تفاصيل الاحكام السجنية الصادرة في قضية "التسفير"    دعما للتلاميذ.. وزارة التربية تستعد لإطلاق مدارس افتراضية    ترامب يبحث ترحيل المهاجرين إلى ليبيا ورواندا    الدوريات الأوروبية.. نتائج مباريات اليوم    جلسة عمل بين وزير الرياضة ورئيسي النادي البنزرتي والنادي الإفريقي    نصف نهائي كأس تونس لكرة اليد .. قمة واعدة بين النجم والساقية    ملكة جمال تونس 2025 تشارك في مسابقة ملكة جمال العالم بالهند    مهرجان «كنوز بلادي» بالكريب في دورته 3 معارض ومحاضرات وحفلات فنية بحديقة «ميستي» الاثرية    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    الاتحاد الجهوي للفلاحة يقتحم عالم الصالونات والمعارض...تنظيم أول دورة للفلاحة والمياه والتكنولوجيات الحديثة    تحسّن وضعية السدود    معدّل نسبة الفائدة في السوق النقدية    عاجل: بينهم علي العريض: أحكام سجنية بين 18 و36 سنة للمتهمين في قضية التسفير مع المراقبة الإدارية    القيروان: هلاك طفل ال 17 سنة في بحيرة جبلية!    اللجنة العليا لتسريع انجاز المشاريع العمومية تأذن بالانطلاق الفوري في تأهيل الخط الحديدي بين تونس والقصرين    تحيين مطالب الحصول على مقسم فردي معدّ للسكن    المانيا.. إصابة 8 أشخاص في عملية دهس    تونس تسجّل أعلى منسوب امتلاء للسدود منذ 6 سنوات    عاجل/ تحويل جزئي لحركة المرور بهذه الطريق    مأساة على الطريق الصحراوي: 9 قتلى في حادث انقلاب شاحنة جنوب الجزائر    عاجل: إدارة معرض الكتاب تصدر هذا البلاغ الموجه للناشرين غير التونسيين...التفاصيل    عاجل/ أمريكا تجدّد غاراتها على اليمن    تونس تستعدّ لاعتماد تقنية نووية جديدة لتشخيص وعلاج سرطان البروستات نهاية 2025    اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير لتأمين صابة الحبوب لهذا الموسم - الرئيسة المديرة العامة لديوان الحبوب    النّفطي يؤكّد حرص تونس على تعزيز دور اتحاد اذاعات الدول العربية في الفضاء الاعلامي العربي    عاجل/ زلزال بقوة 7.4 ودولتان مهدّدتان بتسونامي    الشكندالي: "القطاع الخاص هو السبيل الوحيد لخلق الثروة في تونس"    الليلة: أمطار رعدية بهذه المناطق..    جريمة قتل شاب بأكودة: الإطاحة بالقاتل ومشاركه وحجز كمية من الكوكايين و645 قرصا مخدرا    مدنين: مهرجان فرحات يامون للمسرح ينطلق في دورته 31 الجديدة في عرس للفنون    عاجل/ تسجيل إصابات بالطاعون لدى الحيوانات..    غرفة القصّابين: أسعار الأضاحي لهذه السنة ''خيالية''    منوبة: احتراق حافلة نقل حضري بالكامل دون تسجيل أضرار بشرية    سليانة: تلقيح 23 ألف رأس من الأبقار ضد مرض الجلد العقدي    مختصون في الطب الفيزيائي يقترحون خلال مؤتمر علمي وطني إدخال تقنية العلاج بالتبريد إلى تونس    فترة ماي جوان جويلية 2025 ستشهد درجات حرارة اعلى من المعدلات الموسمية    الانطلاق في إعداد مشاريع أوامر لاستكمال تطبيق أحكام القانون عدد 1 لسنة 2025 المتعلق بتنقيح وإتمام مرسوم مؤسسة فداء    حزب "البديل من أجل ألمانيا" يرد على تصنيفه ك"يميني متطرف"    جندوبة: انطلاق فعاليات الملتقى الوطني للمسرح المدرسي    فيلم "ميما" للتونسية الشابة درة صفر ينافس على جوائز المهرجان الدولي لسينما الواقع بطنجة    كلية الطب بسوسة: تخرّج أول دفعة من طلبة الطب باللغة الإنجليزية    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تحرز ذهبيتين في مسابقة الاواسط والوسطيات    خطر صحي محتمل: لا ترتدوا ملابس ''الفريب'' قبل غسلها!    