كانت تونس اولى البلدان السباقة للاحتفال بالمولد النبوي الشريف اليه بعد ابتداعه في العصر الفاطمي و بقيت مناسبة كريمة سانحة للاذكار و التذاكر و تقارب الاباعد و ذلك حتى بعد افول نجم الدولة الفاطمية . عندما احيت هذه التظاهرة الدولة الحفصية ، في مابين القرنين الرابع عشر و الخامس عشر و ذلك في عهد السلطان ابي فارس عبد العزيز الحفصي و الذي كان معروف عليه تشجيعه الاحتفالات الدينية ذات الطابع الفلكلوري من هذا القبيل ، الى جانب اهتمامه باقامة الزوايا و الأضرحة وانشغاله بإبراز الطابع الصوفي له بموالاته لأفكار المتصوفين و الاستئناس بهم في إعمار المجالس . ( يذكر بعض الساردين ان المولد انطلق من القرن الثالث الهجري و اشتهر مع الفاطميين فيما بعد ).
يذكر ابن حجر العسقلاني في هذا السياق مبدئ امر المولد حيث يصفه بانه يوم تطهى فيه نوع من المأكول تدعى السماط و توزع عالدور و المساجد و الكتاب ، يأكله منها المصلون اثر اتمام صلاة الفجر و يخرجون و ينتهي الامر .و ذكر ان بهرجتها عرفتها في مصر في العصر الفاطمي الذين كانوا يقصدون به ، على حد تعبير احد الباحثين ، تأليف الناس حولهم حتى يقبلونهم خاصة و انهم من المذهب الشيعي الاسماعيلي ، و يقول بهذا الرأي كل من قال بظهور احتفالية المولد في القرن الثالث للهجرة .
للطرفة فإن مما وصلنا من جداتنا في تونس ان اهل الريف و البوادي كن نسوتهم يتكحلن و يتسوكن بالسواك ويلبسن الملايا الجديدة يشتريها لهم رجال بيوتهم وفي فجر المولد تحديدا و بعد ان تخبز العصيدة البيضاء ( السماط ) و تحلى بالعسل او عصير التين الشوكي ( الرب بلسان اهل تونس ) . كن اثر ذلك يقفن على اعتاب البيوت و يزغردن حتى تطبق اجواء النجع بالزغاريد و يسمعها البعيد قبل القريب.
المولد النبوي الشريف في العصر الحسيني ..
يكون الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في الزاوية الرياحية التجانية ( سيدي ابراهيم الرياحي ) .
ألف الشيخ رضي الله عنه في سنة 1257 ه نص المولد الجاري به العمل الآن و هو اول من قرأه في الجامع الاعظم و في هذا الشأن يقول الشيخ ابراهيم الرياحي "دعاني الى وضع هذا النص و صرف الهمة الى تحقيق جمعه مع ما رجوت لخدمة المصطفى من التقريب لديه زلفى ما رأيته من امير المؤمنين و امام المسلمين الملك العظيم الكبير مولانا الباشا المشير احمد باي (الحسيني) من الشغف القوي بتعظيم المولد النبوي" .
وجاء نص المفتي سيدي ابراهيم الرياحي اختصارا لنص المولد للسيد مصطفى البكري المسمى "المنهل الأصفى في مولد الرسول المصطفى" و ذلك لما فيه من بعض التطويل المورث للملل و تراكيب يضيق الفكر بفهمها مجالا. ويقول الشيخ الباش مفتي سيدي ابراهيم : "فأردت بهذه النبذة اختصاره على وجه يقطف ثماره فيقضي اوطاره مستعينا بالشاهد الرقيب عليه توكلت. واليه انيب" .
مظهر من مظاهر الاحتفال ..
وتروي لنا المصادر اطوار الحفل المقام بالمناسبة. فبعد قدوم الباي و جلوسه بجانب سيدي ابراهيم عند المحراب يبدأ الشيخ في سرد المولد . و عند بلوغه وصفه الشريف و ذكر وضعه الرفيع المنيف يقف الشيخ و يقف الباي ويتبعهما كل الحاضرين و تعطى حين ذلك الاشارة من مؤذن الجامع الكبير الى الثكنة العسكرية بالقصبة . فتبدا مدافع الحاضرة و الضواحي و حلق الوادي في اطلاق القذائف و على اصوات دويها يواصل الشيخ و الناس قيام سرد الوصف . و عند انتهاء السرد تتلى فاتحة الكتاب و يختتم الحفل بتوزيع المشروبات و رش الحضور بماء العطر .
تثبيت هذه العادة ..
و في هذا الخصوص فإن من الجدير بالذكر ان للزوايا الصوفية الدور الأسمى في تثبيت هاته العادة " الحميدة " كما وصفها شيخ عصره الفقيه ابن عرفة الورغمي التونسي عندما سأله السائلون في هذا الشأن ، ابن عرفة الذي كان معروف عليه بالاخذ بالاعراف المحلية للشعوب و محاولة ملاءمتها مع روح الإسلام وذلك حتى لا تصير الى التعارض مع اصول الدين و اوامره ونواهيه ، و في ذات الحين حتى يؤلف قلوب الناس . و من الجلي ان هذا الأمر - بالعودة للدور الصوفي - غير مستغرب من قبل المتصوفة الذين عرفوا بحبهم لمثل هاته الاحتفالات و المظاهر التي يرون فيها نوع من انواع التزلف و القربى الى المعبود و المحبوب .
احتفالات اليوم ..
في ايامنا الحالية صار اشعاع الاحتفال بالمولد النبوي الشريف لا يقتصر على مظهره التقليدي في المساجد الكبرى في القطر التونسي و شهيرات زواياه بل امتد الامر الى الاحتفالات في الفضاءات العمومية و بتشريك اغلب فئات المجتمع. و صار الاحتفال يكتسي طابع فلكلوري تقليدي أكثر منه طابع ديني صوفي تقربي وذلك بدهول العديد من المظاهر الاحتفالية التي ليست من اصل الامر في شيء من رقصات و اغاني مشتقة من ماضي شعوب المتوسط _ بما ان هذا الاحتفال لا يقتصر على بلدنا فقط _ و ممزوجة بالحان وافدة غربية كانت او شرقية .فتجد في مثل هاته. المناسبات المجال للظهور و البروز .وقد بدأت تجد قبول بين فئات المجتمع.