في المركز 2 وبين جدران احدى غرف "المجمع واو" في سجن المرناقية بالعاصمة يوجد شاب في الثلاثين من العمر اسمه "شهيد"(*) محكوم عليه بالإعدام لاقترافه جريمة القتل العمد. شهيد مازال ينتظر تنفيذ حكم الإعدام فيه و فضلا عن ذلك فهو "مثلي" ومصاب بداء نقص المناعة المكتسبة "السيدا"! ربما كان "شهيد" هو الشخص الذي يلخص كل مواصفات وخصوصية "المجمع واو" في سجن المرناقية بالعاصمة ،هذا المجمع الذي يضم بين أجنحته مساجين من صنف خاص جدا يعيشون معاناة السجن معاناة مضاعفة. للوصول إلى "المجمع واو"بسجن المرناقية الذي يضم حوالي خمسة آلاف سجين كان علينا أن نمر بستة أبواب حديدية مختلفة الأحجام والأشكال،ف "المجمع واو" هو بلا شك أكثر أقسام سجن المرناقية خطورة وحساسية بالنظر لإيوائه للمساجين ذوي الوضعيات الخاصة جدا والذين يتوجب حمايتهم ومراقبتهم وتوفير الرعاية وحسن المعاملة لهم" يقول عماد الدريدي مدير سجن المرناقية. يتوفر المجمع "واو" على أربعة أجنحة هي على التوالي "المحكوم عليهم بالإعدام" و"المصابون بالسيدا" و"المثليون"و"المصابون بالأمراض المعدية" فضلا فيما مضى على جناح خاص برجال الأمن المسجونين الذين نقلوا بعد الثورة إلى مكان آخر. هدوء المكان في "المجمع واو" لا تقطعه من حين إلى آخر الا أصوات يخيل لك أنها آتية من بئر عميقة " . انهم يتنادون من حين إلى آخر بين شبابيك الزنزانات و يتواعدون من أجل اللقاء في اللاريا (ساحة الفسحة) يقول أحد الحراس و يضيف في إشارة إلى المربع الذي يغطيه العشب الأخضر الذي تفتح عليه كل أبواب أجنحة المساجين "هنا يخرجون أربع مرات في اليوم في الفسحة اليومية ولتعدادهم اليومي الذي يقوم به مسؤولو المجمع". انتظار و انتظار ... وانتظار التعداد اليومي و الفسحة في "اللاريا" عادة يومية يكررها "شمس الدين" منذ 16 سنة وهو المحكوم بالإعدام بتهمة قتل العمد و الذي ينتظر تنفيذ حكمه. من المفارقات أن شمس الدين( 39 سنة ) والذي دخل السجن وعمره 23سنة بعد أربع سنوات إيقاف مازال يحافظ على بعض بريق الشباب ."سلمت أمري لله" يقول شمس الدين وعندما سألناه عن شعوره وهو ينتظر الموت قال "انه لم يعد يفكر في الأمر" ويضيف " عندما تعود بي الذاكرة إلى يوم الجريمة التي قتلت فيها رجلا و سلبته أمواله و سيارته اعتقد أن شخصا آخر قد ارتكب الجريمة .. لست أنا !.. هذا شخص مغاير لي و لا ينتمي لي.. اليوم أنا إنسان آخر غير الشاب المتهور الذي كان ينهب و يسرق..أنا مقتنع أني ارتكبت جرما وأدفع ثمنه.. أنا لم ادخل السجن من أجل لاشيء". تجنبنا الحديث مع شمس الدين في تفاصيل يوم الجريمة التي تعود الى ستة عشر عاما حيث يكتفي الكهل بالقول "كنت محبطا".