لا يوجد بلد واحد في العالم لا يتذمّر مواطنوه علنا أو في لا وعيهم من تفشّي أفيون الدعارة بمختلف أصنافها في جسم المجتمعات، ضمن التذمّر العام والإقتراف العام لسلسلة طويلة من الجرائم والأوبئة الاجتماعية الشنيعة الأخرى... فالأفراد والمجموعات والشعوب في العالم، يجمع بينها توق بشري فطري وطبيعي للعيش ضمن مجتمعات سليمة ونقيّة مشدودة الى مجموعة من القيم البشرية والمدنية والأخلاقية الراقية، التي تدعّم انسانية الإنسان ورفعة عقله وطهارة جسمه وسلامته،، وفي التحليل الأخير، تحصّن المجتمعات البشرية من مؤشرات التصدّع والإنحطاط والإنهيار... ولقد أجمع أهل الفكر والمعرفة في العالم من الباحثين في علم الاجتماع وعلوم التربية وعلم النفس الاجتماعي على أنّ جريمة الدعارة تمثّل أشنع طعنة قاتلة في ظهر القيم الأخلاقية السامية المتوارثة عبر العصور: حيث أنّها تهدّد من الأساس بنيان النظام المدني والاجتماعي العام بتقطيع أوصاله وتمزيق نسيجه في جميع مكوّناته (منظومة التعليم والتربية مؤسسة العائلة خلايا البيئة الثالثة ومواقع المجتمع المدني...). فمِنَ اليسير أن يستحضر الجميع في هذا الصدد تحديدًا ما تعلّمتهُ وردّدته الأجيال العربية المتعاقبة من المقولة المأثورة الخالدة لأمير الشعراء أحمد شوقي حين صرّح: »إنّما الأُممُ الأخلاقُ ما بقيت، فإن هُمُ ذهبت أخلاقُهم ذهبوا«. جريمة ببصمات الرأسمالية: لقد ظلّت بعض الأصوات والأوساط تردّد طيلة قرون مضت بأنّ »الدعارة أقدم مهنة في العالم«، وذلك ليس إطلاقا بغاية تفسيرها وإدراجها ضمن سياقها الجدلي التاريخي، بل قصد تبرير وجودها بمعنى من المعاني... ... وبالرّغم من أنّ ظاهرة الدعارة تمثل وَبَاءً إجتماعيا قديما يعود إلى قرون من الزمن، فإنّ ماهو أكثر ثباتا ودقة من ذلك المعطى التاريخي المتحرّك، هو أنّه مع نشأة الرأسمالية في أطوارها الأولى، وتصاعد وتيرة تطورها وتنامي غطرستها على الصعيد العالمي، وسلطانها الإيديولوجي والإقتصادي والإجتماعي والسياسي مُمثّلا في الدولة الرأسمالية الحديثة، فإنّ العديد من الأمراض والأوبئة والجرائم الاجتماعية المتنوعة، قد وجدت في تربة الرأسمالية أرضا خصبة لتفشيها في العالم وتفاقمها أكثر من أيّ عهد مضى: ومن ضمن تلك الأوبئة بالذات: جريمة الدّعارة. وفي هذا الصّدد، ليس إطلاقا من باب المصادفة أن يقول الصهيوني النّازي »دافيد بن ريون« أحد أبرز أباطرة الصهيونية وأحد المؤسسين الأوائل للكيان الصهيوني في فلسطينالمحتلة، ضمن فقرة من مذكراته التي تمّت ترجمعها الى اللغة العربية في بيروت منذ سنوات.. يقول: »في حروبنا ضدّ العرب، لن نلتجئ إلى الأسلحة والطائرات فحسب... ذلك وحده لا يكفي... ينبغي على حلفائنا مساعدتنا على زرع بذرة الخمور والدعارة والخمول في التربة النفسية والإجتماعية والثقافية للعقل العربي بأجياله الحالية وأيضا أجياله اللاّحقة«. ... وفعلا، فإنّ قراءة موضوعية متكاملة للمشهد العام على صعيد الوطن العربي تحديدًا، تبوح صارخة أمام الجميع بأنّ مخطّطات الصهيونية لتخريب مقوّمات الذات العربية وتدمير قيمها الأصيلة، قد ذهبت أشواطا في تجسيمها على أرض الواقع الملموس، بما أنّ جميع البلدان العربية والاسلامية تنخرها بدرجات متفاوتة أورام الأمراض الاجتماعية، مثل المخدرات والدعارة العلنية والخفية والخمور والسّيدا والتهريب والاغتصاب والرشوة، وجميع أصناف الجريمة المنظمة التي يعرفها كلّ مواطن عربي من المحيط إلى الخليج العربي! ... ومن باب الحرص الشديد على ضرورة رفع الطّلاسم وتفنيد كلّ أنواع الأباطيل والفتاوي والمزاعم، فإنّه من الحيوي التأكيد على أنّ دفاتر التاريخ المعاصر وسجلاّته قد أثبتت بما لا يدع أيّ مجال للشك أو التشكيك، أنّ جميع هذه الأمراض والجرائم