بعد يومين داميين في اسطنبول لم يتردد أحد كتاب الاعمدة في جريدة حريات التركية، الجريدة الاكثر انتشارا في تركيا في الاعلان عن بدء اعتصام ميدان تقسيم اسوة باعتصام ميدان التحرير الشهير الذي أسقط نظام حسني مبارك في مصر. بالتأكيد نحن نشهد أكبر امتحان لرئيس الوزراء التركي رجب طيب اردغان الذي يقود الحكومة في تركيا منذ مارس 2003. لا أحد بامكانه ان يشبه النظام التركي الذي تقوده حكومة حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الاسلامية باي من حكومات ما قبل الربيع العربي الاستبدادية. و لكن ما هي مشروعية مطلب اسقاط نظام اردغان في تركيا؟! بعد انتخابات سنة 2003 تمكن حزب العدالة و التنمية من تجديد انتصاره في دورتين اخريين في سنة 2007 و سنة 2011. و خلال الدورات الانتخابية الثلاث تمكن حزب العدالة و التنمية من احكام سيطرته على مقاليد البرلمان و تقليم اظافر المؤسسة العسكرية التي ظلت الى وقت قريب القوة الاساسية في السياسة التركية. عمل اردغان على خلق توزان هش مع المؤسسة العسكرية في البداية قبل ان يقوم بمقتضى الصلاحيات و التحويرات الدستورية العديدة من تدجين ما اعتبر دوما في تاريخ تركيا بالحارس الامين لقيم الدولة العلمانية الاتاتوركية. غير ان تحديد دور المؤسسة العسكرية و تقليم اظافرها لم يؤد بالضرورة باردغان الى التخلي عن القيم العلمانية التي تأسست عليها تركيا الحديثة. لم يتوقف اردغان في كل مناسبة عن التذكير بوفائه والتزامه بقيم الجمهورية العلمانية التركية كراعية للحريات و للدولة المدنية ولحرية التدين في تركيا. في مكتبه الحكومي،في قاعة الاجتماعات التي يجتمع فيها بوزرائه كل اسبوع تنتصب وراء ظهر اردغان صورة مؤسس تركيا العلمانية الحديثة مصطفى كمال اتاتروك. في الحقيقة تولد اقتناع من قبل الاسلاميين الاتراك مع مرور الوقت انه لا سبيل الا بالسير على النهج الذي رسمه اتاتورك من اجل تطوير تركيا و اخراجها من التخلف و الحاقها بالامم المتقدمة. لهذا السبب بالذات تواصل السعي المحموم من قبل اردغان نفسه و طوال العشريتين الاخيرتين من اجل دعم جهود تركيا في الانضمام الى الاتحاد الاروبي و الحضوع لكل الاملاءات و الشروط التي فرضها الاتحاد الاروبي على انقرة من اجل احترام حقوق الانسان و في مقدمتها حقوق الاقليات و تدعيم الفصل الكامل بين الدولة و الدين. فتح الاسواق التركية و الاصلاحات الاقتصادية مكنت تركيا من تحقيق نسب نمو غير مسبوقة ورفعت من الدخل الفردي للمواطن التركي و جعلت من اسطنبول مدينة عالمية مفتوحة تحتل المراتب الاولى في كل التصنيفات العالمية للمدن الاكثر انفتاحا و حرية و تنوعا و ازدهارا اقتصاديا. ليس غريبا ان تختار الفيدرالية الدولية لحقوق الانسان و التي تعتبر اكبر منظمة حقوقية في العالم عقد مؤتمرها السنوي اواخر الشهر الماضي في اسطنبول العاصمة الاقتصادية لتركيا. هناك اقرار دولي ان تركيا تسير في النهج الاقتصادي و السياسي الصحيح. و اذا استثنينا ارادة بعض اللوبيات الدينية داخل حزب العدالة والتنمية و بعض الجماعات الصغيرة المتطرفة التي تريد مزيدا من مظاهر الاسلمة في تركيا فانه لا شيء يدل على قدرة الحزب الحاكم على الرجوع بتركيا الى الوراء و اتباع النماذج الاسلامية الفاشلة. مما لا شك فيه ان المطالب التي انطلقت منها الاحتجاجات في اسطنبول لا علاقة لها من قريب بكل المطالب في الحرية و الكرامة التي انطلق منها ما اطلق عليه بثورات الربيع العربي. كما ان ربط الاحتجاجات في تركيا بدعم تركيا للجماعات المسلحة في سوريا لن يؤدي الى نفس النتيجة التي تعيشها المدن السورية اليوم. بالتأكيد ان هناك شماتة من قبل الداعمين لنظام بشار الاسد في الحكومة التركية غير ان مصاعب الحزب الحاكم في تركيا لن تنفرط الى حرب اهلية ولا الى تغييرات جوهرية. هي فقط مصاعب مؤقتة مرتبطة بالزمان و المكان. ما يجدث في اسطنبول لا يمكن ان يحدث ثورة و لكنه من الممكن ان ينتج ازمة سياسية. كما ان ربط مصاعب حزب العدالة و التنمية في تركيا بالمتاعب التي تواجهها الاحزاب الاسلامية الاخوانية او التقليدية هو ربط مخل. اذ لا يمكن مقارنة المطالب الاحتجاجية في مصر بضرورة اسقاط نظام الاخوان مثلا بانهاء نظام العدالة و التنمية في تركيا.فالعدالة والتنمية التركي على خلاف الحرية والعدالة الاخواني المصري لم يبق له من اسلامويته غير الجذور. لكل هذه الاسباب نعتقد ان القول بان احتجاجات ميدان تقسيم في اسطنبول هي ثورة ضد حكومة اسلامية قول مجانب للواقع. تركيا ليست ايران الاسلامية و لكنها ايضا ليست فرنسا العلمانية. في تركيا تجربة ديمقراطية لا احد يشك في متانتها و تقاليدها الراسخة. صحيح ان اردغان يعيش اياما صعبة و امتحانا عسيرا مع الشباب الغاضب و لكننا لا نعتقد اننا على ابواب ربيع تركي بالمعنى الثوري للكلمة. نعم ربما تكون هناك ازمة و لكنها بالقطع لن تقلب موازين المعادلة الديمقراطية في تركيا. في الايام القادمة سيغادر رجب طيب اردغان انقرة راكبا الطائرة في زيارة الى تونس و بلدان المغرب العربي. لكن لا احد من الممكن ان يتصور ان خروجه سيكون على شاكلة هروب بن علي من تونس. اردغان سيحل بيننا ليجدد لنا قوله الذي ازعج الاخوان المسلمين في مصر من قبل بان العلمانية هي الضامن الوحيد لديمومة الديمقراطية و الوقاية من الانقلابات و الثورات او الفوضى التي تعيشها بعض بلدان ما اطلق عليه اصطلاحا .. بالربيع العربي.