كشفت تجربة المقاومة اللبنانية في معركة جويلية 2006 ومن قبلها حكومة حماس فراغا رهيبا في الساحة العربيّة، فقد أهم اللاعبين في النظام العربي ثقتهم في قدراتهم على ملء الفراغ العقائدي والسياسي والعسكري واقتنعوا بأنّ تفاهما ضمنيا مع قوى خارجية منها اسرائيل، ان لزم الأمر السبيل الوحيد لسدّ فراغ اذا ترك ستملؤه ايران، فالوجود يخشى الفراغ الذي صار داعية لجميع القوى وجاذبا مميّزا لها. فلماذا القبول بالهزيمة رغم مشاهدة الصمود والإنتصار؟ ولماذا التسرّع في الهروب نحو العدو دون النظر الى اللحظة الأخرى التي تجسّدها المقاومة؟ ولماذا تبقى عقولنا أسيرة عاجزة عن ابداع الحلول عند مواجهة اللحظة الحاسمة؟ ولماذا نضيع رصيدا عظيما تركته المقاومة؟ إنّ اللحظة التي جسدتها المقاومة مثالية في قدرتها على صنع الصمود أولا ثمّ الانتصار النسبي ثانيا رغم كل العوامل المعيقة داخليا من خلال النقد الشديد الذي وجهته أطراف سياسية لبنانية وخارجيا من خلال الإدانة العربية الرسمية من بعض الدول والتي أعطت الضوء الأخضر للعدو الصهيوني ليدعي أنّه يمثل جبهة اقليمية ينخرط فيها الى جانبه العرب المعتدلون في مواجهة قوى إرهابية متشدّدة ومغامرة. إنّ صمود المقاومة يمكنه أن يرفع اليأس والإحباط من قلوب المهرولين نحو العدو لمصالحته وعقد اتفاقات سلام معه. لبنان الجزء الأصغر من أمتنا {مساحة لبنان كلم } يدعو الجميع للثقافة في ارادة الشعوب وقدرتها على الإبداع عند مواجهة الخطر، لقد صنعت المقاومة لحظة استثنائية من الطاقة الحرارية داخل أوسع عدد من الجماهير وهي طاقة بحاجة شديدة الى الإستثمار حتى لا يذوبّها جليد السلام الزائف وهي بحاجة الى استجابة واعية من النخب لتأخذ طريقها نحو الأطر السليمة بعيدا عن الإنفعالية الحالمة والغاضبة والمتطرّفة أحيانا ممّا يهدّدها لأن تصبح طاقة عمياء تصيب الصديق قبل العدو وذلك مقتل الطاقة الحرارية التي لا تجد طريقها في التحوّل الى وعي فعّال إنّها مسؤولية النخب المثقفة والعلمانية. صبّت تجربة المقاومة في وادي العرب ماء الحياة الذي يمكنه أن يكنس عوامل الموت والفناء ليعلن ولادة لحظة جديدة ميزتها: 1 الصمود الذي أذهل الجميع من الأصدقاء والخصوم والأعداء، الكل وقف مذهولا أمام «فئة قليلة» بضعة آلاف، تصمد في مواجهة أقوى جيوش الشرق الأوسط زائدا الدعم الدولي الاستثنائي وتستطيع هذه الفئة منع هذا الجيش من تحقيق أهدافه. 2 طاقة غضب شعبية هائلة ضدّ اسرائيل، أخرجت الجميع من حالة اللامبالاة لتحشرهم في المعركة، وهي سمة أساسية لأي حرب تحريرية حيث تنخرط الشعوب وتشعر بأنّها مستهدفة في كيانها لذلك تُبدي استعدادها للدفاع عن نفسها، كرامتها وعزّتها فالنصر لا تصنعه العقلانية وحدها بل تفعله قوّة الغضب والنقمة على الظلم والعدوان، وهي التي تأخذ الانسان وتمنحه قوّة خاصة لا يجدها في نفسه عند حالات الاسترخاء. 3 طاقة عداء ضدّ حلفاء اسرائيل، الولاياتالمتحدة وبريطانيا بإعتبارهما غطاءً دوليا لجرائم الكيان الصهيوني، وهو عداء عبّرت عنه الجماهير في مقاطعة البضائع الأمريكية والإحتجاجات العنيفة عند الزيارات التي يقوم بها رموز هذه الدول الى بلداننا وهو ما كشتفه استطلاعات أمريكية عديدة. 