رأى جهاد الزين في تعقيبه على إعلان الرئيس محمود عباس عزوفه عن الترشح في الانتخابات، أنّ الرئيس عباس مات من الناحية السياسية مرتين، الأولى عندما رفضت إدارة بوش نتائج انتخابات (2006)، ما أدى إلى انشقاق جيوسياسي في الحركة الفلسطينية، والثانية عندما رفضت إسرائيل تجميد الاستيطان، ما أفقد المفاوضات أي أساس جدي من الموقع الفلسطيني. وبرأيه فإن »ما هو أخطر من الموت السياسي للرئيس الفلسطيني مرتين، هو الموت السياسي الذي بات يتهدد بنيويا المشروع الوطني كما ارتسم وتطور منذ السبعينات«، والمتلخص بمشروع الدولة المستقلة (في الضفة والقطاع). في هذا الإطار أجدني متفقا مع ماذهب إليه الزين في هذا المجال إلا إنني اختلف معه بعدم تمييزه بين موت أبو مازن السياسي وبين موت المشروع الوطني. وأعتقد بأن إطلاق مصطلح »موت« على المشروع الوطني، ينبني على تعجل واطلاقية ويقينية، لم أعرف عن الزميل جهاد ميلا لها. في المقابل فإنني أعتقد بإمكان توصيف الوضع الفلسطيني الراهن بكلمات مثل: إخفاق، اهتراء، انهيار، تفكّك، لأن هذه المصطلحات تفضي إلى مصطلح »التحول«، التي تتمثلها أو التي تعيش إرهاصاتها، الساحة الفلسطينية. وأعتقد أن الكاتب يتفق معي في ذلك، كونه استدرك الأمر في مقالته باعتباره (في الفقرة ثالثا) أن التجارب منذ عام 1948 أظهرت »انه بعد كل مرحلة انسداد نوعي في برنامج النضال الفلسطيني، تحدث تفاعلات داخلية وفي الشتات تؤدي إلى أوضاع قادرة على خلق أشكال نضالية جديدة«. وهذا الاختلاف ناجم عن اقتناع مفاده أنه من الصعب توقّع موت المشروع الوطني الفلسطيني (لأسباب كثيرة وقوية لا مجال لذكرها الآن، وهي ليست أسبابا فلسطينية فقط). وناجم أيضا عن وجهة نظر تعتقد ان المشروع الوطني لاسيما مع قيام الكيان الفلسطيني وفق اتفاق اوسلو1993، يشهد نوعين من العمليات: العملية الأولى، وتتمثل بتفكّك المشروع الوطني، بكل تعبيراته بشعاراته وإطاراته وأشكال عمله، والثانية، تتمثل بعمليات تحوّل هذا المشروع، وهو تحوّل يطاول، أيضا، بنى المشروع الوطني وشعاراته وأشكال عمله؛ وهذا ما سأعود إليه لاحقا. أما بالنسبة لاختلافي مع الكاتب بشأن عدم التمييز بين الموت السياسي لشخص أبو مازن وموت المشروع الوطني) مشروع الدولة، فذلك اعتقادا مني بأن المشروع المذكور ولد من الأساس معوّقا (من الناحيتين العقلية والجسدية) في عملية أوسلو (1993 ففي حينه، مثلا، تم تأجيل التقرير بمسألتي الاستيطان والقدس، ولم يجر تعريف أراضي الضفة والقطاع كأراض محتلة، وافتقر الاتفاق إلى تحديد الهدف النهائي، وكلها مسائل ذات صلة بإقامة دولة مستقلة في الضفة والقطاع) هذا دون أن نتحدث عن قضية اللاجئين، ودون ذكر إغفال الاستناد لمرجعية قانونية دولية). وفي معزل عن ترف المجادلة بهذا الموضوع فلدينا التجربة التي أكدت الثغرات الخطيرة التي احتواها اتفاق أوسلو، والتي أدت إلى تجويف هدف الدولة المستقلة. وأقصد من كل ذلك أن اتفاق