يفضل شمس الدين الحديث في الحاضر والمستقبل ليقول "أقضي وقتي في قراءة القران و في الرياضة والصلاة" وحول ما إذا كانت العبادات ملجأ له يقول شمس الدين" لو كنت أصلي يوم ارتكبت الجريمة لما قمت بما قمت به" وحول علاقاته مع السجناء يقول شمس الدين"السجن ليس جدرانا .. انه أناس و علاقات و عالم مغاير لعالمنا الخارجي عليك أن تتكيف و تتعايش معه فحياتي أصبحت هنا و يجب أن أقبل هذا الأمر". "الاعتراف و المصالحة مع الذات " هكذا يفسر مدير السجن حالة شمس الدين وهو نموذج لحالات أخرى و لكنه للأسف لا يمثل كل الحالات الأخرى من المحكوم عليهم بالإعدام الذين مازال البعض منهم لم يقتنع حتى بعد مرور سنوات أن حكمهم كان عادلا كحالة الشاب محمد (37 سنة ) الذي قام بقتل زوجته و أمها في ليلة واحدة في ربيع 1998 ، محمد يقول انه "لم يهضم الحكم بعد وهو على وقع الصدمة منذ سنة 2000 تاريخ الحكم عليه". وعن يومياته في "المجمع واو" يقول محمد "أنا اعيش في غرفة فيها 23 محكوما بالإعدام ويقتصر يومي على التعداد اليومي للمساجين والخروج للفسحة و النوم وحكايات السجناء المكررة في انتظار أن يحل علينا سجين جديد يحمل قصصا جديدة". "الانتظار" هو الكلمة المفتاح لل 78 محكوما بالإعدام في المجمع "واو" في سجن المرناقية وهو السجن الرئيسي الذي يضم أكبر محكوم عليهم بالإعدام في الجمهورية يقول مدير السجن "عماد الدريدي" ويضيف "البعض منهم بات مقتنعا انه لن ينفذ فيه حكم الإعدام لتعطيله في تونس رغم عدم وجود تشريع قانوني يلغي حكم الإعدام والبعض الأخر يريد من خلال حسن سلوكه التخفيف من حكم الإعدام الى السجن المؤبد و لم لا يطمح البعض الاخر الى التخفيف من المؤبد يوما ما استعدادا "للسيفيل" وهو العبارة التي يستعملها المساجين للإشارة إلى الحياة خارج السجن". يذكر أن آخر حكم بالإعدام نفذ في تونس تم شنقا على الناصر الدامرجي الذي عرف ب "سفاح نابل" سنة 1992 في سجن 9 أفريل وهو آخر حكم إعدام ينفذ زمن الرئيس السابق زين العابدين بن علي "و نحن نتابع تطورات الجدل حول حكم الإعدام عبر كل وسائل الإعلام التي تصلنا بكل دقة يقول"شمس الدين". بغض النظر عن الجدل في شان تطبيق عقوبة الإعدام في تونس فان أمرا ما حدث بعد الثورة لهذه الفئة من المساجين حيث بات يسمح لهم منذ شهر فيفري الماضي بالزيارات العائلية التي كانوا محرومين منها لمدة أكثر من خمسين عاما "عندما زارتني لأول مرة أمي بعد حوالي ست عشرة سنة لم تعرفني ولم اعرفها .. بقينا ننظر إلى بعضنا كالغرباء قبل أن تنفجر هي بكاء و أتبعها أنا " يقول شمس الدين. قضبان و فيروس من المفارقات أن المحكومين بالإعدام في "المجمع واو"هم السجناء الأكثر انضباطا ورأفة" يقول الحارس عبد الواحد العياشي و يضيف "ما يثير تخوفنا نحن كأعوان هم المصابون بداء نقص المناعة المكتسبة الذين خصصنا لهم غرفا خاصة" و يضيف عبد الواحد "طبعا نحن مقتنعون أننا أمام ضحايا مجتمع يجب رعايتهم والإحاطة بهم صحيا ونفسيا لأننا أمام فئة من مجتمعنا .. انهم تونسيون منهارون يجب الوقوف معهم في محنتهم". في مكتب صغير يطل على ساحة الفسحة "بالمجمع واو" جلس أمامي "ع.س"(52 سنة) . كان كهلا شاحبا محبطا كلية ينظر إلي من خلف نظرات طبية بعينين تائهتين يختلط فيهما الرجاء باليأس وخاطبني قائلا" أنا مصاب بالايدز منذ سبع سنوات ومحكوم بثماني سنوات بقي لي منها 3″! "قضبان السجن و فيروسات الايدز اتحدتا ضدي"هكذا يعلق "ع.