في وطن محتلّ وأصوات مختنقة على حافة الحنجرة، وأطفال حزانى في مخابئهم ينشدون الحرية ويتوقون لتحرير وطن مسلوب. في هذا الزمن العصيب الموحش رحل عنا نجم الكلمة الهادفة الشاعر محمود درويش الذي أراد أن يقهر الموت والمصاعب ويتحدى العراقيل عبر مسالك وعرة رسمها بنفسه واختار لها عالما لا يعرف سره الا من أسس لإرادة لا تعرف الكلل وتأبى الخنوع، لقد أفل نجمه مخلفا فاجعة لا يندمل جرحها لتنبش أحزانا وتعفن أفراحا في زمن تعاظم فيه الشعور بالحزن الذي سكن فلسطين الجريحة والتي عاش لها درويش وعايشها في كل أحزانها وانتشى لانتفاضة أطفالنا اليتامى ونسائها الثكالى وغنّى لفقرائها وجياعها الذين فقدوا رغيف الخبز ولم يفقدوا الأمل في كسر شوكة العدوّ. لقد اعتنق في عمر مبكر وعيا ومبادئ جعلته يعانق القضبان ويشعر بثقل المسؤولية ليجعل ذاته ملكا لفلسطين بل للإنسانية جمعاء لقد فتح نافذته لينظر الى الخارج وفتح عينيه لينظر الى الباطن وما النظرسوى تسلق الجدار الفاصل بينه وبين الحرية. لقد مزق الصمت وقهر سلاسل السجانين وحول المعاناة اليومية الى قصائد شعرية صانعا للشعر الفلسطيني هويّة وساعيا لتحقيق التلاحم بين الرصاصة والكلمة أليس هو القائل: كتبوا على الجدران رقم بطاقتي فنما على الجدران مرج سنابل وحفرت بالاسنان رسمك داميا وكتبت أغنية الظلام الراحل اغمدت في لحم الظلام هزيمتي وغرزت في شعر الضياء أناملي. لقد أحس بتقلص الرقعة وتآكل مساحة الامل والترقب لكن وعيه السياسي وإيمانه بحتمية النضال جعل منه ابنا وفيّا لفلسطين التي سمّاها أمّ البدايات وأم النهايات هكذا كان يتغزل بالوطن وبشعب أبيّ يستحق الحياة الكريمة ويرفض الذلّ والاستكانة مستمدا قوته من معين لا ينضب بعزيمة فولاذية أربكت الاعداء. وكذلك كان أديب المقاومة الذي استقال من منظمة التحرير الفلسطينية على خلفية معاهدة أوسلو لقد أسّس بشعره المقاوم مدرسة شعرية فريدة تألقت وتصدرت المقاعد الامامية العالمية وأغنى رفوف المكتبات بشعر ثريّ المضمون قويّ المبنى وعميق المعاني ليقول ما قاله الشهيد الفلسطيني غسان كنفاني ان المقاومة المسلحة ليست قشرة بل هي ثمرة لزرعة ضاربة جذورها عميقا في الارض ومن هنا كان إيمانه عميقا بجدوى الكلمة التي تشحذ الهمم وتلعب دورا رئيسيا في نشر ثقافة المقاومة التي عاشت له وعاش لها حتى أصبح من الصعب الفصل بين اسم درويش وشعر المقاومة هذا النجم الملتزم بقدسيّة الكلمة وبتعميق الوعي لقد أحب فلسطين وأسال حبر العالم ليدوّن ويخلّد نضال جيل بأكمله بتفاؤل لا يعرف حدودا وبإدراك بصير بأبعاد المعركة وعدالة القضية، لقد صافح الجماهير التي حفظت قصائده التي تغنى بها العديد من الفنانين الملتزمين ومنهم الشيخ إمام ومرسال خليفة كما دفع الثمن غاليا حيث عانق جدران السجون وعاش غربة المنفى رافضا قول المتبجحين بموت المثقف والإعلان بفرح عن انتهاء دوره مؤكدا ان إرادة أطفال الحجارة أقوى من أسلحة الفتك والرعب ولسان حاله يقول »إن هذه الأرض ليست عاقرا بل هي أرض حبلى ولود أنجبت شعراء ومناضلين حُفرت اسماؤهم في الذاكرة أمثال غسان كنفاني، سميح القاسم، عزالدين المناصرة، مروان البرغوثي، ناجي العلي... وارضعتهم لبنا مفعما بحب الارض وغنيا بالتوق الى الحرية وتسلق سلم الإبداع والانتصار لكسر القيود وتجاوز المستحيل لبلوغ فجر مضيء نأمل أن تكون خيوطه قد لاحت في مستقبل غير بعيد وصبح يخبو ظلامه تدريجيا لتخرج الطيور من مخابئها وتنشد حرّة في الاعالي أغان تمسح دموع اليتم والحزن الذي تركه لنا رحيل هذا الشاعر المناضل. ومےهما تعددت كتابات الرثاء والتأبين لا تفي حق محمود درويش هذا الجبل الشامخ في كبرياء وهذه النخلة السامقة المثقلة بآمال أطفال عاهدوا فلسطين الطاهرة على الوفاء لها والإخلاص لمن داستهم الجرافات وأنهت حياتهم رصاصات العدو المغتصب.