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    تطاوين: قافلة طبية متعددة الاختصاصات تزور معتمدية الذهيبة طيلة يومين    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    ريال بيتيس يتغلب على فيورنتينا 2-1 في ذهاب قبل نهائي دوري المؤتمر الاوروبي    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    الصين تدرس عرضا أميركيا لمحادثات الرسوم وتحذر من "الابتزاز"    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    "نحن نغرق".. نداء استغاثة من سفينة "أسطول الحرية" المتجهة لغزة بعد تعرضها لهجوم بمسيرة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدولة اليهودية... المعزل الأخير
61 عاما على النكبة: الأستاذ: محمد الصالح التومي
نشر في الشعب يوم 29 - 08 - 2009

في 15 ماي 2009 الماضي مرّت ستون سنة على النكبة العربية في فلسطين، وهي توازي 61 سنة على قيام الكيان الصهيوني الذي حاول ولازال تجسيد الحلم القديم ذي الطابع الخرافي والمدعوم وبالمفارقة بالمعرفة والتقنية الحديثتين، والمتمثل في إقامة دولة لليهود فوق الأرض التي يسمونها أرض الميعاد: أي فوق فلسطين وماجاورها من الفرات الى النيل كما يزعمون.
لقد كان الصحفيّ النمساوي تيودور هرتزل مؤسس هذا الحلم اللامعقول ينادي في أوّل الأمر وكحل للمسألة اليهودية باندماج اليهود في بلدان إقامتهم، ولكنّه حال التقائه بالمصرفي اليهودي الشهير: روتشيلد، تحوّل بقدرة قادر وبين عشية وضحاها الى مدافع عن قيام الدولة الصهيونية ولو بواسطة الحرب العالمية.. فذلك ما أعلنه بالضبط بعد لقائه العاصف مع السلطان عبد الحميد آخر خليفة عثماني حينما رفض هذا الأخير منحه طواعية أرض فلسطين مقابل أموال ستغدقها المصارف الصهيونية على تركيا تحديدا، لتنميتها.
ثمّ كان له أتباع ثابروا على انجاز الفكرة بدءا بحصولهم على وعد بلفور ووصولا الى القرار الأمني الذي مكّن دافيد بن غوريون من الاعلان عن قيام دولة الكيان الصهيوني فور صدوره. لقد سالت دماء كثيرة قبل تأسيس الدولة سنة 1948، وتلطخت أيدي عصابات الإرغون والهاجاناه بهذه الدّماء في مجازر فظيعة أشهرها مجزرتي دير ياسين وكفر قاسم، ولما كانت الدولة الصهيونية امتدادا أكثر تنظيما لتلك العصابات فقد تواصلت سلسلة الجرائم سواء أثناء الحروب النظاميّة أو أثناء الهجمات الخاطفة الأخرى، ما تجسّد في دفن عشرات الجنود المصريين أحياء في سيناء، أو في إبادة سكان مخيّمي صبرا وشاتيلا، أو في ارتكاب مذابح جديدة، سواء بجنين في فلسطين أو على كرّتين في قانا بلبنان والقائمة تطول.
لقد تعامل الصهيوني بصلف منقطع النظير مع سكان الأرض التي أقام فوقها كيانه وهاهو اليوم يواجه نتائج هذا الصّلف: فالذل الذي حاول إلحاقه بهؤلاء السكان قد تحوّل الى كفاح مسلح مشروع ضدّه والى انتفاضات متكرّرة تؤلمه وتؤرقه خاصّة وقد بات محاصرا بما يشبه معادلة الرّعب من طرف المقاومة بلبنان وبفلسطين. وهو اليوم غارق في تناقضاته حتى النخاع إلى درجة قد تبعث على الرّثاء اذا حاولنا ولو افتراضيّا أن نتجاوز حاجز العداء وننظر بداخل الصهيوني الى الإنسان كإنسان.