س" و يضيف "لا ادري تحديدا من أين جاءني المرض و لكني كنت من المستهلكين للمخدرات و خاصة في فترة غربتي الأوربية التي قضيتها بين ايطاليا وفرنسا". عن كيفية اكتشافه للمرض يقول "ع.س" كان ذلك سنة 2008 عندما تبرعت بالدم في احدى سيارات التبرع في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة . بعدها بأيام وصلني عبر البريد مظروف به الجملة التالية "أنت مصاب بفيروس نقص المناعة المكتسبة و عليك الاتصال بمستشفى الرابطة ( مستشفي بالعاصمة) في اقرب وقت ممكن". أمام حالات مرضى نقص المناعة المكتسبة المسجونين والذين يبلغ عددهم 15 شخصا في "المجمع واو" في سجن المرناقية "تقوم إدارة السجن حسب مديرها عماد الدريدي بكل جهودها الممكنة من اجل رعايتهم صحيا و نفسانيا وخاصة توفير العلاج و المراقبة الصحية لهم " فنحن أمام حالات إنسانية استثنائية تتطلب رعاية وقربا أكثر منهم مع ما يمكن أن يترتب من أخطار بالنسبة لبعض الأعوان " يقول مدير السجن. "عليك أن تتصور أن منحة التامين على المخاطر في مثل هذه الحالات لا تتجاوز السبعة دينارات شهريا" يقول العون محمد ناجي السالمي ليضيف" منذ فترة تعرضت لجرح على سبيل الخطأ بسبب آلة حلاقة تركها احد المرضى وتطلب مني الأمر إجراء تحاليل وفحوصات من أجل التثبت من أني لم أصب بالداء متمنيا طبعا الشفاء لكل مرضى المجمع الذين لا ذنب لبعضهم إلا أنهم لم ينتبهوا بالقدر الكافي لإمكانية العدوى". اذا كان غالبية مرضى السيدا في "المجمع واو" مصابين بسبب تداول حقن المخدرات بين أكثر من شخص أو بسبب علاقات جنسية دون واق ذكري فان حالة الشاب "سيف الدين"(25) هي نموذج لعبث الأقدار فالشاب الذي ينحدر من العاصمة انتقل إليه المرض عن طريق والدته المصابة بالايدز منذ ولادته. "سيف الدين" الذي أصبح فيما بعد من المساجين الذين ينطبق عليهم تصنيف "العود" أي الذين عادوا إلى السجن بعد أن قضوا عقوبة سجنية سابقة وعمره آنذاك حوالي عشرين سنة يقول عنه احد مسؤولي السجن "في تلك الفترة جاءني إلى مكتبي في سجن 9 أفريل. كان شابا وسيما و أنيقا و خاطبني بلهجة طفولية و قال لي لا تلمسني يا سيدي فاني مصاب بالسيدا"! من الواضح أن الشاب الذي جلس إلى جانبي في "المجمع واو" أصبح اليوم من المتعايشين مع مرضه بل انه تحول إلى مرحلة ثانية من التمرس مع الحياة السجنية و أثارها السلبية عبر ما يعرف ب "العنف الموجه إلى الذات" وهو الأمر الذي تكشفه كل بقايا الجروح على ذراعيه. لم يختر سيف الدين أن يصاب بالايدز "ومن واجبات المجتمع والدولة ان ترعى مثل هؤلاء وتوفر لهم الظروف في فترة السجن و خاصة ما بعدها" يقول مدير السجن عماد الدريدي و يضيف "الإدارة السجنية و بالتعاون مع الجمعية التونسية للوقاية من الأمراض المعدية تقوم بمهمة كبيرة في السجون عبر توفير كل الأدوية اللازمة لوقف تكاثر فيروسات الايدز داخل أبدان المساجين". ما وراء آية الصبر قد تكون الرياضة أو الورشات أو الدين أو حكايات السجن المكررة بلسما