أثبتت تجارب بعض التيارات الإسلامية التي تمكّنت من الحكم خلال العقدين الأخيرين، حقيقة ثابتة وهي أنّ الإسلاميين لا يتغيرّون أبدا ولا يحيدون أبدا عن مناهجهم الدينية حتى وإن لبسوا بدلات أنيقة وربطات عنق جميلة. ففي كل مرحلة يضيق فيها الخناق عليهم لا يجد الإسلاميون حرجا في تدبرّ الأمر من معاجم أدبياتهم خدمة لإظهار قوتهم ولبسط نفوذهم حفاظا على عرشهم، ليثبت أنّ إيهامهم باعتناق الديمقراطية لا يتعدّى أن يكون سوى حركة ميكانيكية في شكل ردة فعل عكسية غريزية تحضر فقط للدفاع عن مصالح مرحلية، ليتم بعد ذلك ترك شعارات المدنية والديمقراطية جانبا للتفرّغ بصفة تامة لإكمال بناء المشروع الإسلامي المنشود. هذه الحقيقة المحاصرة للإسلاميين، تُفهم بصفة أدق مع عودتهم في كل مرة لاستعراض خطابات القوة، ما يستدعي وجوبا على المتلقي، المبعثرة بوصلته، إعادة ترتيب الأفكار بالاحتكام إلى حتمية التاريخ، حينها فقط يثبت أن الخطابات الإسلامية المتعنتة هي نتاج بالضرورة لانحدار أغلب قادة التيارات الإسلامية لحركات لاهوتية شاركت في صراعات قادتها تيارات مسلحة منها الحرب الأفغانية مثلا، لتنطق تلك الصورة الشهيرة التي جمعت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس حركة النهضة الإسلامية في تونس راشد الغنوشي ورئيس الحزب الإسلامي الأفغاني نجم الدين حكمتيار عام 1990 كاشفة استحالة تطور الحركات الإسلامية أو ارتقائها إلى مرتبة الأحزاب الراعية لمتطلبات الديمقراطية. نزعة الاستقواء الإسلامية هذه، يقودها اليوم في تونس وعلى خطى أردوغان زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي الذي يصول ويجول منتشيا حتى الثمالة بتحقيق مغانم لا تحصى ولا تعدّ في المشهد السياسي التونسي. تحركات إسلاموية صرفة مشحونة بالخوف تارة وبالانتصار تارة أخرى، مكّنت الغنوشي من الإصداح في سابقة بتمكّن حركته من السيطرة على مفاصل الدولة كما تملي ذلك أدبيات الإسلام السياسي، لكن وبرغم كل ذلك فان أهداف زعيم النهضة -الذي يبدو أنه بات يعدّ العدّة للتلذّذ بكرسي الحكم في انتخابات 2019- تصطدم في الواقع بحقيقة لا تعكس طموحاته، ليتذيّل الرجل ترتيب آخر استطلاع رأي أصدرته “مؤسسة امرود كونسلتينغ” التونسية ليأتي ضمن آخر الشخصيات التي يثق فيها التونسيون لحكم البلاد. خطابات الغنوشي القصدية الأخيرة اختصرت المسافة وأجابت التونسيين على عدة استفهامات عميقة، فمنذ انتخابات 2014 التي أفرزت تقدّما واضحا للعلمانيين على حساب حركة النهضة، امتلأت الرؤوس في تونس بأسئلة جوهرية لا تخرج مقاصدها عمّن يحكم البلاد؟ بحكم ما أثارته بدعة التوافق بين نداء تونس والنهضة عقب الانتخابات، لتهدي محاولة النداء وبقيادة الرئيس الباجي قائد السبسي الإطاحة برئيس الحكومة يوسف الشاهد فرصة هامة وتاريخية توضّح جليّا معالم الحكم ومن يُدير خيوطه فكريّا وثقافيّا واقتصاديّا واجتماعيّا. وعلى أهمية وخطورة ما توجّهه الأحزاب اليسارية أو المنظمات النقابية في البلاد، وعلى رأسها اتحاد الشغل من اتهامات فحواها أن تونس تُحكم من وراء البحار، وتحديدا من قبل الجهات المالية المانحة الممثلة تحديدا في صندوق النقد الدولي