ولد محمد الفاضل بن محمد الطاهر (2) بن محمد بن عاشور يوم ثاني عيد الفطر المبارك من سنة 1327 ه الموافق ل 16 أكتوبر 1909 م بضاحية المرسى من تونس العاصمة التي نشأ بها وشبّ في أحضان العزّ والمجد العلمي المتوارث في آل عاشور بالعاصمة حارة نهج الباشا حسب شهادة زميله الشيخ محمّد شمّام في (أعلام الزيتونة) ص 284 ط 1996 م ثمّ تعلّم بتوسع في امعها الأعظم جامع الزيتونة الذي كان يعجّ بالطلبة والمدرسين في قلب المدينة العتيقة وسط أسواقها البلدية المسقوفة، وحصّل من تلك المنارة وأبرز شيوخها الأعلام شهادة التطويع التي صبحت فيما بعد (التحصيل) في إنهاء التعليم الثانوي الزيتوني عام 1928 م والتحق بتعليمها العالي لنيل شهادة (العالميّة) المنظرة بالإجازة في علوم اللغة والدين مع ما عنده من نبوغ فطري ومواهب متعدّدة ممّا جعله يتبوأ الصدارة وينجح بإمتياز في تخرّجه وحين انتصب للتدريس بصفة معاون ثمّ مدرّس من الطبقة الثانية (أستاذ مساعد) ثمّ مدرّس من الطبقة الأولى (أستاذ مجاز) ابتداء من عام 1935 وكان المعروف عنه طيلة مباشرته التدريس بالزيتونة والصادقية حبّه العميق للتعليم وأهله، يحنو على الطلبة ويحادثهم ويؤكد لهم شغفه بالعلم وأهله في كنف الإنضباط الكامل والعناية والدقة في البحث والعمل.. فتخرّجت على يديه أجيال وأجيال من الشباب الصالح والعامل لخير الأمة والبلاد سواء على المستوى الثانوي بالزيتونة والصادقية أو العالي بمركز البحوث الإسلامية في الخلدونيّة أو المعهد الأعلى للحقوق وكليّة الشريعة وأصول الدين حتى أضحى علما بارزا وفارسا لا يضاهى في الإبداع الأدبي والخطابة والإحاطة بما لم يحط به غيره من فقه الشريعة وفقه اللغة وتراجم الأعلام وتدقيق البحث والنظر العلمي ناهيك بأنّه عاد رجل المؤتمرات الدوليّة والندوات المحليّة والاجتماعات التأسيسية المهمّة.. بدأت مشاركاته في الأنشطة الفكريّة والاجتماعية منذ سنة 1928 في الجمعيات الخيريّة الأهليّة والنوادي الأدبية كنادي قدماء الصادقية وجمعيّة الخلدونيّة التي قدّم أوّل محاضرة له على منبرها بعنوان: (القاضي الفاضل) وكانت محلّ اعجاب الجميع بما وهب اللّه له من ذلاقة اللسان وفصاحة البيان وحافظة قويّة متينة وبفضل التكوين الأصيل على يد والده المربي الكبير والإمام العبقري الطاهر بن عاشور برّد اللّه ثراه وجعل الجنة مأواه، ثمّ مساهمته في مؤتمر طلبة شمال افريقيا الذي نظّمه طلاب العلم بالداخل والخارج من أقطار المغرب العربي، وكانت مداخلته مركزة على الدفاع عن تعليم المرأة.. ووجوب تطوير التعليم الأصلي بكل من الزيتونة في تونس والقرويين بالمغرب وقد لفت نظر الملاحظين بقوّة عارضته ووضوح حجّته واقناعه، واستمرّ كذلك في كلّ أنشطته الفكرية والاجتماعية وفي مجلسه الأسبوعي بعد الظهر من كلّ يوم جمعة ابتداء من 1936 يلقتي فيه بخلانه وأصفيائه من مدرسين شيوخ وقضاة حاكمين وخاصّة أسرة (المجلة الزيتونية) التي له فيها مساهمات مشكورة، وعندما تأسست الاذاعة التونسية 1938 كان يشرف على قسمها العربي الأستاذ المرحوم عثمان العكاك الذي إلتمس من الشيخ الاسهام في اثراء برامجها.. فاختار يوم الاربعاء ليكون مناسبة أسبوعية لأحاديثه التي كان يتناول فيها تراجم الاعلام قديما وحديثا وجوانب من الحضارة في افريقية ومواضيع اجتماعية مختلفة.. وعاشت البلاد