وقتيا لكل هؤلاء المساجين من اجل تمضية الوقت غير أنهم يجيبونك عن الحل الجذري لهم بكلمة الصبر وهي الكلمة التي نقشها أحد المساجين على أحد جدران "المجمع واو" راسما مسجدا أبيض من خلفه سماء زرقاء و آية من الفرآن الكريم … من المفارقات أن كاتب هذه الآية ورسام المسجد لم يكن إلا "سمير" أو "سميرة" احد رموز غرفة المثليين التي توجد في "المجمع واو" وهو يقضي عقوبة بعشر سنوات قضى منها حتى ألان ستة. فالمثليون الذين يبلغ عددهم 28 شخصا في "المجمع واو" سجن اغلبهم في قضايا تتعلق بالحق العام غير ان حالة "أمير" أو "أميرة" (29 سنة ) والذي كان يعمل حلاق نساء في احد أرقى أحياء العاصمة تثير التساؤل إذ يقول الشاب الذي يحمل كل مواصفات الحركات الأنثوية "لم ارتكب جرما غير ان هناك من لفق لي تهمة ممارسة الفاحشة" . و يقول امير "لا ذنب لي إلا كوني مثليا وانا مقتنع بسماحة القاضي الذي سيعيد النظر في قضيتي في أواسط أكتوبر .. يجب أن يتقبلنا مجتمعنا ..إلى متى سنظل منبوذين ؟". أجبرت التراتيب السجنية "أمير "على قص شعره الطويل غير انه مقتنع أن مكانه الحقيقي ليس هنا في السجن و لا حتى خارجه في شوارع تونس "مكاني الحقيقي – يقول أمير- في لندن .. فهناك يمكن ان أعيش حريتي". التراتيب السجنية تقر بوضع المثليين في "المجمع واو" في غرفة واحدة خشية تعرضهم للمشاكل ولاعتداءات من قبل بقية المساجين وهي غرفة "يرغب فيها كل المساجين المثليين في بقية سجون تونس" يقول "زياد"(20سنة) والذي طلب نقلته من أحد السجون الأخرى إلى سجن المرناقية. بخلاف "أميرة "فان زياد و على الرغم من حداثة سنه يبدو مثليا بسمات رجولية و هي حالة غالبية المثليين الذين يتطلب تصنيفهم وإدماجهم في "المجمع واو" إقرارهم الإرادي بتوجهاتهم الجنسية المغايرة وهو أمر يثير إشكالا في التشريعات التونسية التي مازالت تقر بعقوبة سجنية للممارسة الجنسية المثلية على الرغم من مصادقة تونس على كل المواثيق الدولية التي تقر باحترام الاختلاف الديني و الجنسي والعرقي. ربما تكون في تفاصيل اللوحات الحائطية التي رسمها "سمير" على جدران "المجمع واو" والمعبرة عن اتساع البحر و مشهد الغروب و سفر السفن وخضرة الطبيعة رسائل واضحة و خفية لهذه الفئة من المجتمع التي تريد أن تكون جزءا منه وهي رسائل تنطبق على كل المقيمين و لا ريب ب"المجمع واو" والذي غادرناه دون أن يتسنى لقاء مساجين الأمراض المعدية .. ربما يكون الأمر مفهوما في ظاهره و لكنه رمزيا يحمل كل معاني خصوصية "المجمع واو" هذه الخصوصية المبنية على الخوف واستبعاد الآخر المختلف و المحرم و المريض .. لا اشك أيضا أننا إزاء نموذج مصغر لمحرمات وأمراض ثقافتنا العربية الإسلامية قبل أن تكون محرمات وأمراض المجمع "واو" أو أي مجمع آخر. _____________________________________________________________________________________ (*) غيرنا اسماء كل من تحدثنا عنهم في الريبورتاج أو اقتصرنا على الأسماء دون الألقاب لدواعي تتعلق بخصوصية السجناء واحتراما لذواتهم المعنوية.