فالصهيوني الذي أراد الهروب من وضع الشتات وأن يجمّع اليهود في أرض واحدة ان لم تكن في أوغندا فلتكن من باب الخيار في فلسطين، لم يتمكّن من تحقيق هذا الهدف لأنّ أغلبيّة اليهود مازالوا في الشتات وقد نجحوا فوق ذلك في الإندماج.. فكانت النتيجة البارزة الوحيدة لجريمته هو أنّه عرّض شعبا آخر الا وهو الشعب الفلسطيني الى نفس المحنة التي كان يعاني منها. وهو الذي ما انفكّ يتذمر من المحرقة النازية التي رسّخ معانيها في الذاكرة الانسانية بمختلف الأساليب وحتى بالتشريعات التي تعاقب في أوروبا لمن يشكّكون في وقائعها وفي أرقامها المعلنة. هاهو أصبح اليوم يرى أنّه لا خلاص له الاّ بتعريض الشعب الفلسطيني الى محرقة من نفس النوع. فهذا ما أعلنه قادته في مارس 2008 بكامل الوضوح. فماهو ذنب الشعب الفلسطيني ياترى؟
وإذا تمكّن بواسطة قوّته الماليّة والتنظيميّة وبواسطة تحالفاته مع القعر المتصهين داخل بعض الفرق المسيحيّة في أوروبا وفي أمريكا، وهي التحالفات التي يتيحها الارتباط الوثيق بين «العهد القديم» أي التوراة وبين «العهد الجديد» أي الإنجيل المكوّنين للكتاب المقدّس لدى عامّة المسيحيين... قلنا إذ تمكن بواسطة ما ذكر من إقامة محاكمة «نورمبرغ» للمحرقة النازيّة، فها هو يجد محرقته المتواصلة ضدّ الفلسطينيين بالرّغم من أن عراقيله وضغوطه المتنوّعة مطروحة أمام محكمة الضمير العالمي التي انعقدت جلساتها في غضون مارس 2008 ببروكسيل عاصمة الاتحاد الأوروبي.
كما أنّه وهو الذي هرب من ألمانيا بعد اندحار الوحش النازيّ المستثار جزئيا من قبله.. تاركا وراءه جدار برلين الذي يفصل بين شقّ غربيّ يؤديه ويشعر بالذّنب تجاهه، وبين شقّ شرقي موال نسبيا للقضايا العربيّة ومندّد بالتالي بالجرائم الصهيونيّة، هاهو اليوم وبعد سقوط جدار برلين في يوم مشهود، يندفع وبحماس منقطع النظير الى بناء نسخة منه أسماها «الجدار العازل» ويريد بواسطتها أن ينفصل نهائيا عن الفلسطينيين بعد أن يقضم بالمناسبة دونمات أخرى من أراضيهم ويستحوذ لفائدته على مصادر مياههم.
وإذ يتفطّن في غمرة هذا كلّه الى أن بعض الفلسطينيين الذين تشبثوا بالبقاء لازالوا الى جانبه مثلهم مثل جزر معزولة وسط بحار مصطخبة بعدائه على حدّ العبارة الرّشيقة لغسان كنفاني فهاهو بعد أن حاول محق هويتهم واحتواءهم بإعطائهم الجنسيّة الاسرائيلية غصبا عنهم أصبح يعاملهم كقنبلة ديمغرافيّة موقوتة ويهدّدهم بالطرد غير عابئ بحقوقهم رافعا في وجههم شعار «الدولة اليهودية النقيّة» التي لن تقبل لا بالمسيحيين ولا بالمسلمين، وهو الشعار الذي سارع المسيحيون الصهاينة الحاكمون لأمريكا في هذه الأيّام الى تبنيه والدفاع عنه في مؤتمر «أنابوليس».
