لقد أجمعت مكوّنات المجتمع المدني والرأي العام الوطني في بلادنا بل وحتى بعض الأصوات داخل الحكومة المؤقتة الحالية على أنّ الثورة الجماهيرية الباسلة التي أشرقت شمسُها الدافئة ساطعة وهّاجة،، قد تفجّرت في المقام الأوّل لا فقط من أجل كنس جنرال المخابرات الهارب من العدالة بل من أجل مقاومة طغيان دولة الحزب الواحد المنهار وآفة الفساد المدمّر الذي زرعت تلك الدولة بذوره الأولى في بلادنا طيلة خمسين سنة... فالإمبراطورية الأخطبوطيّة المتعفّنة للفساد العارم التي شيّدت أُسسها وأركانها دولة الحزب الواحد على امتداد نصف قرن، قد فتحت العقول والعيون أخيرا على الحقيقة العلمية والتاريخية القائلة بأنّ الزواج العُرفي الاستراتيجي بين السلطة والمال وبين سلطان المال وسلطان الدولة، يمثل على وجه الدقة تكتّلاً طبقيّا استراتيجيا موبوءًا بينهما يندرج بالضبط ضمن الأبجديات الأساسية لماهيّة النظام الرأسمالي الكمبرادوري في بلادنا وطبيعته الطبقية البورجوازية، ونشأته وتغلغله وفساده واستبداده... فالتحليل المادي التاريخي الخلاق لظاهرة آفة الرأسمالية عبر جميع مراحلها يتيحُ أمام العمّال (أوّل ضحايا الرأسمالية) والجماهير الشعبية العريضة والمثقفين والطلائع استيعاب طبيعة بكتيريا الفساد بجميع أنواعه، بأنّه الإبن البيولوجي المباشر للرأسمالية وأنّه ينزرع وينشأ ويترعرع ويستفحل ويتسرْطنُ ضمن التربة الرأسمالية وماهيتها وعقليتها وقوانينها، بل وحتّى ضمن تركيبتها النفسية المجرّدة، ولقد أثبتت كل ذلك في بلادنا أخيرا جميعُ الاحداث والوقائع والخفايا والاسرار والفضائح التي كشفت عنها ثورة الشعب وأماطت اللثام عنها... كما أنّه بفضل ثورة الجماهير الشعبية التي انطلقت شعلتها الاولى من قلب مدينة سيدي بوزيد المناضلة وإثر استشهاد البطل خالد الذكر محمد البوعزيزي، تمكّن جميع التونسيين برجالهم ونسائهم وشبابهم وأطفالهم وشيوخهم وصباياهم، من الاطلاع على هول اخطبوط الفساد العام الذي ظلّ طيلة خمسين سنة ينخر كامل أرجاء البلاد، بفعل امبراطوريّة مالية متورّمة داخل أجهزة الدولة القائمة وحولها، وطغمة عائلة الجنرال الهارب وأصهاره وأقاربه الى المدى الذي أصبحت معه الامبراطورية المالية والطغمة العائلية تمثّلان معًا الرأس المشترك المدبّر لجميع أنواع الفساد المالي والأخلاقي والنهب المنظم والسّلب والاستيلاء والتحيل والرشوة والتهريب والمضاربة... وسوف يبرهن لنا التاريخ مرّة أخرى، أنّه لا يمكنُ للشعوب المضطهدة مكافحة آفة الفساد وتفكيك قواعده وخلاياه العلنية والنّائمة والخفيّة إلاّ بمقاومة الرأسمالية (أمّة البيولوجية) وأركانها وقيادة أركانها وتفتيت بُنَاهَا التحتية والفوقية، والنّضال الشعبي الدؤوب لمكافحة أفيونها الفكري وتعبيراتها الفلسفية والسياسيّة المتخلفة المعادية للشعب والوطن.. وتطويق خطابها الثقافي والسياسي الغارق في أوحال الرجعية فالثورة الشعبية التونسية مثل جميع ثورات الشعوب الأخرى.. لم تتفتّق إطلاقا من أجل »تعديل« امبراطورية الفساد أو »مداواتها« أو »اعادتها إلى السّراط المستقيم«... اطلاقا لا!! بل إنّها انخرطت ضمن بوتقة حركة التاريخ ودفعت بعطائها الثوري البنّاء أنفاسها ودماءها وشهداءها البررة البواسل من أجل الحرية والسيادة الشعبية والكرامة الوطنية والعدالة الاجتماعية الكاملة.. عبر النضال الدؤوب من أجل مقاومة الفساد وبنياته وهياكله ورموزه.. والقضاء عليه من جذوره... ❊ لُصوص القرن سقطوا... واللّصوصيّة مستمرّة إنّ الفضائح والجرائم المالية والاقتصادية والأخلاقية وجنايات الحق العام التي اقترفها اخطبوط أركان النظام البائد وبطانته وزبانيته والتي كشفت عنها ثورة الشعب في المقام الأوّل لا تمثل في الحقيقة سوى الفصل الرئيسي العلني والذراع الرسمية المعلنة من امبراطورية الفساد التي كبّلت أنفاس بلادنا طيلة أكثر من نصف قرن... كما أنّ الكشف العلني عن الرؤوس المدبّرة لتلك الامبراطورية الموبوءة، لا يعني على الإطلاق اختناق أصابع تلك الامبراطوريّة أو نهاية الفساد... اطلاقا لا!! فنظام حزب الدستور بدولته وأجهزته وجنراله الهارب من العدالة وعائلته الموسّعة الضالعة في الجرائم لم يروّج فقط الفساد المالي والاقتصادي المدمّر.. بل اقترف أيضا جرائم ترويج الفساد الثقافي والاخلاقي الهدّام وهو أشدّ خطورة وأبلغ تهديدا وأعمق