والأوبئة ليست إطلاقا من »بنات تطوّر العصر« مثلما تروّجه أبواق الدعاية الرأسمالية الاستعمارية وأذيالها السّفلة، بل إنّها قد وفدت مُعلّبة إلى المجتمعات العربية من بلدان الغرب الرأسمالي تحديدًا، ثمّ وجدت المناخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والنّفسي الملائم لانزراعها وتفاقمها وانتشارها، على غرار المشهد الاجتماعي العام في أوروبا وأمريكا وآسيا بالخصوص... ... وفي هذا السياق، تفيد إحصائيات حديثة نشرتها مؤخرا العديد من وسائل الاعلام العالمية، بأنّ أكبر ثلاث أسواق عالمية ضخمة تدُرُّ على أصحابها ثروات طائلة خيالية، هي على التوالي: تجارة الدعارة، وأنّه غالبا ما تكون هذه الأسواق الثلاثة في شركة عضوية مباشرة وغير مباشرة فيما بينها، وأنّ أباطرة تجارة المخدرات يعملون مع ثعابين أسواق الأسلحة وذئاب تجارة الدّعارة. تلوّث نفسي اجتماعي تتنزّل جريمة الدعارة في العالم وطيلة الثلاث قرون الأخيرة ضمن خانة الأوبئة الاجتماعية المُشينة، المُهينة للذات البشرية الطبيعية والخادشة للنّفوس السّليمة والمُذلّة للعقل السويّ. ... ولأنّها تمثّل سلوكا انحرافيا في منتهى الإنحطاط، فإنّ الرأسمالية العالمية قد هرعت لتثبيته أكثر وتشجيعه وتدعيم آلياته بجميع الوسائل المباشرة وغير المباشرة، ثم أقدمت على ترويجه وتسويقه (مثلما تسوّق الأسلحة والمخدرات) وتوسيع نطاقه عبر ترسانة ضخمة أخطبوطية من الوسائل والأساليب على أساس أنّه »مظهر من مظاهر الحرية« المزعومة المدمّرة... فالإيديولوجيا الرأسمالية الملوّثة قد أقدمت على قتل مقوّمات الحبّ البشري في قلوب النّاس في العالم بأسره، وشجّعت الدعارة بجميع أصنافها وأنواعها بصفتها النقيض المطلق للحبّ البشري: وضمن ذلك المنوال، يفرز المشهد الاجتماعي العام أنّه كلّما غاب الحبّ، تحضر الدعارة: فأغلب الذين يفشلون في الحبّ أو لا يؤمنون به إطلاقا، وأغلب الذين عقدوا زواجًا فاشلا وغير سليم، غالبا ما يلتجؤون إلى مستنقع الدعارة وأوكارها الملوثة وهم في حالة مدمّرة من البؤس العاطفي والتلوّث النّفسي المُستبطن، وهي الحالة نفسها التي تنسحب على الرجل والمرأة على حدّ السواء وبنفس الدرجة إجمالا: فإلقاء نظرة متأنية على سجّلات المؤسسات القضائية في العالم وأرشيفاتها ودفاترها اليومية، تفرز كشفا صارخا عن إتساع دائرة جريمة الدعارة بمختلف أصنافها وتلويناتها (التمعّش الخناء الخيانة الزوجية..) كما أنّ الإطلاع على أرشيفات مهنة المحاماة يضع أمامنا كشفا مفصّلا مماثلا عن توسّع مجال وباء الدعارة في جسم المشهد الإجتماعي العام في أغلب بلدان العالم، وعلى وجه الخصوص في البلدان التي هيمن عليها الأخطبوط الرأسمالي واستولى على مقدّراتها ونهب ثرواتها البشرية والطبيعية على حدّ السّواء. فالعديد من الباحثين والباحثات في مجال الصحافة والاعلام العالمية الجادّة والموضوعية أجمعوا في هذا الصدد على أنّ جريمة الدعارة تحديدًا (والجرائم الأخلاقية عموما) كانت في الإتحاد السوفياتي ما قبل حكم »خروتشاف«، لا تمثّل سوى حالات شاذة نادرة قاومتها بحزم شديد الدولة المركزية ومنعت إتساع دائرتها في الجسم الاجتماعي العام. كما أنّ نفس تلك الجريمة الوبائية كانت في العراق الشقيق ما قبل الغزو الامبريالي والاحتلال تمثّل في الوعي الفردي والجماعي عارًا شخصيا وعائليا موروثا، وفيروسًا اجتماعيا طالما حاصرته الدولة الوطنية آنذاك بحزم وصرامة عن طريق وسائل الاعلام والتحسيس والتوعية، وأيضا عبر التشريعات الجزائية والقانونية، إلى الحدّ الذي كانت معه جريمة الإغتصاب مثلا، تؤدّي مباشرة بمرتكبها إلى الحكم القضائي بالإعدام. »الثّالوث« الدّافع للجريمة الأخلاقية إنّ رصدًا موضوعيّا يقظًا للمشهد الاجتماعي العام في أغلب