ربما تكون النفس البشرية اكثر احتقانا بعد اشهر الصيف الثقيلة... ربما تجنح الروح الى التحليق ومراكمة النزوات... أو لعلها الطبيعة ذاتها هي التي تسأم وَهَنََ الحراك خلال قيظ الصيف... فتستعيد الروح والنفس والطبيعة عنفوانها حالما تهل طلائع شهر ايلول... فتتقد الرغبات وتتأجح الفتن وكأن سُبات الصيف كان حلما... أيلول / سبتمبر شهر طويل... طويل بثقل هوائه ورطوبته... ثقيل بتراكم الهواجس فيه... ثقيل بذاكرته المرعبة... أيلول / سبتمبر شهر تكثر فيه تطلعات الانتحاريين الى النهايات وتزدهي خلاله قصائد الموت وتجنح فيه الاحزان للثورة... تتفاقم اسئلة الوجود والعبث، ايلول سبتمبر هو «مآلُنا والشجن... فهل ننسى ونصالح الخاطر والذاكرة؟ رعب الاحداث القرن الماضي يوشك على الانتصاف والعالم يلملم جراجه بعد الحرب العالمية الاولى واذ بشهر أيلول يفتتح أيامه الاولى بتوثب ألماني تحوّل الى هجوم على بولندا كان شرارة اندلاع الحرب الكونية الثانية.. هذه الحرب التي سيعمّ خرابها كل الارض التي سيشهد سكانها سنوات طوال وعجاف إذ ما كادت احلام العالم العربي تتوحد نحو فكرة التحرر وكسر نير العبودية والاستعمار وهبوب الشعوب نحو تقرير مصيرها ورسم وحدتها في خمسينيات القرن العشرين حتى كشّر لها العالم الآخر عن أنيابه واستهدف أحلامها في المهد رضيعة، فإنفكت عُرى الوحدة العربية بين مصر وسوريا يوم 28 سبتمبر من سنة 1961 وهو ذات التاريخ الذي خسر فيه أحرار العالم القائد جمال عبد الناصر بطريقة غامضة من سنة 1970، وهوأيضا ذات الشهر الذي أباد خلاله الجيش الاردني مختلف فصائل المقاومة الفلسطينية في أراضي المملكة من نفس السنة... وفي قيظ ايلول و ثقله طالعتنا مصر رمز العروبة بأولى اجتماعات الرئيس انور السادات مع مناحيم بيغن في 7 سبتمبر 1978 للاعداد لإمضاء اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني التي حدثت فعلا وتم امضاء معاهدتها في ذات الشهر وذات السنة وتحديدا يوم 17 سبتمبر 1978... لتبدأ النكسات الجديدة تباعا: فها هي بيروت تحاصر وها هي الاحزاب والطوائف اللبنانية تقتتل في مشهد درامي تصاعدت أحداثه لتبلغ بعدها الدرامي الاوفى خلال شهر سبتمبر 1982 وتحديدا في السادس عشر منه من خلال مجزرة مخزية ذُبّح خلالها الفلسطينيون في مخيمي صبرا وشاتيلا على يد المليشيات المارونية بقيادة «إيلي حبيقة» وتحت اشراف حزب الكتائب وبمباركة الجيش الصهيوني تحت إمرة أريال شارون الذي انسجمت جرائمه كثيرا مع شهر سبتمبر / أيلول إذ تراه يدنّس أرض المسجد الاقصى وهو رئيس للوزراء في «دولة اسرائيل» يوم 28 سبتمبر سنة 2001 مما أوقد انتفاضة شعبية ثانية في الاراضي الفلسطينية ذهب ضحيتها مزيد من الفلسطينيين لم ينتبه لهم العالم كثيرا لأنه كان يعيش على وقع احداث الحادي عشر من سبتمبر من نفس السنة، تلك الاحداث التي ستكون سببا في سيل من الوبال والنكبات الجديدة على العالم العربي اذ تعمقت جراح فلسطين وتدعّم جدار الفصل العنصري في أراضيها واحتلت بغداد وأزيح نظامها الحاكم وأعدم رئيسها ونهبت خيراتها واستزفت مقدّراتها... لا يخلف وعده قط وها هو شهر سبتمبر من سنة 2009 يختتم مروره بديارنا بسيول جارفة من المياه الطوفانية طمرت قرية من الجنوب الغربي التونسي وهي المطمورة أصلا بالجوع وأغرقت من الحرث والنسل ما تيسّر وعادت لقواعدها سالمة، وها هو سبتمبر العظيم من سنة 2009 يوشح مروره ايضا باعتداء جديد على المسجد الاقصى حصد عشرات الجرحى من الفلسطينيين يوم السابع والعشرين منه... فهلاّ يكون «أيلول إلا أقسى الشهور؟».