عامّة مصائب الحرب الكونيّة الثانيّة ودخلت من جديد تحت الحكم العسكري المباشر منذ حوادث 9 أفريل 1938 وتملك القلوب الذعر والهلع وهرع الناس (في العاصمة والمدن) الى الدواخل بعيدا عن أخطار الحرب والبحر وبإنتصار القوّات المتحالفة هدأت الحالة وبدأت الحياة الفكريّة من صحف ومجلات ونشاط نوادي تستردّ نشاطها فظهرت مجلّة «الثريا» ثمّ مجلّة «المباحث» في سلسلتها الجديدة واحتلّ منهما ركن التراجم وركّز بالخصوص على ابراز أهميّة ومكانة العلاّمة عبد الرحمان ابن خلدون وما قام به في المشرق والمغرب، وما ان انفتح الطريق الى بلاد الشرق والحجاز بالذات حتى طار في شهر نوفمبر 1944 الى البقاع المقدّسة لأداء الركن الخامس في الإسلام عبر مصر التي شهدت ميلاد الجامعة العربيّة (3 سبتمبر 1944) فاستولت على محطّ آمال العروبة في النهضة والتحرّر.. وما أن عاد من فريضة الحجّ حتى تولّى رئاسة الجمعية الخلدونيّة خلفا للأستاذ عبد الرحمان الكعاك المتوفى 1945 وفي مجالها الرّحب اندفع بإحساس الغيرة على الشخصيّة التونسيّة واحياء مقوّمات العروبة والاسلام في الأمّة وتلك هي المسألة الأساسية المستهدفة من سياسة المستعمر الذي بسط لغته على ادارة البلاد وتعليمها المدني وسائر مظاهر الحياة فكانت الخلدونيّة على يديه ميدان عمل نشيط ومجالا خصبا لتغذيّة الإحساس القومي وتعبئة قوى الأمّة العاملة بمختلف شرائحها ضدّ هجمة المستعمرّ الذي عاد مزهوا بإنتصاره العسكري في الحرب العالمية الثانية. وفي 20 جانفي 1946 التأم لقاء تاريخي مشهود ضمّ نقابات العمّال التونسيين على اختلاف مشاربهم وتكوّن بقاعة الخلدونيّة في سوق العطّارين مؤتمر تأسيسي مهمّ أشرف على جلسته التاريخية الشيخ الفاضل بن عاشور الى جانب الزعيم المحبوب فرحات حشاد (المغتال في 5 ديسمبر 1952) وأسفر ذلك الاجتماع عن بعث الاتحاد العام التونسي للشغل كمنظمة قوميّة عامة تنضوي تحتها كلّ النقابات العاملة والمستقلّة يرأسه الشيخ الفاضل والكاتب العام فرحات حشاد. وفي مدينة صفاقس في شهر مارس 1936 استهلّ خطابه المرتجل في افتتاح دار الاتحاد بتبديد الاستغراب من أن يتولّى رجل دين معمّم أمر اجتماع نقابي يهدف لتوحيد نضال العمّال وتنظيم مسيرتهم مؤكّدا أنّ الشريعة الاسلامية قد أزالت كلّ معاني الفرقة لتجسيم وحدة الأمّة وربط صفوفها في مواجهة الأخطار المهدّدة لكيانها والمدمّرة لمقوّماتها وفي هذا الجو المفعم بالحماس الوطني الفياض الرّامي للتحرّر والإنعتاق انعقد مؤتمر الحزب الحرّ الدستوري في 26 رمضان 1365 ه و23 أوت 1946 المعروف بمؤتمر ليلة القدر الذي تمخّض عن امضاء عريضة حرّر فصولها الشيخ الفاضل لأنّه يرى كغيره من روّاد الرعيل الأول أنّ السياسة جزء لا يتجزأ من الثقافة العامة وفي العريضة يطالب المؤتمرون باستقلال البلاد وخروج القوّات الأجنبيّة منها لتمكينها من الإنضمام الى الجامعة العربيّة ومنظمة الأممالمتحدة.. وأثناء ذلك داهمتهم قوّات البوليس الفرنسي واعتقلوا البارزين فيهم وزجّ بهم في السجن وفي مقدّمتهم الشيخ الفاضل فأضرب التجّار والصناع والعمّال والموظفون عن العمل وتخلّى الناس عن اتخاذ مظاهر الزينة يوم عيد الفطر. كما ألغى الباي تنظيم موكب المعايدة الرسمي وعمّ الأسى والحزن كافة الشعب التونسي الى أن أفرج عنهم تباعا ابتداء من 31 أوت 1946 وفي 1947 