أوسلو لم يتمثل تماما هدف الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، وهو وُقِّع في ظروف غير مواتية البتة، في حين أن الهدف المذكور كان طرح في ظرف التوازن الدولي السابق، وفي إطار التوافق العربي، وفي ظل ازدهار العمل الوطني، والوطنية الفلسطينية. ومعلوم أن اتفاق أوسلو عقد في ظل هيمنة الولاياتالمتحدة على النظام الدولي (بعد انهيار الاتحاد السوفياتي(، وفي ظروف تفكك التضامن العربي (بعد حرب الخليج الثانية)، وفي وضع كانت فيه منظمة التحرير ضعيفة جداً، وتواجه تحديات تجفيف مواردها وتقزيم دورها. وقد تبين في ما بعد أن هذا الاتفاق ساهم في تعويم الطبقة السياسية الفلسطينية السائدة، وأنه أخرجها من مأزقها، ولو بثمن الإجحاف المتضمن في الاتفاق المذكور بشأن القضية الوطنية. وبشكل أكثر تحديدا يمكن القول إنّ انهيار مفاوضات (كمب ديفيد(2أوت2000، حول قضايا الحل النهائي، والتي أدت إلى انتفاضة القيادة بزعامة ياسر عرفات على اتفاق أوسلو، ورد فعل الحكومة الإسرائيلية عليها وهي للعلم حكومة حزب العمل، وكل ما تبع ذلك من تداعيات نشهد عليها حتى الآن، هي كلها بيّنت استعصاء مشروع دولة مستقلة في الضفة والقطاع. وأقصد من ذلك أن »موت« أبو مازن السياسي لم يحدث الآن، وإذا كان ثمة ضرورة لمقاربة في هذا المجال فيمكن القول إنّ الأمر حصل بعد فشل مفاوضات »كمب ديفيد2«، أو بعد معاودة إسرائيل احتلال مناطق السلطة، وتقويضها اتفاق أوسلو وهو »موت« يطاول الطبقة السياسية الفلسطينية السائدة كلها، وكان اكبر تمثيل له هو موت عرفات الشخص، وموت مشروعه السياسي، في آن واحد (2004). أما بالنسبة لفكرتي عن التحوّل أو عن إرهاصات التحول، في المشروع الوطني، فيمكن إيجاد تعبيرات وتمثيلات عديدة لها، وهي بداهة ليست كلها على النحو الايجابي، فثمة تحولات سلبية أيضا. ومثلا، فإننا نشهد اليوم مرحلة من أفول الوطنية الفلسطينية، أو أفول الهوية الوطنية للفلسطينيين، بمعنى أننا بتنا أمام فلسطينيين كثر(إن جاز القول)، مع التأكيد على أهمية وحدة الشعب الفلسطيني وهويته. وكما هو معلوم فإن الحركة الوطنية كانت أغفلت مكانة فلسطينيي 1948 في إطار مشروعها الوطني، وهي لم تطرح برنامجا، ولا أشكال عمل، تستوعبهم وتستثمر جهدهم معها، كما لم تعمل من اجل صوغهم في إطار الهوية الوطنية الفلسطينية. بعد ذلك وبسبب تداعيات أحداث أيلول (1970) تم حرمان الحركة الوطنية من العمل في المملكة الأردنية، التي تضم غالبية اللاجئين الفلسطينيين، وإذا أخذنا في الاعتبار أن هؤلاء هم بمثابة أردنيين مواطنين، يمكننا أن نحسب التغيرات الحاصلة في ادراكاتهم لذواتهم، ولمصالحهم، وأولوياتهم، لاسيما في ظل انحسار المشروع الفلسطيني، من دون أن يعني ذلك انتقاصا من وطنيتهم. وقد تفاقمت تحديات تفكك الهوية الوطنية الفلسطينية مع قيام السلطة، حيث نجم عن ذلك، عن قصد أو من دونه، اختزال المشروع الوطني بمجرد إقامة دولة في الضفة