4 طاقة الرجوع واستعادة الثقة، عادت الأمة في مضمار السباق وشعر الجميع بأنّنا مازلنا أحياء لم يتم القضاء على عناصر القوّة في وجودنا، أعادت المقاومة الثقة في الذات العربية التي مزّقتها الصراعات بين النظم وشعوبها، بين مختلف مكوّنات الأمّة، بين مختلف الأنظمة، بين الأمة وأعدائها لكن المقاومة أوقفت جميع مسارات الهزيمة لتعلن امكانية العودة نحو الوحدة الداخلية بين مكونات الوطن لمواجهة العدو المشترك، لتعلن أنّه رغم حالة الضعف والتشتت فإنّ الصمود والنصر في متناولنا لأنّنا دعاة حق شرعي ضمنته جميع الشرائع. إنّ بؤس الواقع لا يحجب الطاقات الكامنة التي تنتظر التفعيل والصبر. 5 الإعتماد على النفس طريقنا الوحيد لإفتكاك موقع في الساحة الدولية. إنّ التعديلات التي فرضتها لبنان على المقترح الأممي 17.1 كانت ثمرة لصمود المقاومة وتعبيرا عن مشاعر الإحباط الاسرائيلي بعد العجز عن تحقيق أي اختراق فعلي لجبهة الدفاع فجاءت الهرولة لوقف الحرب حفظا لماء الوجه. وقد وجّه السيد نصر اللّه في بداية العدوان الاسرائيلي نداء الى العراقيين ليعتمدوا على أنفسهم في ضمان وحدتهم وأمنهم ولا يجعلوا المحتل ضامنا بديلا ليكن الشيعي ضمانه أمن السني والعربي ضمانة أمن الكردي والعكس كذلك ولا تتخيّلوا أبدا أن الأمريكي سيكون ضمانة، إنّه عامل تخريب وتخويف وتشتيت لأنّ ذلك ما يضمن له ولاء الجميع وتبعيتهم. على الأمة ان تبتكر الحلول التي تمكنها من تجاوز أزماتها وان تطلّبت منها تضحيات كبيرة، لا ان نهرب نحو المحتل ونحن نتوهّم عنده الحل. 6 طاقة تضحية استثنائية، في الساحة اللبنانية ممثلة في التفاف المهجّرين والنازحين حول المقاومة رغم آلامهم وما عاشوه من دمار شامل استهدف اثارة النقمة في نفوسهم ضد المقاومة لكن انقلب سحر العدو عليه. وفي الساحة العربية بدا الاستعداد كبيرا للتضامن والإحتجاج الشديد ضدّ العدوان وكانت التبرعات الهائلة نموذجا أوليا وهاما لأنّها مكّنت المقاومة من بدء جهاد البناء سريعا وتقديم التعويضات للمتضررين «إنّ التجرّد من الأنا الصغيرة هو شرط اليقظة والوعي» 7 طاقة وحدة عمل الاحتلال الأمريكي في العراق على إحياء الصراع المذهبي بين طوائف المسلمين لإثارة فتنة يمكنها الإمتداد لتعمّ الساحة العربية والاسلامية وظنّ الكثير أنّنا مقبلون على انقسام حادّ يطغى على جميع الإنقسامات الأخرى: السنة مهما كان لونهم ضدّ الشيعة مهما كان لونهم لكن تجربة المقاومة فتحت الطريق أمام طاقات الوحدة داخل الأمة التي تشعر بعناصر الوحدة ضدّ عدوّ مشترك متجسّد في اسرائيل وحليفها الأكبر الولاياتالمتحدة. 8 نموذج جديد في القيادة يتسّم بدرجة كبيرة من الصدقية والواقعية والمبدئية والوضوح. عاش العرب تجارس كثيرة من التمزق بين مثالية حالمة واستسلامية مذلّة بين من يعدهم بالنصر الحتمي ويحدّثهم عن أم المعارك ويتفنّن فين عت الأعداء بالعلوجة وبين من يدعوهم الى تفاهم مع العدو مبررا ذلك بالتغيّرات الكبرى والقطارات السريعة التي ركبها العالم بعد العولمة ومصير من يخرج منها أن تسقط به الريح في مكان سحيق من العزلة والضياع. وجاءت قيادة المقاومة لتطرح طريقا ثالثا يُنحت بصبر وصدق وهدوء يقوم على الإعتراف بواقع الوهن والشتتت في أجزاء كثيرة من