في انتظار الوقت لابد لك أن تغزل خيوط حكايتك الخاصة لئلا تقتلك حركة العقارب وتصيرك عبدا لها... في انتظار الوقت كنت أرى خيوط الحكاية ناصعة مثل بياض شعرهم وهم يتوافدون على بطحاء الألم والأمل... بطحاء محمد علي... كانت تلفظهم الشوارع الخلفية فردا... فردا... حكاية... حكاية... كانوا مثل البوارق ينهالون على ذاكرتي فيرجون سكينتها ويلهبون درب الأيام الخوالي لتزفني إلى الاتجاه العكسي للزمن وأجد خطاي تطوف بفورة الشباب داخل مصانع المؤسسة وأزقتها، وأحس انفي يترنح ثملا بروائح نباتات التبغ:»الجافا، البيرلي، الفرجيني، الصوفي...« فتختلط بضجيج الآلات ومحركات الشاحنات وأصوات العمال تعلو صراخا وتخفت قهقهات... أراهم الآن، أبدا، ينثرون الحركة والحياة داخل المؤسسة مثلما ينثر فلاح حب القمح مغمسا بعرق جبينه... في فضاء تلك المؤسسة التي تشبه المصانع الكبرى المنتصبة بأوروبا إبان الثورة الصناعية، كانو يدقون أوتاد الأمل والحرية لئلا تفقد مؤسستهم بعد قرن كامل من تأسيسها رونق معالمها وهيبة هيئتها وتظل دافئة مثل حضن الأم وهي تحضنهم جيلا بعد جيل... أراني هائما وسط دهاليز الأرشيف، لا ضوء يرشدني سوى قلبي لأبصر ملامح الأجيال الأولى التي عملت تحت نير الاستعمار، تلك الأجيال التي كافحت وناضلت ولم تذكرهم سوى روايات بعض ممن عايشوهم... كنت واحدا ممن التحق بالعمل في بداية السبعينيات بقمرق الدخان اين صادقت بعضا من رموز ذاك الجيل المخضرم الذي عمل لفترة تحت الادارة الاستعمارية وعايش المخاضات السياسية الكبرى التي مرت بالبلاد كتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل واغتيال فرحات حشاد والحصول على الاستقلال... جيل نقل إلينا نضالاته وحماسته في التمترس خلف المبادئ... فكنت أسمع عن »الخياري« ذاك النقابي الذي يعتلي صندوقا خشبيا ليُحرق كل الأوراق المتخاذلة وهو يُلهب عمال القمرق بخطبه الفصيحة والبليغة... وأسمع عن »جاء بالله« ذاك النقابي الجريدي الظريف وهو يردد بنغمته الخاصة في جموع العمال :»عَنجيبلكم الحَليب، عَنجيبلكم البريم...« كنت أمتلئ بحكاياتهم ولا أرتوي... أُرَاكمُ تجاربهم داخلي وأطلب المزيد فحالفني الحظ أن عايشتُ في بداية السبعينيات ذاك النقابي المحنك »مصطفى بن عبد الباقي«واستمعت إلى خطب الشيخ الوقور الهادي العويتي والعديد من الرموز الأخرى الذين لم يجلسوا إلى مقاعد الدرس ولكنهم تخرجوا من مدرسة الحياة بامتياز وصاروا معلمين وأساتذة تعلمنا واستفدنا من تجاربهم... اشتد عودنا في مناخ سياسي واجتماعي ملتهب، حيث كان الكفاح الفلسطيني يغذي بذور وعينا السياسي لتتسامق بداخلنا بعد حرب 73 ضد الكيان الصهيوني، وكانت الحركة الطلابية تربك الوضع الأحادي للحياة السياسية بالبلاد، وكذا حركات التحرر كانت تُبشر ببزوغ شمس الحرية على الشعوب المضطهدة لتكتسي حلة العدالة الاجتماعية... لما بدأت الحركة النقابية تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل تستعيد عافيتها تدريجيا من خلال تتالي الإضرابات في قطاعات النقل والتعليم والسكك الحديدية لتنتهي