تأثيرا مدمّرا على العقول والاذهان والنفوس والسّلوك الاجتماعي العام والنّسيج النفسي للمجتمع.. بما أنّه يغتال الهويّة ويدنّس الاخلاق الرفيعة وينسف المشاعر البشرية.. فالانتفاضة الثورية التي تفتّقت أزهارُها فوّاحة في بلادنا.. جاءت في المقام الأوّل لمقاومة إمبراطورية الاستبداد ومكافحة أوكار الفساد الذي أنتج الرشوة والظلم والقهر والمضاربة والنهب المنظم واللصوصية المنظمة التي مازالت الى اليوم تعيث فسادا في كامل أرجاء بلادنا وتحتفظ الى اليوم بمنظومة أوكارها الأخطبوطية، العلنية منها والخفيّة.. بما يبرهن أمام الجميع على أنّ كبار اللصوص المعروفين قد سقطوا بين أيدي العدالة ولكنّ آفة الفساد بجميع مظاهره وأنواعه مازالت متواصلة وأنّ مكافحته وتطويقه ومقاومته سوف لا تنتهي غدا أو بعد غد بل إنّها تحتّم وجوبًا على جميع قوى الثورة وأصدقائها وأنصارها وكل مكونات المجتمع المدني المتحرّر.. أعلى درجة من درجات التكاتف الفعّال والنضال المشترك والحزم الدائم واليقظة الثورية المستمرّة. ❊ مأسسةُ الفساد ولّدتْ المآسي: لقد كشفت ثورة الشعب على أنّ آفة الفساد لم تكن إطلاقا طيلة خمسين سنة ظاهرة عابرة أو منعزلة أو فردية أو عرضيّة بل هي ظاهرة مرضية هدّامة متأصّلة في جوهر كلّ نظام رأسمالي استبدادي.. بل تمثل بكتيريا اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية تنخر جسد كل نظام بورجوازي وأركان دولة الفساد كما كشفت ثورة الشعب على أنّ بكتيريا الفساد العارم في بلادنا تندرجُ عضويا ضمن امبراطوريّة اخطبوطيّة متعفّنة متكاملة ومنظمة.. تشمل شبكات متّصلة ومنفصلة من الأوكار والمؤسسات والقطاعات والميادين المحدّدة والجهات والمناطق كما انّّ لا يخفى على أيّ عاقل، أنّ اخطبوط الفساد عندما يتمأْسسُ داخل اجهزة الدولة وحولها وضمن نسيجها الرسمي وشبه الرسمي.. لا يمكن محاصرته وتقليم أصابعه ومقاومته من جذوره بكلّ حزم والقضاء عليه عبر المقاضاة العادلة القانونية، إلاّ من طرف الثورة والشرعية الشعبية المنظّمة... ولقد عاين الرأي العام الوطني طيلة الاسابيع الاخيرة الحجم الهائل من المآسي الفردية والجماعية والعائلية المريرة التي تجرّع علقمهَا طيلة عقود آلافٌ من أبناء وبنات بلادنا على أيدي لصوص القرن الأبالسة من داخل طغمة العائلة المالكة الموبوءة ومن خارجها على حدّ السواء، عبر النّهب المنظم والسّطو الموصوف على الضيعات الفلاحية والأراضي البيضاء والعقارات والاستيلاء بالقوّة على أملاك الغير علاوة على الاعتداء على الاخلاق الحميدة وترويج الخناء والدعارة المقرفة ضمن شبكات علنية وأوكار خفية للتمعّش من الرذيلة وزرع الفساد والانحطاط داخل العائلة التونسية، وهي شبكات العنكبوت الموبوءة الفاسدة التي كان يشرف عليها ويديرها المدعو منجي الطرابلسي، وخنادق المخدّرات المظلمة والارتشاء العلني والتهريب شبه العلني التي كان زميمُها المدعو قيس بن علي سيء السمعة والصّيت، يُديرُ دواليبها وفسادها على مرأى ومسمع الجميع تحت حصانة الجنرال الهارب من الشرطة الدولية وتستُّر العديد من أجهزة الدولة ورموزها بل وضلوعهم المباشر فيها وتمعّشهم منها، مثل بعض الوزراء والولاّة والمعتمدين ورؤساء البلديات ومديري البنوك التجاريّة... فلقد انشأت امبراطورية الفساد طيلة عقود متتالية التربة البشرية والنفسية والمادية الملائمة لتغلغلها وتوسّعها، حتّى توغّلت بصورة مرعبة وأصبحت تمثّل كارثة اجتماعية واقتصادية مدمّرة أدمت قلوب الملايين من أبناء وبنات بلادنا وجرحت شرفهم وكبرياءهم وكرامتهم وأبكت عيون أطفالهم وشيوخهم... فحينما يطلعُ السيد عزالدين بالشاوش، وزير الثقافة والمحافظة على التراث في الحكومة المؤقتة، الرأي العام الوطني بأنّ المدعوان صخر الماطري (زوج إيناس بن علي) وبلحسن الطرابلسي (مؤسس العصابة العائلية) يقفان مباشرة وراء سرقة أكثر من 130 قطعة أثرية نادرة، بعضها من داخل مخازن المعهد الوطني للآثار نفسه.. أفلمْ يعجّل الوزير المذكور فورًا بالاشراف بنفسه على فتح تحقيقات ادارية حازمة داخل المعهد المذكور وداخل هياكل الوزارة ومقاضاة كل الاطراف المتورّطة في تلك السرقات والتّواطؤات، أمرًا وتنفيذًا وتستّرًا.. وتتبّع بلدية الحمامات التي منحت تراخيص بناء على أراض ومواقع أثريّة: فلْنذكّره بصوت عال أنّه وزيرالمحافظة على التراث.