب إليه ماركوس أوريليوس حين قال إنّ فنّ الحياة أقرب إلى رياضة المصارعة منه إلى فنّ الرقص. حلوق تغصّ بطعم الغربة واليتم والعجز لكنّها لا تستسلم. رجال واقفون في وجه العواصف مثل أعتاق الخرّوب. نساء شبيهات بشجرات زيتون قلوبهنّ شاخصة إلى السماء وعيونهنّ تنظر إلى الأرض. وقائع سنوات الجمر التي تتأبّد من أيّام الإنقليز والألمان وفترة التعاضد ومرحلة الانفتاح الاقتصادي الكاسر إلى مرحلة الهجرة والضياع. أيّام الصالحي والزغاريد وأيّام البطالة والبحث عن قبر للراحلين. وين خبزتك وين بلادك هكذا كانت خالتي زعرة تردّد. ولكن ماذا حين تشحّ البلاد حتى بالخبزة؟! حصلت هذه المجموعة القصصية على الجائزة الأولى لنادي القصّة لسنة 2008، وتمّ تأليفها ونشر بعض نصوصها في تونس بين سنة 1988 وسنة 2007. وإذا كانت هذه المجموعة باكورة رضا البركاتي، فقد أصاب د.جلول عزونة في مقدّمتها حين قال إنّ الضربة الأولى كانت ضربة معلّم. وقد دأب الكاتب طيلة هذا الوقت على تجويد نصوصه والارتقاء بفنيّتها دون أن يكفّ عن الانخراط في ما تتطلّبه المُواطنة من اهتمام بالشأن العامّ، في صفوف الحركة الطلاّبيّة في السبعينات ثمّ في جامعة نوادي السينما وصولاً إلى العمل النقابيّ والنشاط في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان ومقاومة التعذيب وغيرها. وهي نقطة ما كنتُ لأتوقّف عندها لولا السياق العامّ الراهن الذي لا يخلو من بعض الظلم لجانب كبير من الساحة الثقافيّة التونسيّة. ففي مثل هذه المجموعة القصصيّة برهان آخر على أنّ العديد من الكتّاب التونسيّين (روائيّين وقصّاصين وشعراء ومبدعين في مختلف المجالات) لم يكونوا صامتين كما يروّج البعض، ولم يكونوا مستقيلين، بل كانوا يشهدون ويرفضون ويمارسون احتجاجهم ورفضهم وتمرّدهم عن طريق الكتابة، كلّ بطريقته، ربّما بشكل أقلّ استعراضًا من الأشكال الأخرى، لكنّ ذلك لم يمنع أدبهم من أن يكون ملتزمًا بالمعنى العميق للعبارة، أي أدبًا ومقاومة في الوقت نفسه.