ليس التاريخ حركة أفراد وإنما هو حركة مجتمعات، أو كتل اجتماعية كبيرة، على الرغم من الدور الكبير الذي لعبه بعض الأفراد في تاريخ المجتمعات البشرية، والأمثلة على ذلك كثيرة، وفي كل المراحل. لكن الوضع في المجتمعات الفتية، أو تلك المجتمعات التي لم تنضج بعد (بالقياس لوعيها لذاتها ومصالحها(، يختلف كثيرا، حيث ثمة دور كبير للأفراد في صياغة تاريخ هذه المجتمعات، أو توجيه دفتها، بالنظر لحال الغياب أو التهميش التي ترزح في ظلها تلك المجتمعات لأسباب مختلفة (ذاتية وموضوعية). ومثلا، ففي المجتمعات العربية، التي كانت في طور التبلور، وفي بداية تعرّفها على هويتها الوطنية والعروبية، بعد خروجها من الحقبة العثمانية، اضطلعت الفئات الوسطى، التي كانت تقطن في المدن) في الثلثين الأولين للقرن الماضي) القرن العشرين، بدور تاريخي كبير، على رغم من كونها «أقلية» عددية في مجتمعاتها، حيث كانت الأكثرية تقطن في الأرياف. وقد تبوأت تلك الفئات مكانتها القيادية في مجتمعاتها، بحكم تمركزها في المدن، التي كانت بمثابة مركز للحراك السياسي والثقافي والفني، وبفضل تمكنها من التعليم الحديث، بمختلف اختصاصاته، ما مكنها من احتلال المناصب الإدارية في الدولة الناشئة، وأيضا، بحكم احتكاكها بتجربة الغرب في التحديث والحداثة وتحصيلها العلم في جامعاته. وبسبب من مكانتها هذه استطاعت الفئات الوسطى تصدير عديد من الشخصيات العامة، التي لعبت دورا كبير في السياسة والثقافة والفكر والفنون) بمختلف تلاوينها(، وهذه الشخصيات هي التي شكلت الأحزاب السياسية، وهي التي أقامت عمارة الثقافة والفنون، في النصف الأول من القرن العشرين وفي بداية مرحلة الاستقلال وازدهار الدولة الوطنية. ومعلوم أن هذه المرحلة انتهت مع نشوء مرحلة الانقلابات العسكرية والأيديلوجية، التي أدت فيما أدت إليه إلى «ترييف» المدن (بدل تمدين الريف)، والتحول إلى الدولة الشمولية، وتآكل الفئات الوسطى المدينية، لصالح فئات وسطى جديدة تعتمد على جهاز الدولة البيروقراطي والتسلطي، ما «أفقر» الدولة والمجتمع في آن معا، من الناحيتين المعنوية والمادية) بحكم إهدار الموارد وتغييب المؤسسات والوصاية على المجتمعات). وعلى رغم اختلاف الظروف فإن الوضع الفلسطيني لم يخرج عن هذه القاعدة تماما. ذلك أن حال الانكسار والتشظي التي أصابت المجتمع الفلسطيني، بفعل النكبة (1948) أدت إلى غياب الشعب الفلسطيني، وتغييبه. ووقتها انشغل غالبية اللاجئين الفلسطينيين بتحصيل لقمة عيشهم، بعد أن تحولوا بين يوم وليلة إلى حال من الفقر المدقع؛ بمعنى انه لم يكن ثمة قدرة لديهم لإدراك واقعهم كما لم يكن بمستطاعهم في هذه الحال من البؤس المادي والمعنوي التفكير بقضايا أخرى. بالنظر إلى ذلك فقد برز من بين الفئات الوسطى الفلسطينية، التي قطنت في العواصم والمدن العربية، أي في بيروت ودمشق والقاهرة وعمان وبغداد والكويت وقطر والرياض وغيرها، أساتذة جامعات ومدرسون وصحافيون ومهندسون وأطباء ومحامون وفنانون وحتى رجال مصارف. هكذا، برز في تلك الفترة عديد من الشخصيات الفلسطينية، من بين صفوف الفئات الوسطى، التي لعبت دورا كبيرا في الحياة السياسية والأدبية والفنية والأكاديمية العربية، وما ساعد على ذلك الاكتفاء المعيشي لهذه الفئات، وتمتعها بقدر مناسب من الثقافة والتعليم، واحتكاكها بالتجارب السياسية الناشئة. وضمن هذه الشخصيات: أحمد الشقيري