هذا الصهيوني الغاصب يريد اذن أن يهنأ بما اغتصبه، ولكنّه لا يستطيع وهو الذي نصّب نفسه جارا يريد أن يفرض التعايش على جيرانه من بوّابة إذلالهم، واذ يطلب «الأمن» و»السلام» فإنّه يستلّ سيف الإرهاب والحرب الظالمة ويكشف من طرف خفيّ عن سلاحه النووي.. فهذا كلّه سلوك مليء بالتناقض... ولا يمكن اعتباره في المحصلة النهائية الاّ سلوكا مرضيا ذا طابع جماعي.
ألم تقل غولدا مائير (وهي رئيس وزراء سابقة للكيان) انها لم تجد شعبا فلسطينيّا حين دخلوها لما تسمّيه أرض الميعاد! فأي عمى أكثر من هذا العمى؟
ألا يمعن الصّهاينة في الترويج للإعتقاد الزّائف بأنّ فلسطين كانت أرضا بلا شعب، فأيّ جنون يفوق هذا الجنون؟
وإذ يكذّبهم الزّيتون والتفاح والبرتقال، واذ تكذّبهم المباني، وإذا يكذبهم التاريخ وإذ يكذبهم الحصى الذي يتحوّل سلاحا في يد الأطفال الأبرياء وإذ يكذّبهم الإنسان الشامخ أبدا رغم المأساة، فإنّ أيديهم تمتدّ لإقتلاع الأشجار، ولنسف العمران، ولاغتيال الطفولة، والتاريخ، وللتنكيل بالإنسان حصارا وتجويعا وقتلا أكان هذا الانسان نائما في مخيّم، أو سائرا في أحد الشوارع أو حتّى لاجئا الى أحد الشواطئ طلبا لقليل من الرّاحة أمام تواصل الاضطهاد.
أيّها الفلسطيني أنت لا يمكن أن تكون موجودا. هكذا يصيح الصهاينة في كلّ يوم.. ولذلك قتل أحدهم اسحاق رابين بمجرّد أنّه صافح الشهيد ياسر عرفات واعترف به ولو في حدود ضيّقة. مفاوضا أي ممثلا لشعب يعتبره الصهاينة غير موجود، وذلك رغم أنّ رابين طالما عبّر عن حلمه الذي يشاركه فيه صهاينة كثيرون في أن يستيقظ ذات صباح فيجد ان «غزّة» بما فيها وبما عليها قد ابتلعها البحر.
أيّها الفلسطيني أنت لا يمكن ان تكون موجودا. هكذا يصيح الصهاينة في كل يوم، ولكن الفلسطيني ما ينفكّ في كلّ يوم أيضا يفضح هذه الكذبة ويرسم معاني وجوده بأوضح الألوان أمام العالم بأسره.. بل أمام الصهيوني ذاته الذي يشعر عندئذ بالألم مضاعفا:
أولا: من خلال الفعل المادّي والواقعي الذي يلحقه به المقاوم الفلسطيني الذي ينفي وجوده فيكون مجبرا على الشعور بوجوده من خلال ذلك الألم.
وثانيا: من خلال ارتسام جرائمه أمام العالم وأمام عينيه بصورة بشعة لا يمكن أن يخفيها أيّ كذب أو أيّ نفاق ولا أن تخفّف منها وطأة سيطرته على وسائل الإعلام العالميّة التي يملكها مردوخ وأمثاله.
لقد وعدت التوراة المحرّفة ابراهيم الذي استحوذ عليه الصهاينة بصفتهم أبناء اسحاق من زوجته «الحرّة» سارة، بأن تهبه أرض العسل واللبن (أي فلسطين) رغم انها كانت مسكونة من قبل أعوام آخرين.. أمّا التلموديّون فقد أمروا أتباعهم بعد الشتات بأن لا ينسوا جبل «صهيون» تحت طائلة أن تتساهم «يمينهم»، ولكن الكنعانيّ السّاكن الأصلي للأرض والذي افتكّت أرضه سابقا، ثمّ أعيد افتكاكها حديثا ما انفك مثل طائر الفينيق يقوم من رماده وينتفض من ذبحاته ويقلب الطاولة على العبرانيّ ويذكره بأنّه مجرّد عابر مغتصب، وبأنّ «هيبرون» ستظلّ «الخليل وبأنّ «جيريكو» ستظلّ «أريحا»، وبأنّ القدس لن تصبح «أورشليم»، وبأنّ المسيح الذي ولد في «بيت لحم» أصبح أمّة من المؤمنين بين العرب في مصر وفي فلسطين وفي لبنان وفي السودان وفي سورية وفي العراق... في حين لازالت واقعة صلبه تهمة يحملها العبرانيّ على أكتافه عبر القرون.