العواصم والمدن في العالم، وحتّى في بعض القرى والمداشر والأرياف (بما فيها البلدان العربية والاسلاميّة) يفرز ما تتناقله تارة في الخفاء وطورًا في العلن، أوساط الأغلبية الصامتة من الناس (نساءً ورجالاً وشيوخًا وحتّى الأطفال!) من أنّ جريمة الدعارة بمختلف تصنيفاتها، تشهد توسّعا مرعبا داخل الجسم الاجتماعي، بعد أن اكتسحت فئات جديدة وأعمارًا مختلفة، بل إنّها أضحت مجالا شبه علنيّ للتنافس والمنافسة المباشرة وغير المباشرة بين أباطرة الإنحراف وعصابات الجريمة المنظمة في أغلب بلدان العالم.. إلى المدى الذي أصبحت معه هذه المنافسة الإنحرافية تؤول في العديد من الحالات إلى التقاتل والمطاردات والعنف الدّموي، وغالبا ما تكون المرأة أو الفتاة أو الصبية اليافعة الضّحية المباشرة الأولى لكلّ ذلك. ... وإنّه من المفارقات المثيرة للنظر، أنّ بعض وسائل الاتصال تؤدّي مهمّة قذرة في تيسير اتساع دائرة جريمة الدعارة وزرع أوكارها، وتتحمّل مسؤولية كاملة في تفشّيها، حيث أنّها تشكّل ثالوثا متكاملا، على غرار »الكباريات الفضائية« والهاتف الجوّال والسيارة، وهو الثالوث الذي على مرأى ومسمع الجميع، يساهم عمليّا وموضوعيا في تخريب العقول وتدنيس الإحساس وترويج الإنحطاط في أشنع مظاهره وأبشع إفرازاته، وتهديد أركان الحضارات. جريمة موصوفة دون تتبّعات لقد أجمع أهل الذكر في الحقل التشريعي والجزائي (أي القانون بجميع فروعه: المدني، والعام والخاص والدستوري والتجاري والجبائي والعقاري والدّولي...) على قدسيّة القاعدة القانونية المطلقة التي تقول بتناسب الجزاء مع الجريمة وتطابق الجريمة مع الجزاء. وفي هذا المضمار، فإنّ قراءة عامة للتشريعات ونصوص الإحالة القانونية في أغلب بلدان العالم تبوح للجميع بأنّ جريمة الدعارة الموصوفة المقترفة لا يواجهها غالبا الاّ جزَاء نادرًا ما يتناسب مع فظاعتها وخطورتها وتهديدها للنظام الاجتماعي العام وللنّسيج النفسي الشعبي المشترك. ولا يخفى على أحد أنه تلك »الليونة« المسجّلة غالبا ما تكون في غير محلّها، وتمثّل بصورة ما، عاملا من عوامل التشجيع على إقتراف تلك الجريمة، وقد يكون ذلك ما يفسّر إلى حدّ كبير سرّ اتساع دائرة تلك الجريمة وتفشّيها المرعب داخل الفئات الثرية والفقيرة على حدّ السواء، وفي الأوساط المتعلّمة وغير المتعلّمة في ذات الآن... فالتشريعات الجزائية الجاري بها العمل في أغلب بلدان العالم، تجازي مقترف جريمة السرقة الموصوفة مثلا، بعقوبة مماثلة تقريبا لعقوبة جريمة الدعارة، بل أنّ بعض البلدان لا تعتبر الدعارة (أو حتّى الخيانة الزوجية!) جريمة إلاّ في مستوى النص القانوني المدوّن على الورق لا غير. واللافت للنّظر والتأمّل، أنّ التشريعات لا تضمن بالفعل التتبّعات الحازمة الحقيقية، ولا الجزاء المناسب للجرم المقترف، وتترك هكذا الحبل على الغارب، ثمّ فجأة ينتفض الرأي العام وينهمك المجتمع المدني بجميع مكوّناته (وسائل الاعلام مؤسسة العائلة المختصّون مؤسسات التعليم رجال الدين أقلام الأدب أصوات الفكر والثقافة، وحتّى الشعراء!!) في إطلاق صيحات الفزع الحائرة من تردّي القيم الاجتماعية والمبادئ الأخلاقية وإنحطاط السلوك وتفشّي الإنحراف النّوعي، ضمن مسلسل طويل من الندوات والملتقيات والطاولات المستديرة والمستطيلة والمحاضرت والكتابات المدوّنة ذات الخطاب الأخلاقوي الباهت والمشحون بالوعظ الخشبي، الذي ينحصر في أفضل الحالات في إشارات عابرة خجولة وغير معبّرة إلى بعض جوانب المشهد الاجتماعي العام، دون الغوص العلني في تدقيق جذور الملف وأسبابه الحقيقيّة وأخطاره النفسية والاجتماعية والحضاريّة. ... وهكذا، سواءًا بوعي أو بدونه، نكون قد قدّمنا خدمة جليلة (دون مقابل) إلى »دافيد بن ريون« في نهاية المطاف...