ووليد الخالدي وادوارد سعيد وهشام شرابي وشفيق الحوت وأحمد صدقي الدجاني وآل صايغ (فايز ويوسف وأنيس) وأنيس القاسم وابراهيم أبو لغد ونصير عاروري، وغسان كنفاني وإسماعيل شموط وسليم سحاب وعبد المجيد قطان وعبد المحسن شومان ورفعت النمر) هذا دون أن ننسى الدور الذي لعبه المثقفون الفلسطينيون في مناطق 48 وعلى رأسهم الشاعر الراحل محمود درويش)، وكل ذلك على سبيل المثال لا الحصر. ومن بين صفوف هذه الفئات، أيضا، ظهرت الشخصيات القيادية في الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، من مثل ياسر عرفات وجورج حبش ووديع حداد وصلاح خلف وخليل الوزير وخالد الحسن وكمال عدوان وسمير غوشة وخالد الفاهوم وبهجت أبو غربية وناجي علوش. ويستنتج من ذلك أن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تنطلق كفكرة وكمبادرة من فلسطينيي المخيمات، وذلك بحكم واقع البؤس (المادي والمعنوي) الذي كانت ترزح تحته، كما إنها لم تعتمد عليها في تأمين مواردها، وإن تحول فلسطينيو المخيمات إلى وقود لهذه الحركة فيما بعد، من دون أن يتمكنوا من تنسّم مواقع قيادية فيها. هكذا اضطلعت تلك الشخصيات، كل واحدة بحسب ثقلها في الحقل الذي تعمل به، بدور كبير في صياغة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، بمعناها المؤسساتي والهوياتي، وفي مسار السياسة الفلسطينية، ما مكن الشعب الفلسطيني من إعادة الشعب الفلسطيني من الغياب والتغييب، والتمحور من حول ذاته، وبالتالي من حول قضيته. في هذا الإطار يمكن فهم الدور الكبير الذي اضطلع به شفيق الحوت، وأقرانه من الرعيل الأول الذي وضع المداميك الأولى التي أسست للعمل الوطني الفلسطيني، ولمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي صاغت شعاراته وخطاباته السياسية والكفاحية وفي هذا الإطار، أيضا، يمكن فهم الخسارة الفادحة التي خسرتها الحركة الوطنية الفلسطينية جراء تهميش دور هؤلاء الرواد بسبب تنامي المصالح الفئوية الفصائلية على حساب المصالح الوطنية، وتنامي النزعة الشعبوية على حساب النزعة العقلانية، وهي على أية حال نزعة تدّعي الاعتماد على الشعب فيما هي تفرض وصايتها عليه، وتحوله إلى مجرد حالة صماء أداتية، ولا تلقي اهتماما لمعاناته. وما يميز الراحل شفيق الحوت، وأقرانه، أنهم اشتغلوا منذ البداية على تكريس البعد المؤسّسي في العمل الفلسطيني، وأنهم عملوا على تكريس التنوع والتعددية في الحركة الوطنية الفلسطينية، وسهروا على تمازج البعدين الكفاحي والعقلاني في الخطاب السياسي الفلسطيني. وما يميز أبا هادر أنه كان فلسطينيا وعروبيا في الوقت ذاته، وقائدا شعبيا ومثقفا نخبويا، في آن معا. ومع مرونته وحيويته الفكرية والسياسية فقد كان أبو هادر صلبا في التمسك بأصول العمل السياسي ومبادئ العمل الوطني ما وضعه على سكة النقد للزعيمين الفلسطينيين الراحلين، أحمد الشقيري وياسر عرفات، لفرديتهما في العمل واحتكارهما القرارات. وهكذا استقال شفيق الحوت من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير (سويا مع محمود درويش(، بعيد توقيع اتفاق أوسلو (1993)، فعقله وضميره لم يمكناه من استيعاب طريقة فرض هذا الاتفاق، وقبول الاجحافات المتضمنة فيه. برحيل شفيق الحوت) أبو هادر) فقد الفلسطينيون علما من أعلامهم الخفاقة، وفقدت الصحافة عميدا من عمدائها، وفقدت الساحة الفلسطينية واحدا من قادتها..