علما بأنّ الكنعانيّ هو سابق حتى لإسماعيل الذي لو صدّقنا التوراة المحرّفة لوجدناه هو «الآخر صاحب حق في فلسطين كونه من نسل ابراهيم حتى ولو كان ابن جارية فرعونيّة مصريّة اسمها «هاجر» كما يقدح فيه الصهاينة، فمادام الإله يهوه حين كلّم ابراهيم في التوراة المحرّفة خاطبه قائلا:
«لك ولنسلك أهدي هذه الأرض»...
فبأيّ حقّ اذن يحرم اسماعيل (وهو الابن البكر فوق ذلك) من الميراث؟ هذا كلّه اذا جارينا الصّهاينة في مزاعمهم، في الأصل فبأيّ حقّ يعمد العابرون لأرض وجدوها مسكونة الى طرد سكانها الكنعانيين ليحلّوا محلّهم فيها؟
إنّ مجرّد تذكيرهم بأنّهم عابرون، أمر يثير حفيظتهم.
لذلك تغضب المؤسسة الصهيونية بطمّ طميمها من مجرّد شاعر مهما كان عظيما، ومهما كان اسمه محمود درويش لا لأنّه يحمل سلاحا رشاشا أو يلبس حزاما ناسفا أو قام بإطلاق صاروخ على «مستوطنة» ولكن لأنّه ذكّر فقط في إحدى قصائده بأنّ الصهاينة مجرّد عابرين (ومن ذلك اسمهم كبعرانيين). وبأنّ المطلوب منهم ماداموا لا يريدون التعايش مع من سبقهم في الأرض بل يعملون على طرده والحلول محلّه... أن يرحلوا عن الجرح وعن الملح وعن القمح... بل وان يخرجوا حتى من ثنايا الذّاكرة.
يعرف الصهاينة بصفتهم على درجة عالية من الثقافة، وبصفتهم مغرمين بالتّدوين وبصفتهم شاهدين على الوقائع كونهم عايشوها، ان الغزاة الذين تعاقبوا على الأرض العربيّة قد تمّ استيعابهم حين رضوا بذلك الاستيعاب، أو تمّت مقاومتهم حتّى إجبارهم على الخروج مهما طال مقامهم.
فهم يعرفون أنّ أجدادهم القدامى وبعد ان تفنّن أحدهم ويدعى «يوشع» في ذبح الكنعانيين، وبعد أن أقاموا على أرضهم دولة اسموها «اسرائيل» انقسمت فيما بعد الى دولتي «يهودا» و»سامره» (ولكل دولة توراتها بالمناسبة)... قد تزلزلت الأرض تحت أقدامهم لما جاءهم نبوخذ نصر العراقي يحاسبهم بجريرتهم ويجبرهم على الشتات المرير.
كما يعرفون مصير التتار والمغول الذين عاثوا فسادا في بغداد، فلم تبق لهم غير اللعنة أمام التاريخ.
كما يعرفون مصير الصليبيين الذين حملوا الحملة بعد الأخرى وحوّلوا في حقدهم الأعمى بعض جوانب الأقصى الى خمارات واسطبلات للخيول فما ان نهض لهم الأكرد (صلاح الدين كرديّ كما يعرف الجميع) والعرب الدائنون بالمسيح والعرب الدائنون بالإسلام حتى رجعوا على أعقابهم خائبين.
هم يعرفون اذن أنّه هناك نبوخذ نصّره وهناك دائما صلاح الدين.. كما هناك دائما أمّة عربيّة تمتد حضاراتها المتعدّدة من الحميريّة والبابليّة الى العربية الاسلامية والى سبعة آلاف عام.. وقد يتهاوى أهلها الى الحضيض بفعل عوامل الإنتكاس الداخلي، وقد تتسلّط عليهم العاديات الخارجية.. ولكنهم ينتفضون دوما ويثورون ويهبون وينهضون للعمل وللبناء من جديد.