إلى خوض معركة الاستقلالية بالإضراب العام يوم 26 جانفي 1978 بقيادة الزعيم النقابي الحبيب عاشور ويكون المنعرج التاريخي في حياة الحركة العمالية النقابية ببلادنا... كنت واحدا ضمن مجموعة صغيرة من العمال المسكونين بروح الاحتجاج، منا من صقلته براكين الفكر والايديولوجيا داخل أسوار الجامعة، ومنا من اشتد عوده داخل نوادي السينما برؤاها الجمالية ونقاشاتها الثرية... كنا نحمل طموحاتنا وأحلامنا بين ضلوعنا بحثا عن وسائل جديدة لبناء حركة نقابية جديدة بالقمرق، بقمرق الدخان خاصة بعد إضراب مجموعة من العمال الشبان في ماي 76 في سياق إضرابات عامة سادت العديد من المؤسسات والإدارات... إضراب 26 جانفي فتح لنا الطري للالتحام بالعمال وأصبحنا جزءا من الحركة النقابية الوطنية داخل المؤسسة وشرعنا في التوسع والانتشار في صفوف العمال... كنا نتحرك مثل الهواء داخل المؤسسة، واشتدت حركتنا بعد إيقاف مجموعة من العمال كان من بينهم أحد أعضاء مجموعتنا بتهمة "التخريب" وتنامت عزيمتنا وإرادتنا أمام القمع المسلط علينا ونحن المجردون من كل سلاح سوى كرامتنا وإصرارنا على الحرية والحلم... تجذبني خيوط السرد بحبكة الأحداث التي عشتها وتجعل حبر قلمي يسيل إلى ذاك المنعرج الحاسم الذي حولنا من مجموعة عمالية تنشط في السرية إلى وفد تفاوضي ثم هيئة منتخبة، بعد أن تعمدت مصالح المؤسسة نقل احد أعضاء مجموعتنا إلى احد فروع »القمرق« بأقصى شمال البلاد أواخر سنة 1980... انقضضنا على الفرصة لندخل مسيرة جديدة فتحت آمالنا ورصت صفوفنا أكثر أمام الخيبات المريرة ومثلت ساحة القمرق في بعض الفترات امتدادا لمَ يحدث من صراعات بالجامعة وداخل الحركة الطلابية... وكان كلما كبر صيت نقابتنا كلما صارت عرضة للانزلاق في منطقة التجاذبات السياسية والأطر القطاعية الضيقة، وكلما ازدادت شهرتنا كلما أصبحنا محل مراهنة للقوى السياسية لنبلغ مرحلة عسيرة تتالت فيها عمليات الطرد والإيقافات والاعتقالات... بدأ جيل تلك الحركة الاستثنائية يتراجع شيئا فشيئا بفعل ما نخرها من صراعات واختلافات وبفعل ما انهكتها المعارك وبداية بروز جيل جديد اقل حلما واكثر براغماتية حصر العمل النقابي في بعده الخدماتي... كم يلزمنا من الزمن لنُأَجج ما اختمر بذاكرتنا؟ وكم يلزمنا من الصمت لنتوقف عن الحديث حيث لا نرغب في الكلام؟؟؟؟ كان البياض يكتسح ساحة محمد علي والرؤوس تلتحم بالاجساد فرحا بلقيَا قد تكون طال موعدها، وكنت ألملم بقايا ذاكرتي لأنط من سور »القمرق« وألتحق بذاك الاحتفال لأغازل ألوان عيناي وهما يلمحان شباب السبعينيات يتبادلون التحايا والقبل بلهفة وشوق يوم 29 ديسمبر2009... بعد أربعة عقود أراهم يقفزون على خصوماتهم ويُعلُون من روحهم الجماعية راسمين أفقا آخر أكثر إشراقا لجيل اليوم، لعمال ونقابيي القمرق... إنهم مصرون على الحلم حتى وان كانوا قد خلفوا قاطرتهم... فأراهم يدفعونها بشيبهم ويصرخون ملء حناجرهم:»لا تقاعد في النضال... لا توقف في الحلم... لا صمت عن الحرية«... أشكر الصديق الصحفي ناجي الخشناوي على مساعدتي في صياغة هذه الخواطر.