منذ خمس سنوات انطلقت في تونس تجربة مميزة وغير معتادة ضمن مهرجان أيام قرطاج السينمائية كان وراءها آنذاك المخرج ابراهيم اللطيف. هذه الفكرة قطعت أساسا مع الارتباط المكاني لعروض الأفلام في قاعات السينما المتاحة للعموم ''الحر"، لتشمل كذلك فئة وفضاء أضيق ضمن الوحدات السجنية المتوزعة على بعض مناطق البلاد. وبذلك أصبحت أيام قرطاج السينمائية بالسجون جزءا لا يتجزأ من المهرجان ككل. صحيح أن النزيل بالفضاء السجني هو مسلوب الحرية وقتيا أو نهائيا، لكنه ليس مسلوب الحق والتفكير والابداع عموما، من هذه النقطة تنطلق فكرة اقامة مثل هذه الفعاليات التي لها وقع كبير على المسجونين مهما كانت القضايا التي حوكموا من أجلها.
من المرناقية الى سجن برج الرومي ببنزرت الى سجن الهوارب بالقصرين الى سجن النساء بمنوبة وغيره من الوحدات السجنية، تتجذر فكرة أخرى داخل السجون التونسية تقطع مع منطق العقاب والردع التي طالما عانى منها الكثيرون ممن ذاقوا ويلات السجون ما قبل جانفي 2011.
في هذه الدورة من مهرجان ايام قرطاج السينمائية بالسجون تمت برمجة 7 عروض لافلام بسبع مؤسسات سجنية متوزعة بعدد من مناطق الجمهورية، وانطلقت اولى العروض من سجن المرناقية يوم الاحد 27 اكتوبر حيث بث فيلم "عرايس الخوف" للمخرج التونسي النوري بوزيد.
منتصف نهار يوم امس الاثنين، كان عدد من نزلاء سجن برج الرومي ببنزرت على موعد مع بث فيلم "فتح الله تي في" للمخرجة التونسية وداد الزغلامي، وقد اختير لمتابعة الفيلم الذي دام حوالي الساعة والنصف 186 سجينا.
لم تشمل متابعة فيلم "فتح الله تي في" السجناء الذين اختيروا للعرض المباشر بأحد قاعات السجن، بل شملت النزلاء المتواجدين بكل الغرف الموجودة بالمؤسسة السجنية.
تعول ادارة سجن برج الرومي على مثل هذه المناسبات حتى تجذر الفعل الإبداعي والنقدي لدى نزلائها من المساجين، علاوة على ما توفره لهم من فرص لانشطة ثقافية وابداعية مختلفة ضمن نوادي متخصصة كالمسرح والسينما والموسيقى ويشرف على تأطير السجناء اساتذة يؤدون زيارات دورية لمتابعة وتقييم الأنشطة.
قبل انطلاق بث الفيلم بدا الجميع وخاصة النزلاء الحاضرون للمتابعة متأهبين لنقاش مستفيض لاحقا، خاصة وان عددا من المساجين قد تفطنوا الى ان عنوان الفيلم يتحدث عن حي شعبي شهير في العاصمة وهو "فتح الله" بجبل الجلود المحاذية لمدينة تونس.
طيلة مدة بث الفيلم الذي دام أكثر من ساعة، ساد الصمت والهدوء المكان ولم يغير هذا المنحى هذا الا ضحكات وتفاعل المساجين الذين اثارهم ردود فعل بعض الشخصيات الرئيسية بالفيلم حول عدد من المواقف.
عموما يروي الفيلم الذي صورته المخرجة وداد زغلامي على امتداد عشر سنوات من سنة 2007 الى سنة 2017، قصة اصرار عدد من شباب حي فتح الله بالعاصمة على تحقيق احلامهم في تجذير فنهم رغم قمع السلطات او ضيق الامكانيات.
بعد انتهاء عرض الفيلم، انطلق نقاش طويل عمّقه اسئلة السجناء الحاضرين للمتابعة المباشرة، وقد بدا واضحا أن بعض المشاهد وخاصة منها التي تحدثت عن السجن وقمع السلطات قد مسّت النزلاء، الى ان صدح صوت احد المساجين بالقول للحاضرين "انصح الجميع وخاصة الشباب بأن لا يوقفوا مسار تحقيق احلامهم مهما كانت المصاعب والمحن وانظروا كيف كان الشباب في الفيلم خير مثال لذلك".
لم تمر كلمات السجين الذي يبدو انه ذو صيت بالغرف السجنية مرور الكرام، بل احدثت نقاشا مستفيضا لم ينته الا بعد اكثر من ساعة.