فماذا سيفعل هؤلاء العابرون الذين أقاموا لهم في القرن العشرين دويلة مدجّجة بالسلاح وبالحقد ورفضوا ان تستوعبهم الأرض في دولة علمانيّة وديمقراطية يتمتعون فيها الى جانب العرب بنفس الحقوق ويخضعون فيها لنفس الواجبات... وهو عرض طالما عرض عليهم؟ فماذا سيفعلون بعد أن نصّبوا أنفسهم جيرانا لجميع سكان المنطقة ثم تسلطوا عليهم بالصلب وبالعجرفة وهو أمر وقف عليه حتّى أحد كتّابهم ويدعى عوزي بن زيمان؟
ماذا سيفعلون وهم الذين يتمسكون ببناء دولة يهوديّة نقيّة لا يهمّهم أن كان سكّانها من «الفلاشا» الأثيوبيين أو من «السيفارديم» الذين عاشوا من قبل هانئين بمختلف المجتمعات العربية، أو من «الاشكناز» القادمين من أوروبا أو حتى من الروس الوافدين بعد سقوط ما بقي من الاتحاد السوفياتي والذين لا يحمل بعضهم حتى علامة الختان التي جعلت منها التوراة المحرّفة رباطا يربط بين اليهود وبين إلههم «يهوه»، وهو رباط كان ناهضه السيد المسيح الذي اعتبر أنّ اللّه لا يمكن ان يكون لشعب واحد ولا يمكن ان يرتبط بأي رباط مع أيّ شعب.. لأنّه ببساطة إله النّاس أجمعين.. فلذلك حاكمه أعضاء السنهدرين في زمانه وأمروا بصلبه حسب أرجح الاحتمالات.
فكلّ من هبّ ودبّ من الغاصبين مقبول إذن في دويلة الصهاينة الاّ العربيّ صاحب الأرض مسيحيا كان أم مسلما وحتّى ولو كان من أهل الختان.
لذلك قال عنهم المناضل التونسي التقدّمي ذو الأصول اليهودية جورج عدّة: إنّهم عصابات لصوص لا أكثر ولا أقل قادمين من مختلف أصقاع الدنيا.
لقد رفض هؤلاء الصهاينة أن تكون لدويلتهم حدودا.. فهي الدولة الوحيدة التي لا حدود رسمية لها باعتبارهم لم يحصلوا بعد على كامل الأرض التي يزعمون ان «يهوه» قد وعدهم بها... فلذلك تراهم يحاولون إخضاع أرض النّيل بواسطة المعاهدات الظالمة والأموال الطائلة.. ولذلك تراهم يساهمون في التحريض على احتلال أرض الفرات... ولكنّهم وهم الذين لازالوا يرسمون على باب الكنيست عبارات: «أرضك يا إسرائيل من الفترات الى النّيل». قد أجبرتهم وقائع الصراع وبعد ستين عاما على الانكفاء الى رقعة جغرافيّة حدّدوها بجدارهم العنصري العازل... فما أبعدها عن اسرائيل الكبرى التي يحلمون بها!
إنّهم لا يستطيعون العيش على مايبدو إلاّ في المعازل (أي الغيتو).. تلك المعازل التي بنوها من قبل في جميع عواصم شتاتهم وضربوها ضربا حول خصوصياتهم.. وهاهم اليوم ينقلونها الى أرض أحلامهم التلموديّة التي يحاولون بناءها بكلّ ما أوتوا من العنف والخداع. فالحلم التلمودي الكبير قد انكشف اذن وبعد ستّين عاما عن معزل جديد وصغير.. فهاهنا عناصر مكتملة لتراجيديا من نوع غير مسبوق... لأنّه مادام الصهيوني ينكر على الفلسطيني حقّه في العودة وفي الحرية وفي العيش الكريم. ومادام الفلسطيني يقاومه ويفرض عليه الانكفاء ويمنعه من تحقيق الحلم الذي جاء لتحقيقه على حسابه، فإنّ الصراع لا يمكن أبدا أن يكون مجرّد صراع على الحدود، بل يصبح وبالضرورة صراعا من أجل الوجود.