الساحة العربية كما أكّد ذلك نبيه برّي اثر زيارته الى السعودية ومحاولته للتقريب بينها وبين سوريا لكنه اعتراف يدفع الى العمل الجادّ والصبور لخلق معادلات جديدة تحاصر الوهن وتجدّر ثقافة المقاومة لدى الشعوب من خلال التأكيد على امكانية الانتصار المرحلي وافتكاك مواقع تدريجيا في انتظار لحظات قادمة أفضل ومن خلال العمل الدائم على توجيه البوصلة نحو العدو الصهيوني. ولعلّ تجربة المقاومة في تجاوز الأزمة السورية اللبنانية خير مثال. وهي قيادة صادقة في إيمانها بالقضية واستعدادها الدائم للتضحية ومشاركة الجماهير في دفع ثمن الكرامة والعزّة. إنّ شهادة الابن الأكبر للسيد نصر اللّه (هادي) هي الدليل الأعظم. 9 بذور وعي لطبيعة الصراع القائم بين روح الاستقلال والكرامة وبين الإحتلال ومظاهره المتنوعة، صراع يمتزج فيه الدين والقومية والتاريخ صحيح أنّ المسلمين ضحايا في هذا الصراع الى حدّ الآن. فهم المحتلة أرضهم.. والمستغلة ثرواتهم.. والمنتهكة كرامتهم.. والمعتدى على أطفالهم ونسائهم.. والمدنسة مقدساتهم... وهم لا يجدون سببا معقولا لهذا العداء الاّ انتماءهم الحضاري (الدين التاريخ الجغرافيا). إنّ «ردّ الفعل» الاسرائيلي ضدّ أسر الجنديين والدعم الذي وجده من دول الغرب جميعا جعل الأمر واضحا وجليا: كيف يغمض الغرب عينيه على آلاف الأسرى العرب في سجون الإحتلال ويجد في تحرير جنديين سببا كافيا لقتل آلاف الأبرياء وتدمير بلد بكامله؟! لماذا تدعون الى الديمقراطية وترسلون الجيوش تحت غطاء نشرها ثم ترفضون نتائجها؟ إنّه التناقض القاتل الذي يكشف وجها آخر للغرب لكنّه شديد البشاعة في العداء لشعوبنا وحقوقها. ان العرب جميعا أمام لحظة تاريخية عاصفة تأخذ اتجاهين متناقضين ازدادت صعوبة التعايش بينهما: 1 المقاومة بكل امتداداتها الثقافية والنفسية. 2 التطبيع والتعاون مع العدو الصهيوني والمحتل الأمريكي بشكل ذاتي أو موضوعي، تحت الأضواء أو بعيدا عنها. لكلّ حجّته ومنطقه عند الاول المقاومة تصون الكرامة وتضمن الخبز وهي الضمان لاأول لحركة الشعوب. وعند الثاني، اذا وجد الانسان نفسه بين خيار التجويع وخيار التطبيع فإنّ العاقل يختار التطبيع حفظا للوجود السابق عن الكرامة التي لا تعرف لها حدودا مضبوطة. المأزق يبدو أكثر عنفا وشدّة لأنّ كليهما يركب السفينة ذاتها. فلا يمكن تصوّر الهزيمة التامة لأحدهما خلاصا في هذه المرحلة، فإنتصار محدود يعمل الجميع على حمايته أعظم أثرا من انتصار يبدو كاملا لكنّه يفتح على الفتن ولعلّ المأزق الفلسطيني الأخير أكبر مصداق، خلافا للتجربة اللبنانية التي تعمل للحفاظ على سلامة السفينة وان كان على حساب الحق والحقيقة، قدر المقاومة ألا تسقط في فخّ التناقض التام مع خصومها من الداخل فذلك مقتلها في المرحلة الراهنة. أعطت تجربة جويلية 2006 مدى كبيرا لخيار المقاومة وقوّت من رصيدها داخل لبنان والعالم «ما حدث في لبنان حدثٌ عابر للقارات والأزمان» بعد الإنحسار النسبي الذي استهدفه حصار الحكومة الفلسطينية من «الأصدقاء» والأعداء. وقد أفقدت المقاومة خيار التطبيع أي مبرّر معقول ما عدا الإختيارات الذاتية المحضة التي تجد أسبابها في الاستبداد الباحث عن التأييد الخارجي لتعويض نقص الشرعية الداخلية.