طفت ملابسات القضيّة الفلسطينية على السطح وأصبحت حديث الغلام والرائح، وكعادته في تقصّي الأمور وتدقيق الأحداث قد تناول هذه القضيّة بعنوان «فلسطين الوطن القومي للعرب» وقدّمها في أربع محاضرات متتالية (من 17 ديسمبر 1947 الى 7 أفريل 1948) ومضى كذلك محاضرا ومناضلا وطنيا وقوميا، وهو الى حياة الدرس والبحث للتعمّق في استجلاء التراث العلمي الإسلامي أميل فقرّر المشاركة صحبة والده والأستاذ المؤرّخ حسن حسني عبد الوهاب في مؤتمر المستشرقين بأسطنبول سنة 1951 الذي ألقى فيه محاضرة بالفرنسيّة عن ابن حزم الأندلسي وأعماله الاجتهاديّة وما خفي من كتبه ترجمها الى العربيّة ونشرت في المجلة الزيتونيّة في الجزأين الأول والثالث من المجلّد الثامن 1952 و1953.. وتسارعت الأحداث والأيّام وأمكن للشعب التونسي أن يجني ثمار جهاده في الاستقلال الذاتي ثمّ التام 1956 واستوجب ذلك توحيد القضاء التونسي وإلغاء المحكمة الشرعية المختصة وادماج حكّامها في محاكم الحق العام بالعاصمة والدواخل وفي هذه الأثناء سمّي الشيخ الفاضل رئيس دائرة بمحكمة التعقيب للنظر في كافة القضايا الشرعيّة والمدنيّة الصادرة فيها أحكام مسبقة واستطاع بفضل حنكته أن يمسك بزمام أمورها ويسير بها الى شاطئ النجاة طيلة خمس سنوات تولّى بعدها عمادة كليّة الشريعة وأصول الدين ثمّ مفتي الجمهورية الى جانب العضويّة بمجمع اللغة العربيّة بالقاهرة ولم يدّخر جهده لخدمة التراث العربي الاسلامي داخل تونس وخارجها حيث ساهم في تأسيس رابطة العالم الاسلامي وهو لا يفتر عن النشاط الفكري الديني والاجتماعي ضمن مهام عمادة الكليّة ودار الإفتاء الشرعي الى أن ألمّ به مرض عضال أنهك قواه وأكل جسمه فبدت عليه علامات السقم والهزال واضحة خاصّة اثر عودته من القاهرة في جانفي 1970 فأبى والده رغم تقدّمه في السن الاّ أن يصاحبه الى فرنسا شهر فيفري 1970 حيث أجريت له فحوص طبيّة وعمليّة جراحيّة باءت بالفشل في تحقيق معافاته من داء السرطان الذي أصاب الكبد والطحال فأرجع الى أسرته حيث بقي صابرا يعاني الألم والهزال الى أن توفاه اللّه مساء يوم الاثنين 20 أفريل 1970 فاهتزّت لفاجعة موته جميع الأوساط التونسية والاسلامية وشيّع جثمانه الى مثواه الأخيرة بمقبرة الزلاج بتونس العاصمة في موكب رهيب خاشع احتشدت فيه جماهير غفيرة وحضرته وفود اسلامية يتقدّمها ويؤمها للصلاة على الفقيد والده الشيخ الوقور ولسان حاله يقول: «وتجلّدي للشامتين أريهم أنّي لريب الدّهر لا أتزعزع» وحضر الموكب يوم 22 أفريل 1970 الوزير الأول وأعضاء الحكومة وأفراد أسرة الفقيد وأبّنه قبل دفنه وزير التربية والتعليم حيث أشاد بخصاله العلميّة والتربويّة ونضاله المتنوّع على الصعيدين الفكري الاسلامي والإجتماعي النقابي رحم اللّه شيخنا وأستاذنا الجليل ابن تونس البار وانّا للّه وإنّا إليه راجعون والمجد والخلود للوطن التونسي الأم ورجاله العاملين بصدق والذائدين عن مقدّساته في وجه كلّ التحديات وعاشت المنظمة العتيدة التي رأسها الفقيد ووضعها على السكة الصحيحة وما كان للّه دام واتصل. ملاحظة: اعتذر وأعترف بالفضل للأستاذين الكريمين: المختار بن أحمد عمّار والشيخ محمود شمام حيث اعتمدت كلّيا في هذا العمل على كتابيهما: 1) الشيخ محمد الفاضل بن عاشور حياته وفكره ط 1 1985 2) أعلام الزيتونة ط 1996