فكيف سيتّقي الصهاينة إذن هبّات التمرّد المشروعة للإنسان الفلسطيني الذي من حقّه ومن واجبه ان يثبت وبكلّ الطرق وجوده مادام الآخر ينفي هذا الوجود؟
إنّ حلم الدولة اليهودية هو إمعان في التقوقع داخل أضيق الحدود وأكثرها وهميّة يحار العقل البشري أمام هذه المجموعة الانسانية التي حققت حتى في شتاتها كافة أسباب القوة الممكنة اذ كانت في مختلف عواصم تواجدها جزءا من النخب الفكريّة والاقتصادية والسياسية أكان ذلك في نيويورك أم في باريس أم في الدّار البيضاء أم في لندن أم في برلين... ولكن طليعتها (؟) المتمسكة بالتعاليم التملوديّة وبالتوراة المحرّفة تنساق وراء أشد نوازع تدمير الذات، فهي بنفيها لوجود الفلسطينيّ تجبره على أن ينفي وجودها، وهي بمحاولة إبادته تجبره على أن يحاول هو الآخر إبادتها، وهي برفضها للدولة العلمانيّة والديمقراطية التي تستوجب والحق يقال تخلّيها عن عنجهيتها وغطرستها تجعل وبالضرورة من التعاليم العنصرية الصهيونية ومن الدولة اليهودية النقيّة آخر معزل من معازلها.
انّ المعزل الصهيوني المراد بناؤه لا يمكن ان يقدّم حلاّ للتناقضات الداخلية بين الاشكناز الأوروبيين الماسكين بمراكز النفوذ في الكيان وبين أجوارهم السيفارديم الشاعرين بوطأة القمع المسلّط عليهم أو الفلاشا الموضوعين في حضيض التراتبيّة الاجتماعية، فضلا عن فلول القادمين من دول ما كان يسمّى بالمعسكر الاشتراكيّ والمتّهمين من قبل من سبقوهم بأنّهم تحرّكهم رغبة المغامرة وتحقيق الثروة أكثر ممّا تحرّكهم التعاليم الدينيّة... فكيف يمكن لمثل هذا المعزل ان ينتج فكرا ديمقراطيا حقيقيّا؟
ألم ينكشف زيف هذه الديمقراطية التي يتبجّحون بها بالتهديدات المسلطة على عرب ال 48، وهي تهديدات لم تراع حتى حقوقهم النظرية بصفتهم يحملون ولو غصبا عنهم جنسية من المفروض منطقيّا ان تعطيهم نفس الحقوق المتاحة في القانون لغيرهم؟
فأيّ منطق ديمقراطيّ هذا الذي يتيح مجرّد التفكير في طردهم بصورة جماعيّة؟ ألاّ يكشف هذا عن بؤس حقيقيّ يعانون منه بصفتهم «مواطنين» من درجة دنيا؟
كيف يمكن إذن لمثل هذا الفكر الانكفائي وغير الديمقراطي والمبنيّ على الأساطير والمدجج بمشاعر العداء للآخر أن يحلّ تناقضاته مع سكان الضفة الغربية ومع سكان غزة ومع سكان الجنوب اللبناني ومع سوريا ومع مصر ومع الأردن ومع العراق ومع الأمة العربية وحلفائها من الأمم الدائنة بالإسلام ومن الشعوب التقدميّة.. وخاصة أمام تنامي التقنيات الصاروخيّة التي بإمكانها ان تحوّل أي جدار عازل الى كتلة من الأوهام الإسمنتية التي لا طائل من ورائها؟ فإذا أضفنا الى ذلك أنّ المركز الحضاري الأورو أمريكي الذي أعطى للصهيونية بعض أسباب قوتها من خلال الارتباط المعلن بين التقاليد اليهودية والمسيحية على حدّ العبارة التي استعملها ذات يوم كولن باول لما كان يشغل خطة وزير خارجية أمريكا. قلنا اذا أضفنا أنّ المركز الحضاري المذكور يمكن ان يتقهقر لفائدة مراكز حضاريةجديدة مثل الصين أو الهند، ما لا يمكن ان يوفّر للصهيونية نفس الدعم كائنا ما كانت قوتها المالية والتنظيمية الممتدة عبر أنحاء الأرض.. فإنّ الآفاق تبدو مظلمة وتشتّم منها روائح إبادة الآخر.. وروائح الانتحار الذاتي.. فهل هذه آفاق تستحق الرّهان؟