ورئيسته كريستين لاغارد، فإن تحرّكات زعيم حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي، تُوحي بعكس ذلك تماما. من أبرز الاستنتاجات التي تُستشف عقب تمكّن يوسف الشاهد من نيل ثقة البرلمان لقائمة وزرائه الجدد، تكمن حتما في ظهور راشد الغنوشي بحماسة وبكل ثقة مقصودة للحديث عن تمكّن حزبه من التفرّد بالحكم عبر كل إيحاءاته -التي لا يُمكن أن تُخرج عن سياقها كما يتعلل الإسلاميون دائما- بقوله إن النهضة دفعت بكل قوة لتغيير الوزراء الفاسدين وغير الصالحين لإدارة البلاد أو من خلال تأكيده أن حركته كانت المحرّك الأول في التعديل الوزاري أو أنه كان بإمكان النهضة أن تظفر بأكثر عدد ممكن من الحقائب الوزارية لولا تواضعها ومراعاتها لمشاعر بقية الأحزاب المساندة للحكومة. كل ملامح هذه القوة التي يستعرضها الغنوشي لم تأت من فراغ أو بغير حسابات سياسية، بل جاءت في شكل رسائل طمأنة لقيادات حركة النهضة ولقواعدها في ظل حالة الارتباك التي تخيّم على الحزب الإسلامي، بعدما توسّعت دائرة الاتهامات الموجهّة إليه من قبل هيئة الدفاع عن الزعيمين اليساريين شكري بلعيد ومحمّد البراهمي اللذين تم اغتيالهما في فترة حكم “الترويكا”، والتي مفادها تورّط النهضة في تكوين جهاز سرّي تغلغل واخترق كافة مؤسسات الدولة وعلى رأسها الأجهزة الأمنية. ولتبسيط فكرة الجهاز السرّي أو ما يطلق على تسميته ب”الغرفة السوداء” المتضمنة للآلاف من الوثائق التي ربما تثبت تورط النهضة في التجسس على عدد من السياسيين والمسؤولين الأمنيين أو ضلوعها في الاغتيالات السياسية، فان ذلك يعني في أدبيات الإسلاميين أن للحركة ما بعد ثورة يناير جناحا أو ميليشيا مسلحة، لتكون بذلك مسألة كشف الحقيقة ملقاة على الدولة لا فقط على أصحاب الدعوى القضائية، لأنه في حال ثبوت الأدلة التي تدينها فان الديمقراطية التونسية الناشئة ستكون سائرة لا محالة نحو انفجار إسلاموي لا تُحمد عقباه، خاصة أن الغنوشي ما انفك يؤكّد مؤخرا في كل تصريحاته بأن المساس بحركة النهضة معناه دخول البلاد في حرب أهلية. رغم انتشاء النهضة بما ربحت سياسيا، فان هذا الملف الخطير أعاد كل قياداتها رغم صراع الأجنحة صلبها للنهل من أبجديات الإسلام السياسي البدائية بعدما صدّعوا الرؤوس بالتحوّل من حركة تيوقراطية دعوية إلى حزب مدني محتكم للديمقراطية، وكل ذلك ترجمته زلة لسان متعمدة لنائب الحركة في البرلمان محسن السوداني الذي قال حرفيا "كل من يقترب من حركة النهضة يموت بشكل أو بآخر إذا كان الاقتراب غير جيد". خطابات النهضة المستعرضة للقوة والتمترس في الحكم بعد التمكّن لا فقط من اختراق أجهزة الدولة، بل أيضا من اختراق بعض الأحزاب التي تدّعي الحداثية عقب ضمان مساندة شخصيات كانت بالأمس من ألدّ خصومها لحكومة الشاهد، لم تكن مرفوقة على أرض الواقع بما قد يخدم طموحات الغنوشي وليس النهضة، حيث أثبت آخر استطلاع للرأي أنّ شوكة رئيس الحركة الإسلامية ستُكسر شعبيا في المحطات القادمة إن نوى الترشّح للانتخابات الرئاسية عام 2019، ولا يعدّ حصول الغنوشي سوى على 0.5 بالمئة من دعم التونسيين سوى على عدم ثقتهم في من خدعهم فكريّا وسياسيّا مرة أخرى.