والقطاع) وهو لايشمل إحقاق حقوق اللاجئين في العودة لوطنهم كونه مشروعاً تفاوضياً أصلا). لذلك فقد نجم عن هذا الاتفاق اختزال الفلسطينيين بفلسطينيي الضفة والقطاع. هكذا، مثلا، تم تهميش منظمة التحرير(بشكل مجاني)، وهي الكيان المعنوي الجامع للفلسطينيين، في أماكن تواجدهم كافة فضلا عن ذلك فإن السلطة، التي حلت محل المنظمة، في قيادة العمل الفلسطيني عمليا، لم تقم بما من شأنه إيجاد أشكال أو إطارات لاستيعاب الفلسطينيين في مناطق اللجوء والشتات، ولم تخلق أي نوع من الصلة معهم، بمعنى أنها قيدت المنظمة، ولم تقم بهذه المهمة بدلا منها هكذا مات مركز الأبحاث ومركز التخطيط واتحادات الطلاب والعمال والمرأة والكتاب والصحافيين والمهندسين.. الخ. وكما هو معلوم فإن الهويات الوطنية لاتنزل من السماء، وهي ليست قيماً مطلقة وأبدية، وإنما يتم صوغها بعمليات معقدة ورموز وإطارات مؤسسية ودولتية، وكانت منظمة التحرير تقوم بهذا الدور سابقا، ونجحت فيه، وجاء قيام السلطة، بالشكل الذي جاء عليه، ليضع حدا لذلك. هكذا، فنحن نشهد تحولا سلبيا في الهوية الوطنية، بمعنى أن الفلسطينيين باتوا يفتقدون الرموز والإطارات الجمعية، كما باتوا يفتقدون أساسا للمشروع الوطني الملهم والموحد، والذي يأخذ في الاعتبار تباينات ظروفهم ومصالحهم. والخلاصة ثمة تحول في طبيعة المشروع الفلسطيني وفي بناه وأشكال عمله. فالقوى الفلسطينية اليوم، على تبايناتها، تتصارع على السلطة، وقد تهمشت المنظمة وإطاراتها ومؤسساتها، لمصلحة الكيان الفلسطيني الناشئ في الضفة والقطاع، ولم يعد الكفاح المسلح عمود العمل الفلسطيني وبوتقته الصاهرة. مقابل هذه التحولات، وبغض النظر عن تقويمها، ثمة إرهاصات لتحولات أخرى ايجابية لحظها الزين في مادته، مؤكدا ان »من الصعب الآن رسمها لأنها لم تتبلور«. بمعنى آخر فمن رحم كل هذا الاهتراء والتآكل في المشروع الفلسطيني الراهن، ثمة ما يؤشر في عديد من التجمعات والنخب الفلسطينية، في الداخل والخارج، الى أن ثمة نوعاً من مراجعة جدّية ومسؤولة للتجربة الماضية، بما لها وماعليها، وهي مراجعة تؤسس للتحول نحو رسم ملامح مشروع وطني جديد يتأسس على فلسطين واحدة »ساحة واحدة«، بحسب الزين كعنوان موحد للفلسطينيين للنضال ضد استعمارية إسرائيل وعنصريتها وأصوليتها، في عناوين دولة تحررية ديموقراطية وعلمانية ثنائية القومية أو على شكل دولة مواطنين وهذا التحول يستدعي أشكال الكفاح في الانتفاضة الأولى (1987/1993)، ووسائل النضال العادلة والمشروعة، التي يبيحها القانون الدولي، والتي تساهم في تحوّل مماثل في المجتمع الإسرائيلي، والتي تجد تعاطفا ودعما في الرأي العام العالمي. وعلى كل فإن هذا التحول يحتاج إلى مزيد من التفاعلات الفلسطينية والعربية والدولية، والإسرائيلية أيضا. جهاد الزين: الرئيس محمود عباس الميت سياسياً مرتين »قضايا النهار« 7 نوفمبر 2009... وهذا الرد نشر اليوم 10 نوفمبر في النهار البيروتية.