لقد ساهم اليهود من خلال ابن جلدتهم سيغموند فرويد في انتاج مدرسة التحليل النفسيّ، فأين هو فرويد ليحاول إنقاذ قومه الذين كثيرا ما انتقدهم في كتاباته من تنامي نزعة التدمير الذاتي لديهم ومن تعاظم نزعة نفي الآخر ومحاولة إبادته؟
وأين حكماء ناطورا كارطا وهم يهود يعترفون بحق الفلسطيني على أرضه ويرغبون في التعايش مع العرب كما كان الأمر زمن العهدة العمريّة.. لينهضوا ضدّ هذا الهراء الصهيونيّ الجالب للجريمة وللعار؟
وأين هو اليهوديّ الودود البسيط الذي عاش رغم بعض المشاكل من هنا أو من هناك في انسجام نسبيّ مع بقيّة السكان في مختلف المدن العربيّة والذي يمثّله الى اليوم بمدينة تونس مناضل شريف اسمه جورج عدّة عرف المنافي دفاعا عن تونس ضدّ الاستعمار المباشر الفرنسيّ، وشوهد وهو يتحدّى ضعفه البدنيّ وقد جاوز الثمانين من العمر ليساهم في مسيرة الفعاليّات التونسية المناهضة للعدوان على لبنان في تموز 6002؟
بل وأين هو تيودور هرتزل كي يتوب عن فكرته ويعود الى نفسه كمجرّد صحفيّ ومفكّر نمساوي قبل أن يتلقى أموال المرابي روتشيلد وذلك لكي ينادي من جديد بحلّ المسألة اليهودية من خلال ادماج اليهود بمختلف البلدان التي يعيشون فيها كمواطنين لهم من الحقوق ما لغيرهم لا أكثر ولا أقل وعليهم من الواجبات ما على غيرهم؟
ألم يكن الاشتراكي الألمانيّ كارل ماركس صادقا تمام الصدق حين أعلن ما معناه: «إنّ تحرير المجتمع الانسانيّ وتحرير اليهوديّ في نطاق ذلك لا يمكن أن يتمّ بدون التحرّر من اليهودية العملية» وهذه العبارة الأخيرة اذ ربطها بالمضاربة وبالمال وما ينتج عنهما من انحرافات، فإنّه جعلها قريبة جدّا من عبارة الصهيونيّة في المعجم الاصطلاحيّ المعاصر؟
لكن في انتظار ان يقوم هرتزل ويعلن توبته عن فكرة الدولة اليهوديّة أمام الآفاق المظلمة التي تبدوا من خلالها واقعيا، وفي انتظار أن ينهض فرويد ويقوم بواجبه كمعالج نفسانيّ. وفي انتظار ان ينتصر اليهود العاديّون من أمثال حكماء ناطورا كارطا والمناضل التونسيّ التقدميّ جورج عدّة على عنصريّة الفكر الصهيونيّ.
وفي انتظار أن تقرأ كلمات الاشتراكيّ الألماني كارل ماركس في سياق صحيح... وفي انتظار أن ينسحب المرابي شايلوك من المسرح ليترك مكانه للمنطق وللفكر... فإنّه لا خيار استراتيجي أمام الفلسطيني وأمام العربي عموما الاّ المقاومة.. فلا صوت يجب أن يعلو فوق صوتها الذي من الواجب ان يكون متمسّكا بالثوابت. حازما في الدفاع عنها، متسما بالعقلانيّة، قادرا تكتيكيا على استغلال كافة التناقضات في صفّ الصهاينة، وواعيا بكل المخاطر، وجيّاشا فوق ذلك كلّه بحب الانسان وبإحترام القيم النبيلة التي راكمتها عبر مسيرة التاريخ كل الشعوب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.